كلّما تمدَّدت إسرائيل فى غزّة؛ تتآكل الأرض تحت جنازير دباباتها. لقد كانت تُخطِّط لحربٍ طويلة ثم تباطأت عقارب الساعة؛ فاستهلكت ما أرادته فى شهور خلال عدّة أسابيع، الدمويّة المُفرطة لطَّخت وجه الدعم الغربى الكاسح، ولم تحسب أن المزاج العالمى سيتغيَّر بتلك السرعة، كما أن خفّة الخطة العسكرية وغياب الأفق السياسى، تكفَّلا بنزع الغطاء عن العملية منذ يومها الأول، صحيحٌ أن التحوُّل جاء بطيئًا ومُتعثّرًا؛ إلّا أنه تضخَّم وانتفخ حتى انقلبت بعض عواصم أوروبا على نفسها، وصارت واشنطن نفسها مُرتبكةً ومُتناقضة بين جنون الانتقام وإحراج الوحشية الجارحة، واليوم تُعجِّل آلة القتل من إنجاز صيغة الأرض المحروقة، بينما يتوالى انطفاء الحرائق تحت زخّات المطر أو فيوض الدمع.
وصار بالإمكان الحديث عن تهدئةٍ وشيكة؛ لا لصحوة الضمير فى البيت الأبيض، ولا لنزوع النازيّين الصهاينة إلى المرحمة واللُطف بالعُزّل المساكين؛ إنما لأن أصوات الرصاص صارت مُدوّية وأكثر إزعاجًا إلى الحدِّ الذى لا يفلح معه صمّ الآذان، أو الترفُّع على أنين الأُمّهات الثكالى والأطفال مبتورى الأطراف.
نشرت «رويترز» قبل أسبوع خريطةً إحصائية للاحتجاجات، تضمَّنت قرابة 4 آلاف تظاهرة داعمة للفلسطينيين، مقابل خمسمائة فقط لإسرائيل، ونحو 95 أعلنت انحيازها للسلام؛ أى لفلسطين أيضًا بمعنىً من المعانى. صار قرابة 90% من العالم فى صفّ الغزِّيين والعُشر فقط مع الاحتلال الغشوم، وربما النسبة نفسها فى أوساط الدول، وإن تأخَّرت ترجمتها إلى مواقف عملية، أو غابت عنها بعض عواصم التسلُّط الكبرى، يُمكن استقراء شىءٍ من الديناميكية فى إقالة وزيرة الداخلية البريطانية؛ بعدما هاجمت الشرطة مسيرات دعم غزّة، وفى استدارة الرئيس الفرنسى من شعبوية الظهور فى مجلس الحرب، والدعوة إلى تفعيل تحالف دولى ضد «حماس» على غرار تجربة داعش، إلى الدعوة لوقف إطلاق النار وليس لمجرد هُدنةٍ إنسانيّة مُؤقتة؛ واستشعار تل أبيب للقلق إلى حدِّ اتهامه بمُعاداة السامية؛ حتى لو كان الظاهر أنه يبحث عن دورٍ غائب ويُحاول ترميم جدار باريس المُتصدّع إقليميًّا ودوليًّا.. لم تتغيّر قناعات الطبقة السياسية؛ إنما صار الواقع ثقيلاً وكُلفته أكبر من الاحتمال، حتى أن وزير الخارجية الصهيونى نفسه قال إن الضغوط تتصاعد، وإنهم تجاوزوا الدائرة البرتقالية ويقتربون من الضوء الأحمر، بما يعنى أن وقت إطلاق اليدّ أوشك على النفاد.
الرسالة المُهمّة؛ أن بعض المواقف السافرة فى انحيازها بعد عملية «طوفان الأقصى»، لا سيما من المجتمعات والأفراد، لم تكن فى سياق مُؤامرةٍ مُرتّبة سلفًا لاستهداف فلسطين وقضيّتها، ما حدث أن مُقاتلى القسّام تعجّلوا صورة النصر، وأفرجوا عن صورٍ ومقاطع فيديو ما كان يجب أن تُنشَر، ونشطت الماكينة الدعائية فى إسرائيل انطلاقًا من المواد الاستعراضية والرسائل الجارحة؛ فثارت عاطفة العوام عالميًّا وانزلقوا فى فخّ السردية الصهيونية، وقد تناست الفصائل الغزِّية أن العالم لا يتحدَّث لُغةً واحدة، ولا يفهم القضايا العادلة على شرطها التأسيسى، أو وفق حكايتها التاريخية الكاملة، لكن عندما خفت صوتُ البروباجندا، وأهال الاحتلال الترابَ والدم على مظلمته الكاذبة، مُقدِّمًا البرهان العملى على وحشيّته بمشاهد العدوان وعدَّاد الضحايا سريع الدوران؛ انضبطت مقادير العواطف وعاد الناس إلى رُشدهم؛ فرأوا الحالة على حقيقتها واصطفّوا بجانب المظلومين الفعليين، لا من يُمثِّلون الضعفَ ويتصنّعون البكاء.. والخُلاصة؛ أن المقاومة أجادت تكتيكيًّا فى هجمة غلاف غزّة؛ لكنها أخفقت إعلاميًّا، وبفعل الفشل الفادح فى بناء الرسائل وتسويقها سادت الضبابية، وتأخَّر الدعم، وانتفخت أكياس الجثث وبطون المقابر الجماعية.
لا فائدةَ من العودة فى الزمن؛ إنما يتعيَّن استخلاص الدروس من أجل المستقبل. عندما قال الصينيون: «اجلس على حافة النهر وانتظر؛ وذات يومٍ سيجىء التيّار حاملاً جثّة عدوك» لم يكن ذلك عن ضعفٍ أو كسل، ولا من تهيُّب الحروب أو بُخلِ الأُمّة المليارية فى ترصيص طوابير التضحية والفداء. قد يكون الصبر وطُول النفس أفضل الخيارات المُمكنة أحيانًا؛ لا سيما لو كان الميدان غائمًا والريح غير مُواتية، لعلّ «حماس» اتّخذت قرارَها بنفسها، على ما يقول قادتها ورؤوس محور الممانعة، ولم تضغط زناد بندقيَّتها بأمرٍ من الخارج أو لغرض أبعد من فلسطين؛ لكن الخُلاصة أنها جرحت الغول المُفترس ولم تقتله؛ فاستدار عليها وعلى «غزّة» وساكنيها، تفجَّر الدمُ أنهارًا، وتنافست أكوام الجُثث مع الأطلال وركام المبانى، وما كسبت القضية أكثر من حملة علاقاتٍ عامة سرعان ما سيخفُت بريقُها. وربما تضطر الحركة لأن تحزم حقائبها؛ فإمَّا تُغادر القطاع أو تُطاح خارج المشهد السياسى المُقبل. حتى نكون عمليِّين ولا يسرقنا خدر الانتصارات المُلفَّقة؛ فإن خسائر الفلسطينيين عامة، والمقاومة بالخصوص، أكبر من أى مكسبٍ قد يدَّعيه البعض على غير الحقيقة.
ثمَّة تفسيرٌ منطقى واحد للصفقة غير المُوفَّقة، ربما أرادت «حماس» أن تستعيد بهاءها المفقود بعمليةٍ محدودة وخاطفة؛ ثم تتحصَّن فى حاضنتها، وتتلقَّى ضربةً انتقامية تتناسب مع هجمتها وفق قواعد الاشتباك الاعتيادية. حدث ذلك فى 2021 وظلَّ تحت السيطرة، وفى مايو الماضى بعدَّة طلعاتٍ جوية ضد حركة الجهاد وحدها. أتصوَّر أنها دفعت مئات الأفراد من البرِّ والبحر والجو وتحت الأرض، واستهدفت نحو عشرين نقطة عسكرية واستيطانية، على أمل أن تُغافِل اليقظةَ الإسرائيلية وينجح بضعةُ مُقاتلين فى اختراق نقطتين أو ثلاث، وقتل عدّة جنود وأَسْر مثلهم، صفقة «شاليط» حرَّرت ألف سجين قبل اثنتى عشرة سنة، وكان يكفى اصطحاب عشرين أو ثلاثين أسيرًا لإطلاق الستة آلاف المُغيِّبين فى سجون الاحتلال؛ لكنّ فشل الأخير وهشاشة منظومته الأمنية والمعلوماتية فتحا الملعب على آخره؛ فاتّسعت العملية وأفلتت من قبضة «الضيف والسنوار»، وبعدها فوجئت الحركة بأنها أشعلت شرارةَ حربٍ عُدوانية واسعة لم تقصدها، وليست جاهزةً لخوضها أو سداد فاتورتها الباهظة.
تتشدَّد حكومة نتنياهو فى رفض التهدئة، وتُحاول الإيحاء بأنها ماضيةٌ فى حربها دون سقفٍ زمنى، الرسالة حملتها تصريحات لوزير الدفاع يوآف جالانت، وشريك مجلس الحرب بينى جانتس، وعبر أدوات مدنيّة ناعمة، مثل قرار تأجيل الدراسة الجامعية للمرة الثانية، بما يحمله من إشارةٍ لاستمرار حشد الاحتياط وعدم الاقتراب من تسريحهم. لكن عمليًّا فإن الحرب لا تنضبط على ساعات «الكابينت»، ولا وفق مزاج الائتلاف اليمينى المُهيمن فى تل أبيب؛ إنما تتحدَّد مواقيتها فى واشنطن، وموقف الأخيرة تتخطَّفه توازنات الشارع والمُؤسَّسات فى الداخل، وديناميكية الحلفاء والخصوم بالخارج. ربما يكون ارتفاع وتيرة التحرُّش بالمستشفيات والأعيان المدنيّة، والإفراط فى خنق الشمال مع منسوبٍ أعلى من العنف، دليلاً على ضغط المُهلة الزمنية المتاحة لإطلاق الرصاصة الأخيرة قبل التهدئة. خصوصًا أن الشتاء يحطّ رحاله فى القطاع، ولن يكون مقبولاً أن يُترَك مليونا مدنى بين أنياب القذائف ومخالب الجوع والعراء. إن صحّ التصور السابق؛ فإن المشهد ربما يقترب من هبوطٍ ناعم، قد يبدأ بهُدنةٍ محدودة تُغطّيها صفقةُ تبادل أسرى، ثم يصير المُؤقَّت دائمًا، بدءًا من أول ديسمبر يُمكن انتظار أن ينقشع الغبار وتتوقَّف المقتلة؛ ولا علاقة لذلك بمستقبل «حماس» التى قد لا تكون موضع ترحيب من تل أبيب وحُلفائها الغربيين، أمَّا كَسر هذا المدى الزمنى فمعناه أن إسرائيل تتمرَّد على وصاية بايدن، وأنها تضع البيت الأبيض فوق سندان التدخُّل الخشن، أو تحت مطرقة الغضب الشعبى ومخاطر الفوضى الأمنية واستشراء موجة العداء وتجلِّياتها المادية، فى الشرق الأوسط وفى عُمق البيئة الغربية.
إن استجابت تل أبيب؛ فإنها ستكون على موعدٍ مع الأسئلة المُؤجَّلة وإعادة تركيب السلطة، ولن تتخلَّى عن برنامجها لتصفية «حماس» بالضربات النوعية الخاطفة، أو بأجندة اغتيالاتٍ مفتوحة، وإن قاومت موجةَ التعقُّل الاضطرارية بفعل الغضبة الشعبية وتأثيرها على صُنّاع القرار؛ فإنها ستغطس فى المُستنقع إلى درجةٍ ترفع الكُلفة المادية والأخلاقية، ولا تحقِّق النصر أو تستعيد صورة الردع، وقتها ستدخل فى حسبةٍ مُعقَّدة مع حماس، فقد تنهى دائرة القيادة وتُخفق فى حصر القواعد، أو تصل للجناح السياسى دون العسكرى، والعكس، وإن قضت عليهما معًا فلا سبيل إلى تصفية الأيديولوجيا، أو تجفيف بركة الدم بكل ما تختزنه من غضبٍ وكراهية واعتقاد شعبى فى قدسيّة الثأر. وهى إزاء ذلك إمَّا أن تُغادر القطاع وتستعد لضرباتٍ تعبر السياج، أو تبقى فيه وتظل عُرضةً للهجمات من النقطة صفر؛ لا سيّما أن بدائل الفصل بأحزمةِ قوّاتٍ من الإقليم أو الخارج ليست محلَّ قبولٍ من مصر والأردن وغيرهما، ولن تقبلها الفصائل، ولن تتكبَّد واشنطن عبء الانخراط فيها أو تتحمّل ضماناتها الأمنية والسياسية.
لم يعُد الحديث عن التهجير رياضةً ذهنية أو تخيُّلات عابرة، ثبت بالقول والفعل والأوراق الرسمية أن اليمين الصهيونى يتعشَّم فى تصفية القضية بالشَّطبِ لا بالحلّ، القاهرة لن تقبل ورقة القوَّات الأُمميّة بما فيها من خطرٍ على القضية، وعلى أمنها، ولن تقبل الصيغة العربية لأنها تنطوى على «تهجيرٍ عكسى» يُحقّق غايةَ الاحتلال؛ إذ المقصود من الإزاحة أن ينتقل عبء الغزِّيين إلى الجوار، ولا فارقَ بين أن يكون بالبشر فقط أو بالأرض وما عليها، الخلاصةُ أن الاشتباك المحتدم يتصاعد من دون برنامجٍ سياسى لليوم التالى، فلا يعرف الاحتلال ولا حماس ما سيفعلونه بعد خوض الحرب لآخرها، كما لا يعرفون ما بعد التهدئة. يكفى ذلك لانتزاع القرار من الطرفين؛ إمَّا بصيغةٍ مُؤسَّسية دولية، أو بتوافقاتٍ عربية غربية، أو بتفاهماتٍ مع رُعاة الفصائل والعواصم الإقليمية الوازنة، المهمُّ أن تخفُت قرقعة السلاح حتى تنخفض مناسيب الاحتجاج، لا حربَ إلى الأبد، وعاجلاً أو آجلاً سيتوقَّف العدوان على غزّة؛ لكنه لن ينتهى كما أرادته إسرائيل. صار القطاع خرابًا لا يصلح للحياة، وسؤال الإعمار لن يقلّ صعوبةً عن اختبار وقف الحرب، وقد خسرت فلسطين بأكثر ممّا استفادت، وتضرَّرت الصهيونية لدرجةٍ لم تستوعبها بعد، التهدئة وشيكة؛ لكن الفواتير ستظل مُعلَّقةً، وستدفعها المنطقة بكاملها لسنواتٍ طويلة مقبلة.