حازم حسين

أحزاب أدمنت أن تنقض غزلها.. سباق الرئاسة والشفاء من أمراض المعارضة المزمنة

الخميس، 16 نوفمبر 2023 02:00 م

مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
قطعت الانتخابات الرئاسية أطول أشواطها؛ ويتبقّى أقلّ ممّا انقضى. وسواء رأى البعض أن المنافسة شبه محسومة، أو لا يزال فيها هامش للمُناكفة على أمل الفوز أو تحديد مراتب المرشحين؛ فإن السؤال الأهم ربما انتقل بالفعل من الحاضر للمستقبل، أو من السباق نفسه إلى ما بعده من ترتيبات.. تقنيًّا قد لا يُشكِّل ذلك فارقًا فى أداء المُرشَّح عبدالفتاح السيسى؛ لأنه على رأس السلطة، ولناحية أنه لا يُمثّل حزبًا أو تيَّارًا لينشغل بتقويته وتعزيز منافعه؛ لكن الثلاثة الباقين يُفترَض أن يكونوا معنيِّين بمسألة التوازنات والمكاسب الأيديولوجية بشكلٍ مُباشر، وأن يشتغلوا على صناديق 2024 دون انصراف أنظارهم عن 2025 وما بعدها، وصولاً إلى الرئاسيّات المُقبلة.
 
الأساس أننا إزاء عملية بناءٍ تراكميّة؛ ما يعنى أن سباق الرئاسة ليس مطلوبًا لذاته؛ إنما بقدر ما يُرتِّبه من بيئةٍ صالحة لإنعاش الفضاء العام، وشدِّ عُود القوى السياسية، وتأهيلها لجولاتٍ لاحقة مع الجمهور مُباشرةً أو فى استحقاقات الديمقراطيّة التمثيلية. فى الظاهر؛ تبدو المُشاركة نزوعًا جادًّا لصياغة مُعادلةٍ أكثر اتّزانًا وحيويّة ممّا كان قائمًا؛ وجوهريًّا فإن النظر العميق والمُتفحِّص لبعض الخطابات والتحرُّكات، ربما يكشف عن ثغراتٍ فى الرُّؤية والفلسفة، وفى أجندة العمل التكتيكية والاستراتيجية، وحدود إدارة المعركة بطابعٍ شخصى أو لفائدة الكيانات الحزبيّة.. ومن الواضح حتى اللحظة، أنّ شيئًا من الارتجال يتسلَّط على أفكار بعض المُتقدِّمين للسباق، وعلى خطط الظهور والتسويق، وينعكس أحيانًا على حواضنهم السياسية بقدرٍ من الارتباك والتناقض.
 
الواقع أن مصر أكبر دول الإقليم، وأهمّها؛ لذا فإن إعادة تركيب هياكل السلطة فيها تظلُّ حدثًا عابرًا للجغرافيا، ومُشتبكًا مع أوضاع المنطقة ومُحكومًا بها. لعلَّ الصراع الدائر فى «غزّة» ترك رُزمة تأثيراتٍ مُتداخلة على الداخل: أوَّلها أن الحدثَ الطارئ تقدَّم واجهة الصورة؛ فأزاح أجواء الانتخابات إلى الوراء قليلاً، وثانيها أنه قلَّص جاذبية الخطابات الشعبوية فى الاقتصاد والاجتماع؛ وأهمّها ترتيب أولويَّات الدولة بإعلاء السياسة الخارجية والأمن القومى على ما عداهما من عناوين كانت تحكُم الاستحقاقات الانتخابية. باختصارٍ؛ تركَّز الزخم على أداء الإدارة المصرية، ولم تعد الأوضاعُ المعيشيّة عاملَ ضغطٍ فى نقد السلطة أو ترويج مُنافسيها؛ فترجَّحت كفَّة الرئيس تأسيسًا على خلفيته المهنيّة وخبراته السابقة فى الحُكم. يفرض ذلك تحدّيًا مُضاعفًا على بقيَّة المُرشَّحين، وينطوى على خطر الانزلاق لخطاباتٍ تعويضيّة عالية الصوت.
 
ما أقصده بوضوح؛ أنّ أوضاع «غزّة» وما خلَّقته من محنةٍ قاسية، وتهديداتٍ تضغطُ على الحدود الشرقية، تصبُّ عمليًّا فى صالح القيادة المُمسكة بالملفات، المُحيطة بالمعلومات، والمُستندةِ إلى معارف نظريّة وعمليّة تُمكِّنها من مُجابهة التحدِّيات. مُقابل ذلك؛ قد يسعى مُنافسو الرئيس، أو بعضُهم، إلى تعويض الفارق الواضح فى القوَّة على صعيد الخارج، بتكثيف التشدُّد فى الاستهداف تحت عناوين داخليّة. وكان التحوُّل واضحًا فى تركيز اثنين منهم على المسألة الاقتصادية، وملفَّات الديون والمشروعات القوميّة والاستثمار والخدمات. فى السياق الطبيعى؛ كل الأبواب مُشرعة على النقد واجتراح البدائل؛ إنما مع استثنائية اللحظة ستزدادُ وتيرةُ العضّ على الورقة الاجتماعية؛ لإحراز فارق النقاط فى الناحية الأمنية، وما لم يُحكَم الطرحُ بالمنطق والدقَّة والحلول الإقناعية؛ فقد يسقطُ فى الشعبويّة مُنتِجًا خطابًا خفيفًا، يصدُّ الناخبين بأكثر ممّا يستجلب قبولَهم.
 
فى إطلالاتٍ سابقة لبعض المُرشَّحين، تليفزيونيًّا وفى مُؤتمرات شعبيّة، لم يخلُ الطرح من سيولةٍ ظاهرة، وعاطفيَّةٍ لا تستقرئ الواقع أو تقترح بدائله. دعا مُرشَّحٌ إلى التوقُّف عن الاقتراض، وجدولة الديون أو مُبادلتها، وإيقاف مشروعاتٍ تحت التنفيذ، وطالبَ آخر بإخراج الدولة من السوق، وتنشيط القطاع الخاص وجذب استثماراتٍ أجنبية. يبدو الكلام جميلاً؛ لكنه لم يتضمَّن مسارات إنفاذه من التنظير للتطبيق، بينما يقضى الواقع بأن لدينا عجزًا يتطلَّب التمويل، ومُنافسة شرسة على الأموال الساخنة مع أسواقٍ رائدة رفعت فوائدها لمستوياتٍ قياسيّة، فضلاً على أن تعطيل ماكينة العمل عن إيقاعها الراهن سينعكس على البطالة صعودًا، ما يعنى تقلُّصَ المداخيل والإنفاق خصمًا من الناتج والاستثمار ودفعًا للركود أو الانكماش. يقول المُرشَّحون جانبًا سهلاً من الحكاية؛ ثمّ ينصرفون دون ردودٍ مُقنعة على الجوانب الصعبة.
 
لا إشارةَ على أننا نتلقَّى برنامجًا مُكتملاً وناضجًا. كلُّها أفكارٌ جزئيّة غالبًا، ومُتضاربة أحيانًا، ولا تُقدّم أجوبةً عن رؤيتها لأسباب الأزمة؛ حتى تتسرَّع لتقييم النتائج واستخلاص أحكامٍ نهائية. لو كانت المشكلة نتاج السياسات القائمة؛ فلا بديل عن استبدالها بورقةٍ شاملة، وإن كانت بأثرِ أوضاعٍ إقليميّة ودوليّة؛ فلا معنى لأيّة ترتيبات داخلية ما لم تتغيَّر مُعادلات الخارج. يُريد المُتحدِّثون الإيحاء بمسؤولية النظام عن الأثقال الاقتصادية؛ لكنهم لا يُقدِّمون تصوُّرًا ناضجًا لإزاحتها عن كاهل الدولة؛ بل يتسرَّب فى أحاديثهم ما يُشير لأنها أزمةٌ مُستوردة، ومن ثمّ فإن فرضيّة الخروج من النفق بتغيير السُّلطة أو برنامجها قد تكون دعائيّةً زاعقة، تنتهج القدح والتلبيس على الناس، بدلاً من إنجاز مُقارباتٍ موضوعيّة تتجاوز الاستقطاب ولُعبة الهجاء السياسى.
 
فيما يخصُّ البرامج. تتنوُّع استراتيجيات الحملات: لدى الرئيس جزءٌ عملىٌّ ممتدٌّ من ولايتيه السابقتين، وانتهجت حملته استراتيجيّةً أقرب للبناء من الأسفل؛ بمعنى أن يكون البرنامج حصيلةَ لقاءاتٍ ومُناقشات مع الأحزاب والنقابات والمجتمع المدنى. على الجانب الآخر، لم ينتهج بقيّةُ المُنافسين مسارَ التأسيس الشعبى، ولم يُعلنوا إلى الآن مُدوَّنةً مُجهَّزة سلفًا. بينما تتحرَّك بعض الفعاليات السياسية نحو تركيز أفكار وسياسات قابلة للبرمجة؛ كما تفعل تنسيقية شباب الأحزاب مثلاً. افتقادُ الرؤية لا ينعكس على حظوظ السباق الرئاسى فقط؛ بل يمتدّ للتأثير على الأبنية الحزبية مُستقبلاً، بالنظر إلى ما يُثيره من شكوكٍ بشأن امتلاك البدائل، أو جدّية التعاطى مع الشارع باحترامٍ ومسؤولية.
 
تصلحُ العناوين العريضة لمُناوشة السُّلطة فى الأحوال العادية؛ لكنّها لا تُؤسِّسُ مُنطلَقًا صالحًا لإدارة مُنافسةٍ إحلاليّة فى زمن الانتخابات. مهما كان تصوُّر الطليعة الحزبية عن الوعى الشعبى، ودوائر الاهتمام والأولويَّات؛ لا تنقضى الحاجة مُطلقًا إلى التأصيل الفنىّ للقضايا وجُذورها، وإحالاتها المُستقبليّة المُتوقَّعة والمأمولة. يتوجَّبُ استقبال رسائل الشارع فى أشدِّ صُورها بساطةً وانكشافًا وديماجوجية؛ وعليك أن تُخاطبَه بوعى الخبير ولسان الفيلسوف. جهازُ التلقِّى لدى الناخب قادرٌ على استكشاف الجاد من الخفيف، والواقعى من الخيالى، وعلى الاستقراء السليم لأوزان من يأتونه بخطابهم، وكفاءة الخطاب نفسه، وما إذا كان يتجاوز القول إلى الفعل؛ أم أنه مُجرَّد بلاغةٍ لُغوية عارية من الدلالة.
 
ليس كافيًا أن تتقدَّم بديلاً عن حالٍ راهنة؛ إنما يتعيَّن أن تُنتج أوّلاً ما يُبرِّر الدعوة لتجاوز القائم والمُستقر إلى التغيير المُقترَح. ما يحدُث أنّ فريقًا من المُرشَّحين وحملاتهم يُركّزون على انتقاد المسارات المُعتمدة دون إنتاج مسالك مُضادَّة لها أو مُتقاطعة معها. يغيب عنهم أن حصر التغيير فى الوجوه ربّما يصبُّ فى صالح صاحب الرصيد الثابت، لا الوافد الجديد. والجمهور فى قاعدته العريضة لا تعنيه صراعات الأيديولوجيا، ويرى الفارق بين اليمين واليسار من زاوية التطبيق لا النظريات.. هكذا قد تسقط كلُّ بلاغات الديمقراطية إن جاءت ممَّن لا يحترمها أو يُطبّقها، وقد تتساوى الليبرالية بالماركسية لو حوَّلت السوق أو العدالة الاجتماعية لأوراقِ ضغطٍ، لا برامج عمل.
 
يتفرَّع عمَّا سبقَ إشكالٌ أكثر تعقيدًا. إذ لا تبدو مشاريع بعض الأحزاب راسخةً فى بيئتها، أو ناشئةً عن موثوقيَّةٍ ذاتية تُساق للجمهور بمعزلٍ عن خصام الأيديولوجيات المُتنافسة، أو صراعات الأيديولوجيا الواحدة. الدليل فيما ذهب إليه المُرشَّح عبدالسند يمامة مثلاً، عندما استشهد بتغريدة ساخرة من البرادعى واعتبرها دعمًا سياسيًّا وشهادةً مُرجِّحة، دون التفاتٍ إلى ما فيها من قَدحٍ وتعريض، أو للخلافات السياسية وتحوُّلات صاحب الرسالة، بين مُحالفة الإخوان ثم مُخاصمتهم ثم العودة لأحضانهم مُجدّدًا، أى أنه يُعادى «يمامة» وتيَّاره والصيغة المُؤسِّسة لدولة 30 يونيو، والأَوْلى تجاهُل موقفه حتى لو كان إيجابيًّا؛ ناهيك عن أنه كان سلبيًّا ومُتهجِّمًا. دليلٌ آخر فى مُعاداة «الحركة المدنية» لأحد مُؤسِّسيها، ما تسبَّب فى انشقاق حزبين منها؛ ردًّا على انحيازٍ بدا من خارج أدوات السياسة، وبعيدًا تمامًا من النضج والتعقُّل. ويُؤشِّر إلى سيطرةٍ ناصريّة لا تخلو من مُزايدة؛ لا سيّما أنهم قدّموا مُرشّحًا، ولم يتحوّلوا إلا بعدما تعثّر فى العتبة الانتخابية، كما خاضوا انتخابات 2014 بأبرز كوادرهم، وكانوا يرفضون الابتزاز الذى يُمارسونه على غيرهم اليوم.
 
كانت الحركةُ قد قدَّمت ثلاثةً من أعضائها، واتّفقت على دعم الذى ينجحُ منهم فى الوصول لبطاقة الاقتراع. أخفق واحدٌ وتنحَّت الثانية وبقى فريد زهران؛ لكنهم لحِسوا وعدَهم السابق وعرّضوا بالرجل فى أداءٍ شديد البؤس والرعونة. ردَّ حزبا «العدل والمصرى الديمقراطى» بتجميد عضويَّتيهما، وقال قياديِّون بالحركة إنهما يسعيان لمصالح شخصية فى البرلمان المُقبل.. المُفارقة أن الجبهة المُنقسمة على نفسها كانت تدعم شخصًا على اتّصال بالإخوان؛ لكنها رفضت «زهران» وحسبته على الدولة، وهو نفسه فى حوارٍ تليفزيونىّ ادّعى المُعارضةَ مُنفردًا، واعتبر بقيَّة المُرشَّحين يُمثّلون النظام. إزاء تلك الحالة المُركَّبة من النفى والاستبعاد، لا يبدو أن المُعارضةَ تعرف نفسها جيِّدًا؛ ومن ثمَّ فإنها تجهل مُنافسيها بالضرورة، وتتبادل الاتهامات من أرضيَّةٍ تطهُّرية تليق بالأُصوليّة الدينية، لا بالعمل العام على شرط الكفاءة والإقناع والمقبوليّة الشعبية.
 
لسنا فى وارد ترجيحِ مُرشَّحٍ أو إقصاء آخر. سيُحسَم الأمرُ فى الصناديق، والجميع رابحون بقدر ما يُحسنون استثمار اللحظة لتدعيم صفوفهم ومدِّ جذورهم فى الشارع. ولعلَّ المُرشَّحين أنفسهم يعرفون أنهم يخوضون مُنافسةً صعبة، مع رئيسٍ لديه رصيد أكبر منهم؛ مهما اختُلِف فى تقدير نسبته، ولا يزال مُتمتّعًا بزخم 30 يونيو وجهدها الإنقاذى، وتُرافقه تأثيرات إدارة ملف غزّة وتحدِّياته الاستراتيجية؛ لكن صعوبة المنافسة لا تمنع السعى لتحصيل كل المكاسب المُمكنة؛ لا سيما أن الانتخابات التشريعية بعد سنةٍ، ومجلس النواب المُقبل سيكون بوَّابةً على «رئاسة 2030». بعض المُتنافسين لا يزالون من دون استراتيجيّة إعلامية واضحة، ويتحرَّكون ببرامج ناقصة أو غير موجودة، وتعلو حناجرهم على عقولهم؛ مُتوخِّيين اصطياد السياسات الحاكمة بأكثر من طرح بدائل رشيدة. يتبقَّى أُسبوعان فقط على تصويت الخارج، وثلاثة على الداخل، وهى مُدَّة كافية لإطلاق ورشة سياسية ديناميكية ناضجة. المطلوب حُسن الإصغاء للشارع كأننا فى سوقٍ، وإتقان مُخاطبته كأننا فى محفل علمى، وأن يتضافر العُمق مع البساطة بما لا يُعظِّم النخبوية ولا يُقوِّض الجماهيرية. ستنقضى الانتخابات بأيَّة نتيجة؛ لكنّ الربح والخسارة فى إدارة الطريق للصندوق، لا حصيلة ما فى بطنه من أصوات، وبوضوحٍ أكبر؛ فالخاسر هو مَن يُغادر المُنافسة كما دخلها، دون رواجٍ أكبر، أو قاعدةٍ أوسع، أو جاهزيّةٍ للمعارك والاستحقاقات المُقبلة.






مشاركة






الرجوع الى أعلى الصفحة