«جئتُكم بغُصن الزيتون مع بندقيّة ثائر؛ فلا تُسقِطوا الغصنَ الأخضر من يدى».. مرّت نحو خمسين سنة على الجُملة البليغة، وانقضت حياةُ قائلها؛ إنما لم تنقضِ مفاعيلها، وما تزال صالحةً لإنزال فلسطين منزلتها الواجبة لدى العالم، على شرط أن يعيها الفلسطينيون ويأخذوها بحقّها. كان المشهد على منصّة الأُمم المتحدة مُختلفًا ومُلهمًا، فى نوفمبر 1974، وقد وقف ياسر عرفات مُنشدًا كلمته الأولى أمام العالم؛ وكأنه اعترافٌ عملىّ بالمُقاوِم الذى بدا يشقُّ طريقَه إلى السياسة، وصار قادرًا على تلخيص المحنة بما يُوافق أفهامَ العالم، والتصدّى لها بما يُناسبُ غطرسة الاحتلال. عند تلك اللحظة ترقَّى ابنُ عشيرة «القدوة» من مرتبة السائر بين مُتساوين، إلى القائد المُتقدِّم و«القدوة» واجبة الاحتذاء، وكان ختامُ كلمته الأُمميّة خُلاصةً عميقةً تختزل الصراع، بماضيه وحاضره وما يُخبّئه له المستقبل، عندما قال: «الحرب تندلعُ من فلسطين؛ والسلام يبدأ من فلسطين».
قدّم قائد فتح ومُنظّمة التحرير فى سرديَّته المُطوّلة، تأصيلاً شديد الجدية والحصافة للصراع، مازجًا بين القراءة التاريخية، وسيرة التحرُّر فى أفريقيا وآسيا وأمريكا اللاتينية، وتهافُت الرؤية التوراتيّة التى اختطفت أرض العرب تحت لافتة القداسة. كان واضحًا فى حياده أمام اليهودية وخصومته للصهيونية، وفى قبوله لدولةٍ واحدة تحتضن الجميع، رأى أنها «فلسطين» وربما كان يقبلُ النقاشَ فى الاسم؛ لكنّ أهمَّ ما شدَّد عليه أنه يرفض تديين القضية، أو انحرافها إلى مدارٍ عقائدى يرفع العدوُّ تلمودَه فيه وترفعُ المُقاومة قرآنَها؛ إنما هى مسألةٌ إنسانيّة وأخلاقية ووطنية، وتراجيديا فاقعة ابتكرها الغرب؛ عندما أراد الخلاص من اليهود، أو تعويضهم عن قُرونٍ بدأت بالعزل والتنكيل، وانتهت بالمُعتقلات وأفران الغاز.. الخطبة التى تجاوزت 5 آلاف كلمة؛ كانت إيذانًا بخروج فلسطين إلى فضاء الدولة، ولو معنويًّا، واتجاه النضال نحو مساراتٍ أكثر اقتدارًا فى المُوازنة بين السياسة والسلاح.
لعلَّها مُصادفة شديدة الدلالة؛ أن تُعقَد القمَّة العربية الإسلامية غير العادية بعد شهرٍ من عدوان غزَّة، وأن يتزامن الانعقاد مع ذكرى ارتقاء ابن القطاع وبطل القضيّة وشهيدها ياسر عرفات، ويسبق ميقات كلمته سالفة الذكر بيومين فقط.. الرجل بسترته العسكرية العارية من الرُّتب والنياشين، والكوفية التى تُكلّل رأسه وتنسدل كأنها قطٌّ أليفٌ يجلس على كتفه اليُمنى، كان عنوانًا عريضًا للقضية فى الشطر الأهمّ والأعرض من عمرها، فمنذ بزغ نجمه رويدًا أواخر الستينيات وإلى انطفائه أوائل الألفية الجديدة؛ استحال حضورُه المادى الفاعل إلى رمزيّةٍ بلاغية، تُوجِز الحُلمَ فى هشاشته الفاعلة، والقُدرةَ فى تجبُّرها الهامس.. صارت هيئة «أبو عمار» تجسيدًا أيقونيًّا أشبه بشخصية «حنظلة» الشهيرة فى رسومات ناجى العلى؛ فلم يعد مُمكنًا أن تحضر فلسطين بعيدًا منه، ولا أن تُستعاد سيرتُه بانقطاعٍ عمّا أصابها بعده، وما أوردها فيه خُلفاؤه والمُتصارعون على تركته من موارد التهلكة.
تتشاكل وقائعُ اليوم فى «غزّة» مع حكاية عرفات فى الضفّة. إن كانت إسرائيل قد شنَّت عدوانها فى أكتوبر، وتُحكِم الخِناق نحو إبادةٍ شاملة بامتداد نوفمبر؛ فقد حُوصر الزعيم التاريخى فى مقرِّ إقامته، ومُنِع من مغادرة «رام الله» حتى ساءت حالته، فطار للعلاج فى فرنسا أواخر أكتوبر ورحل فى الحادى عشر من نوفمبر. قُتِل ياسر مرَّتين: الأولى عندما اغتالته إسرائيل بالسمِّ على الشائع، وكبَّلت محاولات إنقاذه إلى أن خارت قواه، والثانية عندما ورثته «حماس» قهرًا بقَضْم القطاع وإبعاده عن مجاله الحيوى؛ طمعًا فى الحُكم ولو على حساب المبدأ والمصلحة الوطنية. حفرَ الاحتلالُ قبرَ القائد، وبصقت الحركةُ عليه، وما استفاد الأوَّل من رغبة التسوية الصادقة، ولا وعت الأخيرةُ دروسَ الارتحال التى حملته بالقضية من ضيق الأيديولوجيا والمحاور، إلى براح العقيدة الوطنية والانفتاح على كلِّ الفضاءات والتلاوين.
جاء «أبوعمار» من بيئةٍ أُصوليّة؛ إذ كان ممسوسًا بشىءٍ من لوثة الإخوان. عندما اشتبك مع القضية من أرض الواقع؛ تكشَّفت له تناقضاتُ المسألة الفلسطينية مع دعائيّة الحظيرة الدينية؛ فتخلَّص من الرواسب القديمة وأخلص لبرنامجه التحرُّرى على قاعدةٍ نضالية صافية. واختبر مُناكفات السياسة فى الأردن ولبنان؛ فآمن بالحاجة إلى الغطاء العربى من دون صراعاتٍ صفريّة أو خطابيّات زاعقة. وتلقّته إيران/ الخمينى فى صدر ثورتها باستقبالٍ حافل؛ لكنه تبصَّر فى موقفها رغبةً مُضمرة لاختزال القضية تحت عباءةٍ مذهبية فارسية، تستهدف الإقليم بأكثر ممَّا تنصرُ فلسطين؛ لتتقطَّع السُّبل بينهما ويعود إلى حاضنته الشرعية.. النضج الذى حصَّله من التقلُّبات الطويلة قاده لإنجاز التأسيس الموضوعى للصراع فى ثوبه الجديد؛ فاعترف بإسرائيل وحصل على اعترافها، وفتح بابًا على السياسة والتفاوض، ولَضَم الضفّة الغربية مع قطاع غزّة، وجمعَ أغلبَ الفصائل تحت مظلَّةٍ صافية من التقاطعات فوق الوطنية. لم تستوعب إسرائيل كلَّ ذلك، ولا «حماس» استوعبته أيضًا؛ فتكرَّرت أخطاؤه القديمة دون إفادةٍ من استدراكاته اللاحقة. هكذا تمادى المُحتلّ فى البطش والإلغاء، وسارت الحركةُ إلى تحالفٍ مشبوهٍ مع إخوان مصر، وتوحشَّت فى البيئة اللبنانية، وارتمت على مذبح الشيعيّة السياسية بندقيّةً مُستأجَرة لصالح العمائم السوداء.
لطالما كان نوفمبر بطلاً فى القصّة الفلسطينية. البدايةُ المنظورة عندما أصدر «بلفور» وعدَه المشؤوم فى ثانى أيَّامه، ثم وُقِّعت اتفاقيّة إنهاء الحرب العالمية الأولى فى العام التالى؛ إيذانًا بتثبيت الأجندة البريطانية لاقتطاع فلسطين، ترضيةً أو مُكافأة للحركة الصهيونية وفيلقها المُحارب. وفيه أيضًا قُتِل عزّ الدين القسّام الذى انتحلت «حماس» اسمه لقوَّتها المًسلّحة، واندلعت الثورة الكبرى لنحو أربع سنوات، وفيه صدر قرار التقسيم بالعام 1947، وقرار مجلس الأمن رقم 242 القاضى بإخلاء الأرض المغصوبة فى يونيو 1967 والمُعطَّل إلى اليوم، ثمّ قرار الأُمم المُتّحدة 649 لسنة 1970 بحقّ تقرير المصير، وفى نوفمبر تحدَّث عرفات أمام الجمعية العامة، وأعلن الدولة الفلسطينية من الجزائر عام 1988، وافتتح مطار غزّة الدولى فى 1998 بطائرة مصرية وحضور للرئيس الأمريكى كلينتون، وفيه دُفن الرجل مُختتمًا حقبةً من النضال العاقل، أُديرت فيه البندقية بالدبلوماسية، وتحصَّنت السياسة بالقوّة المضبوطة على ميزان فلسطين وحدها.
أُديرت معركةُ الخلاص من ياسر عرفات؛ لأنه كان أصلبَ من التطويع والابتلاع، وأكثر ليونةً من التأطير والانكسار. اتّهمته إسرائيل بدعم المُقاومة، وأُشِيع أنه يُشرف على تسليح الفصائل ومنها «حماس»، ويمتصّ غضبةَ تل أبيب بتوقيف بعض العناصر؛ ليُدخلَهم من باب المخفر ويُطلقهم من شبّاكه.. إن صحّ ذلك أو لم يصحّ؛ فالمؤكَّد أن الحركة التى تأسَّست على رُكام انتفاضة الحجارة، انتظرت قرابة عقدين حتى ترث مُنظّمة التحرير فى غزّة، وكانت الوراثةُ مشروطةً بأن يغيب وجه فلسطين الأبرز؛ إذ لم يكن ميسورًا لها أن تُنافسَ القائد أو تُطيحه أو تُلوِّث سيرته.. وإذا كانت الأزمةُ الراهنة فرعًا من شجرة «طوفان الأقصى»؛ فإن مُفارقة التئام العرب والمسلمين بالرياض فى سنويّة عرفات؛ كأنها تُعيد الاعتبار معنويًّا للرجل فى مرقده الأخير، وتُشير بإصبعين يُشبهان علامة النصر إلى أن أُفقَ الحلِّ مرهونٌ باستقراء منهجه، واقتفاء أثره، وإخلاص الوجه للقضية دون ادّعاءٍ باهتٍ للزعامة، أو ارتهانٍ كامل للرُعاةِ الطامعين.
الغُول المذهبى الذى تسرّب للمنطقة من جبهة العراق، ثمّ بزغ فى أحراش لبنان، واخترق قلب الأُمويّين وعاصمتهم التاريخية، أخفق فى إلحاق «عرفات» بدائرة الزبائنية؛ فاستعاض عنه بالجهاد وحماس.. المشهد اليوم صارَ مُعقّدًا، وعصيًّا على الإدارة برصاص الفصائل أو كواتم الصوت لدى السلطة. العدوّ لم يعد مُجرّد عصاباتٍ هائجة كما كان فى النكبة الأولى، ولا العالم على حاله وقتما تشقّقت القومية العربية بين البعثّ والناصرية؛ ففقدت دولُ الطوق شرائح من لحمها وجغرافيّتها. إسرائيل صارت دولةً قويّة ومُعترفًا بها من أغلب الأرض، والعرب بينهم، وفلسطين ما عادت قُماشةً واحدةً، وأبناؤها يختلفون فى اقتسام المُقسَّم، ويتنازعون على تركة «أبو عمار» ولم يزيدوها أو يُحافظوا على ما كان منها.. ترهَّلت مُنظَّمة التحرير حتى أنها تحتاج لهيكلةٍ عاجلة، وانزلقت «حماس» إلى الفخِّ الذى حفرته ولا تعرف كيف تنجو، وربما تُعاين مسارًا مُزعجًا، قد يُفضى بها إلى الخروج الكامل أو الجزئى، أو الانزواء تحت رُزمةٍ من المُقترحات والبدائل المُتداوَلة لمُستقبل القطاع. وحدها سيرة عرفات تختزنُ ما يعصِم القضيةَ من الخفوت، وما يُوقف مسارها المتسارع على مُنحدرٍ وَعِر.
تغيّرت ظروفُ الإقليم؛ فصارت المُواجهة الراهنة أخطرَ محطّات الفلسطينيين. فى النكسة كانوا طرفًا بين مهزومين، لا خوف على تصفيتهم طالما كان الفريق عصيًّا على التصفية. وفى 1982 غادروا بيروت فى حراسة البحرية الأمريكية، وما كان «حزب الله» حاضرًا ولا تأتَّى لحركة أمل أن تقضى على المُخيّمات كما تُحبّ. اليوم تخلو المنطقة من توازناتها القديمة، ويتغوَّل الحنجوريون على العقل، وصار الحزام اللصيق بفلسطين التاريخية من شمالها مرتعًا للميليشيات، بوفرةٍ فى التسليح وقُدرة اشتعالٍ شرارتها فى يد الملالى.. أمَّا الكواليس ففيها ما يُثير القلق: قال ترامب قبل يومين إن طهران استأذنته فى ردٍّ محسوب بعد اغتيال قاسم سليمانى، ونسّقت إطلاق ثمانية عشر صاروخًا فى محيط القواعد الأمريكية على ألّا تُصيبها أو تُهدّد حياة قاطنيها. وفى حديثى حسن نصر الله خلال ثمانية أيّام يحضر المعنى نفسه، أنّ «غزّة» ستُباد على قارعة الطريق وغاية ما سيُقدّمه تلويحة لها من مُرتفعات الضاحية؛ كأنه يُطلّ على جنازتها ببكاء مُصطنَع. ونتنياهو وحماس على عدائهما يتبدالان الخدمات: الحركة أعادت بناء الإجماع الإسرائيلى بعد شقاقات الإصلاح القضائى، والنازى الصهيونى رفع أسهمها ووضعها فى قلب المشهد الشعبى؛ حتى لو تشدَّد فى إطاحتها من ميدان الحرب أو طاولات التفاوض. مات «عرفات» بالسمّ العبرى، وبالسموم الشيعية الإخوانية، ويموت اليوم مُجدَّدًا كلما نُحِر طفل من أحفاده فى أرجاء القطاع.
قدّمت القمة العربية الإسلامية ورقةً جيّدة؛ أهمّ ما فيها أنها تُطابق الموقف المصرى الراسخ منذ بداية الأزمة، وتُعزّزه. أشارت لذلك بوضوح فى أحد بنودها، وتبنّته ضمنيًّا فى ثلاثين قرارًا إضافية. لا تلعب القاهرة الدور الأبرز انطلاقًا من شروط الجغرافيا فحسب؛ إنما لأنها تحمل إيمانًا لا يهتز بعدالة القضية وحقوق أهلها، وبأن السؤال الإنسانى فى فلسطين واجبُ الإجابة؛ سواء كانت إثارته تُهدِّد أمنها القومى أو لا تُهدّده. المُفارقة أن «عرفات» ابن مُباشر لمصر، وُلِد وتربّى وتعلّم فيها، وكانت ملجأه الآمن وظهيره الذى لا يخونه، ومنذ التقى «عبد الناصر» منتصف الستينيات أيقن أن الحلّ فى القاهرة، ربما مرّت فى الأجواء سحابةٌ رماديّة بين حين وآخر؛ لكن السماء من النيل إلى نهر الأردن وبحيرة طبرية ظلّت تتحدّث لُغة واحدة. بعض الفصائل انحرفت عن ذلك إلى عواصم أُخرى، فاختبرت القسمةَ الجائرة: الهزائم لها وحدها، والمكاسب تُصرَف لأرصدة الآخرين، وربما تُعاين الصدمةَ القاسية حالما يُبرِم رُعاتها صفقةً على جثّة الأقصى وطوفانه، يبتسم لها شيعةُ لبنان أو حوثيّو اليمن وعلويّو سوريا وحشد العراق.. إنَّ أبلغ رثاء تكفَّل به القدر لعرفات أن تلتئم سبعٌ وخمسون دولةً فى ذكراه، وأن يكون اسمه حاضرًا فى كلمة عباس بالقمّة، وأن نتذكّره كُلّما اشتدّت حُلكةُ الليل وتمشَّى ملاك الموت فى شوارع غزّة. ما أحوجنا إلى أن نستعيد التجربة اللامعة، والاعتقاد الصادق فى فلسطين وحدها، وأن نضع وردةً نضرة على قبر عرفات.