كنت أريد أن أضع مالي في وديعة بنكية، فأخبرني أحد أصدقائي بأن العلاقة بين البنك والمودع تشبه عقد القرض، وأن العائد الناتج عن ذلك ربا فنرجو منكم بيان ذلك، سؤال أجاب عنه الدكتور شوقى علام، مفتى الجمهورية، وجاء الرد كالآتى:
الودائع البنكية تكون على صور متنوعة: فمنها ما هو حساب جارٍ، ومنها ما هو حساب توفير، ومنها ما هو حساب ائتمان، ونحو ذلك من مسميات تستجد في العرف المصرفي، ولذلك فإن البحثَ فيها منصَبٌّ على حُكمِ المالِ أو النقودِ التي يقوم صاحبها بإيداعها لدى البنك، ويتعاقَدُ عليها، وليس في الحِسابِ أو القائمةِ التي تُقيَّدُ فيها المعاملاتُ بين الطَّرَفينِ.
وهي في جملتها: عقودٌ يخول البنك ملكيتها والتصرف فيها بما يتفق ونشاطه وغرضه، مع التزامه بردِّها للمودع طبقًا لشروط العقد؛ كما هو مفاد المادة (301) من قانون التجارة، وما نصت عليه محكمة النقض في الطعن رقم (4298 لسنة 86 ق، جلسة 15/ 3/ 2017م)، ولذا اعتبر القانون المدني المصري هذه العقود في مادته رقم (726) أنها من قبيل "القرض" وأسماها "الوديعة الناقصة أو الشاذة"، ورتَّب على ذلك انتقال ملكية هذه المبالغ المالية إلى البنك مع الالتزام بردِّ مثلها عند طلبه، مع سريان فائدة قانونية على ذلك.
وهذه النقطة هي مثار تجاذب الآراء الفقهية في تصوير هذه العلاقة؛ طبقًا لاختلاف أهل القانون والاقتصاد في ذلك التصوير فيما إذا كانت العلاقة بين العملاء والبنك هي علاقة القرض كما ذهب إليه القانونيون، أو هي علاقة الاستثمار كما ذهب إليه الاقتصاديون، والاختلاف في تصويرها ينبني عليه الاختلاف في تكييفها.
والمختار في الفتوى أنها في جملتها تُعدُّ من العقود الجديدة التي لم تكن معروفة لدى الفقهاء بمعناها الفقهي الموروث؛ فهذه الحسابات عقود لها أحكامها الذاتية الخاصَّة التي لا تنطبق على العقود المسمَّاة المعروفة؛ فليس في الفقه الموروث ما يسمَّى بـ"الوديعة الاستثمارية أو غير الاستثمارية"؛ فهي وإن كانت تُشبهها لبعض الاعتبارات إلا أن لها وجوهًا تجعلها مختلفة عنها، بالإضافة إلى أنَّ عدَّها من العقود الجديد هو الأقل إشكالًا والأسلم إيرادًا.
-فهذه العقود تشبه القرض؛ باعتبار أنَّ ملكية المال في كلٍّ منهما تنتقل إلى المقترض، ويحق له التصرف فيه، ولكنها تفترق عن "القرض" بمعناه الشرعي من جهة أنَّ القرض تحظر فيه الزيادة، بل إن المنفعة المشروطة فيه محظورة مطلقًا؛ أمَّا الودائع البنكية فإن الزيادة فيها حاصلة وموجودة، والمنفعة فيها مقصودة من كِلَا الطرفين؛ حيث يقصدها كلُّ طرفٍ كأثرٍ من آثار العلاقة، ونتيجة مترتبة عليها بصورة تلقائية.
ويشهد واقع البنوك أنها تستقبل ودائع بصورة يومية وبمبالغ مالية متفاوتة، وتدمج بين هذه الودائع في سلة عامَّة أو حوضٍ واحدٍ أشبه بالنهر الجاري الذي تمول منه عقودًا وصورًا متنوعة، وهذه العمليات يتم خلط فيها أموال المودعين وأموال المساهمين خلطًا متداخلًا غير مميز لمال مُودِع عن آخر؛ فهي كالتيار المستمر لا يمكن معه تتبع العمليات المختصة بوديعة بعينها للوقوف على حصتها في الربح أو الخسارة.
وبالنظر لهذا الواقع نجد أنه تَرِد إشكالات كثيرة على اعتبار النقود المودعة في هذه الحسابات من قبيل "القرض" بمعناه الشرعي تُخْرجه عن طبيعته وأحكامه المقررة لدى الفقهاء من كونه وسيلةَ دفعٍ وأداةَ وفاءٍ:
فمن المعلوم أنه بمجرد إيداع العميل نقوده في حسابه البنكي تخرج هذه النقود من مِلكه إلى مِلك البنك وتصبح في ضمانه، بمعنى أنه لا يمكن للعميل رهن أو ضمان أو هبة هذه النقود حال كونها مودعة في الحساب، أو شراء سلعة بضمانها كثمنٍ مؤجلٍ، حتى وإن أمكن ذلك فيكون على صورة عقود ومعاملات أخرى تجريها البنوك بحسب الأغراض والمجالات التي يقصدها العميل؛ كفَتحِ الاعتمادِ المستَنَدي، وخطاب الضمان، وإصدارِ البطاقةِ الائتمانيَّةِ، أو كفالةِ جِهةٍ أُخرى من قِبَلِ ذلك العميل، أو إصدار الشيكات وصرفها.. ونحو ذلك من عقودٍ تجدُّ وصورٍ تُستحدَثُ بحسب ما تمليه ضرورة العمل المصرفي وتتطلبه تطوراته.
-كما أن تكييفها على أنها "قرض" بمعناه الشرعي يرد عليه إشكالٌ ثانٍ باعتبار أن النقود المودعة في الحساب ليست هي عين النقود المضمونة في ذمة البنك؛ فإذا ما سحب صاحب الحساب جزءًا من نقوده المودعة في حسابه مثلًا؛ فبمَ يُكيَّف هذا الجزء المسحوب: هل يعتبر استرجاعًا للمال الذي أقرضه للبنك أو هو قرضٌ جديد أخذه من البنك يرتب عقدًا آخر؟
-كذلك يرد على تكييفها "قرضًا" أنه في حال إيداع صاحب الحساب مالًا جديدًا، فهل تعتبر هذه النقود قرضًا جديدًا أو ملحقة بعقد القرض الأول؟
ومثل ذلك يقال فيما إذا أودع شخصٌ آخر مبلغًا في حساب المودع، فهل يمكن اعتباره قرضًا في حال عدم علم صاحب الحساب؟ وهل يُعَدُّ قرضًا للبنك، أو يعتبر البنك هنا أداة للوفاء به فقط؟
وكيف تحل مشكلة الحساب بين المودعين التي تتداخل أموالهم في توقيتات متفاوتة لا تتفق مع توقيتات بدء وتصفية العمليات التي يجريها البنك بشأن هذه الأموال؟
في ضوء أن بعض الودائع تدخل في رأس مال البنك العامل بعد أن تكون العمليات قد بدأت، وكذلك تخرج منه قبل أن تنتهي، وهذا الإشكال متصور في كلِّ عملية إيداع أو سحب.
ممَّا يدلُّ على أنَّ هذه البنوك في أصل نشأتها لم تضع في قاموسها العملي قضية "الاقتراض أو الإقراض"، بمعناهما الفقهي الموروث، وإن شاع في تسمية بعض معاملاتها الماليَّة بالقرض؛ لأن المقصود الشرعي من القرض هو الإشفاق والإرفاق في إعانةِ الناس على قضاءِ حاجاتهم وتفريجِ كُرباتهم؛ ولذلك فإنَّ الآيات التي وردَ بها معنى القرض في القرآن الكريم تدل على القرض الحسن الذي يُحسنُ به الموسِر إلى المعسِر؛ ابتداءً (من إعطائه المالَ لسد فاقته)، وانتهاءً (بإنظاره حالَ عُسْرَتِهِ)؛ كما دلَّ عليه قولُ الله تعالى: ﴿مَن ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً﴾ [البقرة: 245]، مع قوله سبحانه: ﴿وَإِن كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ وَأَن تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ﴾ [البقرة: 280].
وذلك لأنَّ "الإعسار علة الإنظار"؛ كما قال الإمام النَّسفي في "مدارك التنزيل" (1/ 429، ط. دار الكلم الطيب).
قال الإمام أبو الوليد ابن رشد في "بداية المجتهد" (4/ 21، ط. دار الحديث): [ولا خلافَ بين المسلمين في جواز القراض، وأنه مما كان في الجاهلية فأقرَّه الإسلام.. وأنَّ الرخصة في ذلك إنما هي لموضع الرفق بالناس] اهـ.
وقال شيخ الإسلام زكريا الأنصاري في "شرح منهج الطلاب" (2/ 38): [القرض ليس مقصود التجارة؛ بل الإرفاق] اهـ.
وقال العلامة الشيخ محمد أبو زهرة في "بحوث في الرِّبَا" (ص: 35، ط. دار الفكر العربي): [القرض الحسن كيفما كانت صورتُه وبواعثُه ودواعيهِ: هو من قبيل الصَّدقةِ.. والصَّدقةُ تنبعُ مِن الرغبة في النفع العام] اهـ.
من هنا جاءت حُرمَة المعاوضة القائمة على النفع في طبيعة هذا الإقراض، خاصَّةً إذا كانت مشروطةً فيه؛ لأنه يخالف مقصودَه، ويكرُّ على مرادِهِ بالفساد؛ لما تقرر أن "كلَّ قرضٍ جرَّ نفعًا فهو رِبًا"؛ كما في "الأشباه والنظائر" للعلامة ابن نُجيم (ص: 226، ط. دار الكتب العلمية).
وتحريم النفع في قرض الإرفاق، لا يستلزم تحريمه في العقود بإطلاق، فالقرض تبرعٌ يُراد به الإحسان والإبرار، بخلاف المعاملات البنكيَّة التي غرضها الربح والاستثمار، فالأولى من قبيل المسامحة، والثانية من قبيل العِوَض والمشاححة، وما به الشُّحُّ ليس قرضًا، وما فيه البرُّ ليس عوضًا.
فإن قيلَ: إنَّ لفظ "القرض" هو الشائع في المعاملات المالية التي يجريها البنك، حتى من العاملين فيه الذين لم يعتنوا بهذه التفرقة بين اللفظتين، مما يدل على قَرضيَّة هذه المعاملات.
قلنـــا: إنَّ هذا الشيوع في لفظ القرضِ ومبناه، لا يقلب حقيقته ولا يُغيِّر معناه، ومن ثمَّ فلا يؤثر في الأحكام الشرعية المتعلقة به؛ فلا يحكم على هذه المعاملات بأنها من قبيل القرض المُحرَّم لمجرد الإطلاق اللفظي عليها؛ لأنَّ الأحكام إنَّما تناط بحقيقة الواقع الموجود، ومدار العقُود على القُصود، والعبرة فيها بمقاصدها ومعانيها، لا بألفاظها ومبانيها؛ كما في "بدائع الصنائع" للإمام الكاساني (2/ 273، ط. دار الكتب العلمية).
وقد فطن إلى ذلك المقنن المصري في التشريعات اللاحقة؛ فأطلقوا على هذا النوع من المعاملات البنكية "تمويلًا"، فمنذ صدور قانون البنوك رقم (88) لسنة 2003م، ولائحته التنفيذية رقم (101) لسنة 2004م، اصطُلِحَ على تسميتهِ بعقود التمويل، وجعلوه عقدَ معاوضةٍ لا عقدَ تبرع؛ فتطابقَ بذلك الاسم والمُسمَّى، وتوافقَ المبنى مع المعنى.
والقانون وإن وردَ في بعض موادِّه تسمية عمليات التمويل بالقرض، إلَّا أنه عنى بها الأعمال التعاقدية الخاضعة للأعراف التجارية؛ فقد نصَّت محكمة النقض على أنَّ قرض المصارف (التمويل) يُعدُّ عملًا تجاريًّا بالنسبة للمصرِف وللمقترض (المتموِّل)، مهما كان الغرض الذي خُصِّصَ له القرض، وهي بذلك خارجة عن نطاق العمل الحر المنصوص عليه في المادة رقم (232) من القانون المدني، وخاضعة لقواعد العرف التجاري والعادات التجارية. (طعن رقم 13833 لسنة 81 ق، جلسة 18/ 11/ 2015م).
وبذلك، فإننا نجد أن كلَّ عقد من العقود المسماة بمفرده لا يصلح لتكييف هذه الحسابات البنكية وفقًا لواقعها الذي جرى عليه العرف المصرفي، كما أن تخريج الحكم على الحساب البنكي وفقًا لهذه العقود مجتمعة أمرٌ لا يستقيم كذلك؛ بسبب أوجه الاختلاف بينها وبين الحساب البنكي بصوره المتنوعة؛ فضلًا عن عدم التسليم بتنزيل الأحكام الشرعية الخاصة بكلِّ عقدٍ على واقع هذا العقد جملةً أو تفصيلًا.
وذلك كله راجع إلى أن هذه الفوارق تقف حائلًا دون تصوير وتكييف الحسابات البنكية وفقًا له، فما صَدَقَ على عدم إمكانية التكييف في حالة كلِّ عقدٍ بصورة مستقلة يَصْدُق على عدم إمكانية التكييف بالنظر إلى العقود المسمَّاة مجتمعة، وهذا يرجِّح معاملة الحسابات البنكية معاملة جديدة وفق واقعها وعرفها المصرفي باعتبارها عقدًا مستقلًّا.
وبناءً على ما سبق: فما تمارسه البنوك من عملياتٍ مصرفية يُعدُّ عملًا تجاريًّا محضًا -بحكم القانون- تتغيَّا من خلاله الربح والتكسُّب، ولم تضع البنوك في قاموسها العملي قضية "الاقتراض والإقراض"، بمعناهما الفقهي الموروث الذي يقصد به الإشفاق والإرفاق، ورفع الضِّيق، حتى وإن شاع في تسمية بعض معاملاتها الماليَّة بالقرض؛ لأن الأحكام إنَّما تناط بحقيقة الواقع، وأنَّ العبرة في العقود بمسمياتها ومعانيها، لا بألفاظها ومبانيها.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة