حازم حسين

حرب المفاهيم فى غزّة.. أصولية جارحة ابتدعها التاريخ وتحرسها ألاعيب اللغة

الثلاثاء، 14 نوفمبر 2023 02:00 م

مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
رغم استفحال الأزمة، لا تزال المخارج عديدةً ومُمكنة؛ لكنها رهينةُ التوافق على لُغةٍ مُشتركة. الصراع الدائر فى «غزّة» معركةٌ على المفاهيم قبل كلّ شىء، وكُلفة الدم على فداحتها هى من الأمور التى صارت اعتياديةً من طول تكرارها؛ والمهمُّ أن تُفضِى إلى تفاهماتٍ جادّة؛ لتكون الأثقال الأخلاقية دافعًا إلى الخروج بهندسةٍ مُغايرة، بدلاً من مُواصلة الاحتباس فى النفق نفسه.. المُشكلة أن الطرفين لا يعتمدان تصوُّرًا واضحًا، أو لا يريدان ذلك، ويمضى رُعاةُ كل فريقٍ منهما على طريق الالتباس بصلفٍ أو يقين. وحدها ورقة «الاعتدال العربى» تبدو أقربَ للمنطق، وتضع المُقاربات العملية فوق راديكالية التخويف والابتزاز والخيارات الصفرية. لم يعد الإلغاءُ مُمكنًا، ولا التعايش تحت الأسقف القديمة، وكلّما تهرَّبت أطرافُ النزاع من ضبط الاصطلاحات والتعاريف، صار عصيًّا عليهم المرور لغُرفةِ التفاوض أو لساحة الحسم العسكرى.
 
تُدار المُعضلة الفلسطينية على وجه الجغرافيا؛ بينما الأولى أن تكون فى التاريخ واللغة أوّلاً. يبدأ التأصيل من تخليق إسرائيل، ومن قرار التقسيم والنكبة، ثمّ تأطير الدلالة لمُفردات الاحتلال والمُقاومة والدولة. الحادث أنهم قبل شهرٍ أرادوا أن يبدأ التاريخ عند السابع من أكتوبر: الصهاينة رأوا فى ذلك تكييفًا وجيهًا لسرديَّة الإرهاب والخطر الوجودى، والفصائل اعتبرته مدخلاً لاحتكار القضية واستئصال ذاكرة النضال الطويلة.. عندما دعا الشارع العبرى لابتكار «نكبةٍ ثانية»؛ كان يُواصل سرقة المعانى قبل أن يسرق الأرض، وعندما منحت «حماس» عمليّتها وسم «طوفان الأقصى» كانت تُؤمِّم القضية بأكثر ممّا تُعبّر عن قوّتها الكاسحة. وفى الطابور نفسه: حديث واشنطن عن الداعشية، واصطفاف الغرب فى جوقة الدفاع عن النفس، ورطانة محور المُمانعة عن تسخين الساحات.
استدعاء ورقة التهجير على شرط 1948 إقرارٌ صريح بالإلغاء، وسجن الأقصى فى ماسورة البندقية الشيعية إنكارٌ لإنسانيّة القضية، وشعبوية الدعم على صيغة التشجيع فى مُدرَّجات الكُرة انحيازٌ لمنطق الإطاحة الكاملة من الملعب.. الأصل أنّ ما حدث قبل خمسٍ وسبعين سنة جريمةٌ تستوجب الإدانة والتعويض، وأنّ نضالات الفلسطينيين أطول عمرًا من فصائل «غزّة» وداعميها، وديون الغرب للحركة الصهيونية تُسأل عنها عواصمهم ولا منطق فى سدادها من رصيد العرب، ثمّ إن الحلم الفارسى العائد من موتٍ طويل ليس له أن يستتر بالكوفيّة، وقد شوَّهت رأسَه العمامةُ السوداء.. الدولة العربية التى أقرّها قرار التقسيم 181 لسنة 1947 لم تتحقَّق، ومن ثمّ فإن الشرعية القانونية لإسرائيل منقوصة وقد تأسَّست على النصّ نفسه، والاحتلال القائم منذ 1967 بانتهاكه الطويل لقرار مجلس الأمن 242، يُقوّض حقّ استخدام القوّة فى نطاق الأمن والدفاع المشروع عن النفس؛ طالما لم يُمكِّن الآخرين من حقوقهم، والمقاومة مكفولةٌ بالمواثيق والأعراف الدولية، ولا وجاهة فى انتقاد خروقاتها؛ ما دام الخرقُ الأصلىُّ المُنشئ لها قائمًا.
 
أخرج الغربُ النزاعَ من سياقه القانونى والإنسانى، وألبسه معطفًا أيديولوجيًّا وثقافيًّا يخصّه بأكثر ما ينتمى لبيئته الأصيلة. فى الظاهر يرون أنّ إسناد الدولة العبرية إنما هو دعمٌ لنموذج حضارى غربى فى مُحيطٍ من البدائيّة العربية، وقد عبَّر كثيرون من ساستهم ومُفكّريهم عن هذا المعنى؛ وفى العُمق يُمكن القول إنه خضوعٌ دائم للابتزاز من زاوية التكفير عن «الهولوكوست»، أو تسوية مُلفَّقة لرغبة الخلاص من الهيمنة اليهودية فى المجال الأطلسى، وكانت المسألة مطروحةً بقوّة ما قبل «وعد بلفور» ومع صيغة الجيتوهات، أو قرارات حظر استقبالهم كما جرى فى بريطانيا. وزراء أُوروبّيون صرَّحوا بعنوان الاتصال الثقافى، ولم يغب عن حديث قائد قوات الجو الألمانية إنجو جيرهارز، وهو جالس على «شيزلونج» أحد مُستشفيات تل أبيب، ليتبرَّع مع الدم برسالةِ دعمٍ صارمة لإسرائيل عمومًا، وجيشها وطيَّاريها على وجه الخصوص. ما لم يتحرَّر الاشتباك «الصهيو-فلسطينى» من التدليس ومُراوغات المفاهيم؛ فقد لا تسكت البنادق أو تتبدَّد الحرارة الحارقة.
 
على الضفَّة المُقابلة؛ تنشط معاقل الأُصوليّة الإسلامية فى سَلب فلسطين ورقتها الحقوقية العادلة، وتديين القضية إمَّا لصالح الأجندة الإخوانية، أو لخدمة الأذرع الميليشياتية لدى فريق المُمانعة. تُمثِّل الصبغة العقائدية فرصةً ذهبية للحشد والتأثير العاطفى، وهى فى ذلك لا تُنافح عن الأرض وساكنيها، بل لا تُقاوم العدوّ وتصطدم به؛ بقدر ما تسعى لإحراج العواصم العربية الوازنة، واستهداف بيئاتها الداخلية؛ من بوّابة إشعال المحرقةِ ثمّ لومهم على أنهم لم يقفزوا فيها.. تحرير المفاهيم يحرم المُزايدين من لعبتهم السهلة؛ إذ الجوهر أننا مع فلسطين لأنها حقٌّ ثابتٌ بالتاريخ والقانون، ومع أهلها لأنها محنةٌ إنسانية صافية وصادقة، وليس لأننا فى نفرةٍ إسلامية ترفع القرآن أمام التوراة.. تصفية المجال اللغوى من تلك التقابلية الرخيصة، يُسقِط لافتة «يهودية الدولة» التى ترفعها إسرائيل؛ لأن أحدَ مُبرِّراتها يقوم على حشرها فى مُحيطٍ مُعادٍ من الإسلاميين الذين يمارسون عليها حصارًا دينيًّا. من المُفارقة أن تختلف أُصوليَّات الطرفين فى كلّ شىءٍ، وتتّفق على الطريقة الناجعة لتلويث الصورة وتلطيخ القاموس والمفاهيم.
 
تستفيد إسرائيلُ من فاعليّة تحريف الكلام عن مواضعه. تقاطُر الغربيّين على «تل أبيب» لم يكن اصطفافًا ضد صواريخ «حماس» البدائية؛ إنما كان استعراضًا «صليبيًّا» فى ميدان الغزوة الإسلامية المُحتمَلة. على هذا المعنى لا يُمكن النظر إلى حشد واشنطن العسكرى، بحاملتى طائراتٍ وغوّاصة نوويّة ونشر بطَّاريات صواريخ، وتفعيل قواعدها الإقليمية وتمركُزاتها فى الخليج، على أنها تحرُّكٌ وقائىّ من أجل لَجم الميليشيات وسدّ منافذ التصعيد نحو مواجهةٍ شاملة؛ بل هو نفسه تصعيدٌ ناعم يُمارس الخشونة عبر الصورة الرادعة، بوصفها مجالاً لغويًّا بديلاً.. الرصاصةُ أيضًا لُغة، وإذا كان إطلاقُها يُفجِّر دلالتها؛ فإن التلويح بها فقط يُكسبها رمزيّةً مُنفتحةً على التأويل وتعدُّد المعانى. «حماس» أطلقت وابلاً من القذائف ليسمعها العالم؛ ثم عادت للاختباء مع ذخيرتها الصامتة فى الأنفاق؛ لتترك مجالاً لتفكيك الإشارات غير المُعلنة. إذا كانت اللغات لا تتحقَّق إلّا بطرفين، وفاعليّتها رهينة الاتفاق على شيفرة الفهم بين المُرسِل والمُتلقّى؛ فإن الحرب الدائرة كانت نداءً على الآخرين: الصهيونية تسحب الغطاء الدولى لإنجاز خُطط مُؤجَّلة، والمقاومة تُجبر الجيران على الاشتراك فى مُغامرتها. كأنهما ذهبتا إلى السوق، وتبضّع كلُّ طرفٍ ما يحلو له؛ ثم تُرِكَت الفواتير ليُسدِّدها آخرون لم يُستشَاروا فى الموعد والمكان، ولا فى الكُلفة الموصوفة.
 
عادت القضيةُ إلى ما قبل انتفاضة الحجارة. لم يكن اليمين فى إسرائيل راضيًا عن أوسلو؛ فدفن «رابين» ثمّ استكمل إزهاق الاتفاق، ولم تكن «حماس» مُرتاحةً للانخراط فى مُنظّمة التحرير أو مُستعدّة للبقاء خارج السلطة؛ فصوَّبت النار على رام الله. الآن يعيش «عباس» وحكومته مرحلة الانزواء والتحلُّل، وتُعاين الحركة مصيرًا يُشبه ما قبل 1987؛ إمَّا بنجاح العدوّ فى تفكيكها أو باختناقها بعدما وُصِمَت بالداعشية ولم تعُد شريكًا مقبولاً. وأخطرُ ما فى الانتكاسة حجم الأذى النفسى الذى أصاب الغزِّيين، وملايين العرب، من دون إمكانية لأن يُترجَم رصيدًا سياسيًّا لصالح القضية، أو تجنيب القطاع محنةَ تقطيع الأوصال وحصار فُرص الحياة والأمل.. لدى «تل أبيب» برنامجٌ مُضمَر لتصفية القضيّة دون حلٍّ جاد؛ ولن يكتمل ذلك على الأرجح، وليس لدى الفصائل تصوُّر لما بعد الحرب؛ لكنها لن تُسدِّد الفاتورة التى أرادها العدو. والواضح أنّ الأمرين لا يرتبطان بقوَّة الاحتلال أو ضعف المقاومة، ولا بغطرسة الغرب أو حنجوريات المُمانعة؛ إنما بالطرف الذى لم يضعه الجميع فى حساباتهم، أى عواصم التعقُّل العربى وأوراقها المُنفتحة على كلّ الخيارات، من القانون إلى الدبلوماسية الخشنة وحتى المواجهة الشاملة، ومنطقها فى الموازنة يبدأ من أمنها القومى، وينضبط باستبقاء فلسطين عنوانًا فوق الابتلاع أو النسف من الداخل.
 
وزَّعت المحنةُ ضغوطَها بالتساوى، ربما يتمايز الطرفان فى عناصر القوّة؛ لكنهما يتطابقان فى مكمن الضعف. أزمة اللغة وفلسفةُ الحلّ ومُعضلة القيادة: تريد «تل أبيب» أسلمة الصراع؛ لكنها تخشى أن يتفلَّت من طاولة السياسة لساحات الميليشيا، ولديها نهمٌ ينفتحُ على جغرافيا الجيران؛ حتى يصعُب عليه أن يُعيد للفلسطينيين أرضهم، وتعيش مأزقًا عميقًا مع اليمين القومى والتلمودى، ورُعبًا مكتومًا من يسارٍ قد يُعيد تجربة رابين. أمَّا أهل الضفّة وغزّة فلا يتّفقون على نضال السياسة أو السلاح، وينقسمون بين حلم الدولة المُستقلّة ووَهْم الشطب الكامل للعدوّ، وقيادتهم فى المُقاطعة تحت الشيخوخة وفى القطاع فوق الجنون الكامل.. التوراتيّون جفَّفوا إسرائيل من مخزون الشعارات المدنية والعلمانية، والإسلاميّون أحرقوا رصيد «عرفات» والانتفاضات الوطنية غير المُلوَّنة. تكفَّل «نتنياهو» بإنهاء ما تبقَّى من رصيد اليسار المُؤسِّس، وصارت «حماس» بندقيّةً عند الشيعة، كما سبقها «أبو نضال» إلى البعث العراقى وجورج حبش للبعث السورى.. تُطبِق اللوثةُ على عقول الجانبين؛ بينما ينفخُ الغرب فى نار الصهيونية وتحشو المُمانعةُ بنادقَ الفصائل؛ ويقف العرب وحدهم ساعين لإطفاء حرائق الاحتلال، ومنع انجراف المقاومة نحو تحالفاتٍ فوق فلسطينية. يحتاج المُحتلّ إلى ضبط لُغته، والإقرار بحقوق الضحايا، وأنه لا أمان ولا تهدئة دون التوقُّف عن البطش وإراقة الدم، وتحتاج البنادق المُؤجَّرة إلى تعريف فلسطين وهُمومها ومصلحتها، والإخلاص لذلك أكثر من تفانيها فى إنجاز مشاريع إقليمية عابرة للجغرافيا السليبة، ولن تستنكف المرورَ لأغراضها؛ ولو فوق أطلال الأقصى نفسه.. كانت أزمة اللغة واضحةً بقوَّة فى القرار 242؛ عندما حُذِفت أداة التعريف من كلمة «الأراضى» فى نسخته الإنجليزية؛ ليتيسَّر للجيش الصهيونى أن يستبقى سرقات 1967 تحت يده. حتى اليوم ما تزال القضية لُغويّةً ومفاهيميّة بالدرجة الأكبر، وما يصعب فهمه بالنقاش؛ ربما يستحيلُ حسمُه بالقوَّة والسلاح.






مشاركة






الرجوع الى أعلى الصفحة