بقدر البهجة الذى استشعرها كثيرون صبيحة السابع من أكتوبر، نحصد لنحو سبعة أسابيع محصولاً وفيرًا من الهزائم مع أكوام الجُثث وأنين الجرحى. لا يصحّ تحت أى ظرف إلّا أن ندين الاحتلال ونُجِلّ مُمارسات المُقاومة والتحرُّر؛ لكن القضايا العادلة لا تنتصر بعدالتها فقط؛ بل بما يتيسَّر لها من حظوظ النضج والكفاءة وإدارة الصراع فى حُدود الممكن. والواقع أن عملية غلاف غزّة بقدر ما فضحت عوار إسرائيل وفشلها؛ أكّدت أن بعض الفاعلين فى المشهد الفلسطينى لا يأخذون بالأسباب على شرطها الصحيح. وربما يكون ذلك واضحًا فى انعدام الخيارات الآن، والاحتباس فى موقع ردّ الفعل انتظارًا لتسويات قد يكون أحلاها مُفرطًا فى مرارته. الارتباك سيد الموقف على الجانبين: القاتل الذى يغوص فى بركة الدم مُهدَّدًا بلعنته الدائمة، والقتيل الذى تلقّى الرصاصة الغادرة لحساباتٍ ارتجالية؛ لم تُنجز من أهداف الحياة مقدار ما أنجزت فى حفر القبور. لا الظالم يعرف كيف يُنفذ إرادته السوداء، ولا المظلوم يستطيع إلى النجاة سبيلاً، وكلاهما يتعثَّر فى أوراقه وخططه، ودوائر التحالفات التى تتقاطع فى كل مكان، وتتصادم فى غزّة فقط.
يُطلّ التناقض من ركام الخطابات الكثيفة للطرفين. قادة «حماس» ينتهجون السياسة حينًا ويُصعِّدون لغة القوَّة أحيانًا، وقد يحدث ذلك من الشخص نفسه؛ كما تردَّد فى أحاديث إسماعيل هنيّة عندما تبدَّل غير مرَّة بين تأكيد الثبات على خيار السلاح، وإبداء الاستعداد للتسوية على شرط الدولة المُستقلة، ثم عاد أخيرًا إلى دقّ طبول الحرب. الاحتلال أيضًا يُمارس اللعبة: من عنوان تصفية الفصائل والبقاء الطويل فى غزَّة، إلى قبول التهدئة حال تحرير الرهائن، وبينهما تتضارب رسائل الائتلاف الحاكم بالإشارة لإنجاز خطّة الصدام مع حزب الله، أو تشابك الدعوات بدءًا من تهجير الغزِّيين إلى استخدام القُنبلة النووية. الضامنون للطرفين لا يُبدون حماسةً للحلول الصفرية: فالعرب ينشطون لشقِّ مسار سياسى، لا يخنق القضية كما لا يُحوّل أرصدتها لأطرافٍ أخرى، والولايات المتحدة صارت أكثر تشدُّدًا فى مُعارضة عناوين ابتلاع الأرض أو طرد السكان؛ حتى مع مواصلة دعمها الوقح لآلة القتل.. من دون ظهيرٍ مُساند لمغامرة الوصول إلى الحافة، ومع عجز كل طرف عن شطب الآخر؛ تبدو اللغة الساخنة استهلاكًا دعائيًّا أكثر من كونها برنامجًا عمليًّا، بل ربما تكتسب دلالة مُضادة تمامًا لمعانيها الظاهرة.
إذا سلّمنا بأن الحرب تتوقَّف عند الذروة؛ فلعلَّ الطرفين يسعيان من خلال تصعيد اللهجة إلى تحضير المسرح لليوم التالى. أى أنه مع إخفاق الميدان فى حسم المواجهة، تتّجه الأنظار إلى المسار البديل واستحقاقاته، فيضغط كلُّ فريقٍ بما أُوتى من قوّة للوصول إلى أبعد نقطةٍ مُمكنة، على أمل أن يتحسَّن موقفه التفاوضى أو يحرم الغريم من عناصر القوَّة الضامنة لتحصيل أهدافه.. الظاهر الآن أن إسرائيل أخفقت فى هدفها المُعلَن بالقضاء على حماس، والأخيرة تفتقد مُقوّمات الصمود ولا تعرف خطوتَها التالية لو تحقَّق النصر، وعليه فإن اللغة الخشنة لا تُعبِّر عن هيمنة أىٍّ منهما على المواجهة، أو اقترابه من ربحها؛ إنما تُشير إلى جاهزيةٍ نفسية لإلقاء عدَّة القتال والسير إلى التهدئة من موقع نصف المهزوم، ولا فارق بين أن يكون الأمرُ عن قناعة، أو لاستقراء تحوُّلات الصراع، والوعى بأن التوازنات الدولية الحاكمة للمشهد من خارجه لم تعد راغبةً فى استمرار المقتلة، أو قادرةً على الصمت ومواصلة الاستمتاع بحالة الانسداد، وآثارها التى قد تمتد لتسخين مزيدٍ من الجبهات وصولاً للانفلات الكامل.
ضاقت دوائر المناورة. فالفصائل فى «غزّة» تعيش وضعًا شديد الحرج، وتتراجع فاعليّتها العسكرية وقدراتها اللوجستية؛ إن بتآكل المخزون أو بالعجز عن الإمداد وتأمين حركة المُقاتلين، فضلاً على الكُلفة الإنسانية الخانقة مع أكثر من مليونين يعيشون ظروفًا مُتدنّية للغاية. أمَّا إسرائيل فإنها عند أضعف حالاتها طوال عقود، وعلى التحديد منذ أكتوبر 1973. ربما يعجز سلاحُ المقاومة عن هزيمتها بشكلٍ ساحق؛ لكنه يستنزفها ويُنجز غايته من طريق الاقتصاد: كُلفة الحرب المباشرة تتجاوز 11 مليار دولار لستّة أسابيع، وعليها التزامات مُضاعفة من نفقات عسكرية إلى رواتب الاحتياط وتوقُّف بعض الأنشطة الاقتصادية، وتعويض الشركات والمدنيِّين من أهالى القتلى والنازحين داخليًّا، ما يُهدِّد بتراجع الناتج مع تضخُّم العجز والدين العام. وإذا كان الدعم الغربى الكاسح أوَّل الأمر لم يُمكِّن أحد أقوى جيوش العالم من تصفية مجموعات محدودة العدد والتسليح، فإنّ تحوُّله لصالح فلسطين لن يُعينها على دحر الاحتلال وإنهاء إسرائيل. وكما صُدِمت «حماس» فى أصدقائها من ميليشيات الشيعة، فإن واشنطن باتت مُضطرّة لاتخاذ مواقف صادمة لتل أبيب.. هكذا تبدو القدرات الذاتية أقلّ من المطلوب للحسم، والتحالفات الخارجية آخذة فى التبدُّل، ولن يصير بالإمكان استمرار المعركة. قد تُطرَح التهدئة على صيغة تبادل الأسرى، أو الهدنة الإنسانية المُؤقَّتة بدلاً من وقف النار الدائم؛ إلّا أن الهدوء قد يبدأ بتلويحةٍ عابرة، مثلما تندلع الحروب أحيانًا برصاصةٍ واحدة.
العداء مُستحكم بين الاحتلال والمقاومة، وسيظلّ. وطبيعة الأُمور أن التسويات الصعبة تكون مع الأعداء لا الأصدقاء. الضغط من كلِّ جانبٍ إلى المدى الأقصى يبدو بائسًا أكثر من الحرب نفسها: كأن يقول قادة «حماس» إنهم جاهزون لاقتتال طويل المدى؛ بينما صار القطاع رُكامًا تختنق فيه الحياة اليوم، ويصعب عليه أن يتخيَّل الغد، أو يقترح وزير المالية التوراتى الغبى «سموتريتش» تهجير الغزِّيين لأوروبا ودول أُخرى مقابل تسهيلات مالية، بينما يعجز عن تدبير حاجاته العاجلة ويخوض صراعًا على مُخصَّصات الائتلاف ومزايا اليهود المُتطرّفين. يُزايد وجهاء الفصائل ويطلبون المال والسلاح، وتبتزّ إسرائيل حُلفاءها الغربيين لحشو بنادقها. إنها صيغة احترابٍ بالوكالة؛ ما يجعل نهايتها فى عُهدة الرعاة، أكثر ممّا هى فى أيدى الخصمين المُتحاربين.
يقع أغلبُ العبء على الاحتلال؛ لكن لا يُمكن إبراء المُقاومة تمامًا. لقد خسرت القضية من الإشعال المفاجئ، وبدا أن ما تفجّر فى الغلاف كان أزمةً لا حلاً، وأن التداعيات شديدة القتامة تعود فى بعضها على الأقل إلى سوء حسابات الحمساويين، بينما أكبر ما يشغلهم أن يتسيّدوا القطاع، ولا يعنيهم لو حكموا أطلالاً أو جلسوا على قبرٍ كبير. تضخَّمت الفاتورة على الجميع، وما عاد مُمكنًا الفِكاك من سداد الأثمان السياسية والأمنية والاقتصادية.. وعدت حكومة نتنياهو بتصفية حماس، وإنهاء خطورة غزّة مع استعادة صورة الردع، والأرجح أنها أخفقت فى ذلك. وكما أن محنتها الحقيقية ستبدأ مع التهدئة؛ فإن الفصائل نفسها على موعدٍ مع محنةٍ أشد ضراوة: إمَّا تُنجز تل أبيب أجندة تنحية الإدارة القائمة وإحلال بديلٍ عنها، أو ترث الفصائل خرابًا لا يصلح للحياة؛ لتبدأ رحلتها القاسية مع ترميم الجبهة الداخلية والبحث عن إعادة الإعمار، بكُلفتها الباهظة وأُفقها الغائم. لا العرب ولا العالم سيتطوَّعون لدور الشُّرطىّ على حدود إسرائيل، ولن تتكفَّل الميليشيات الشيعية بمُداواة القطاع، وسينحصر خياره بالمجتمع الدولى الرافض لحماس، أو الظهير العربى الذى أوسعته الحركة تهجُّمًا ومُزايدة.. الأزمة الآن أن الحرب صارت وجعًا لا يُحتمَل، والتهدئة لن تكون إلّا ضغطًا قاسيًا على الجروح المفتوحة.
سرَّب الصهاينة إشاراتٍ عن مسح شمال غزّة ليكون حزامًا أمنيًّا جديدًا، يمنع صواريخ المقاومة من الوصول إلى مُدنهم الكبرى شمالاً. صحفٌ غربية بثَّت الرسالة، ولم يتأخَّر ردّ واشنطن برفضها أيّة خطط لاقتطاع أراضٍ أو تضييق مساحة القطاع؛ وربما كان الطرح على سبيل جسّ النبض. سبق أن قال وزير الزراعة الإسرائيلى إنهم سيستحدثون غلافًا جديدًا بعرض كيلو مترين إلى ثلاثة، ودعا آخرون لقَضم الأرض حتى يعرف الغزِّيون أن كلَّ سعىٍ للتحرر؛ سيرتدّ مزيدًا من البطش والاستعباد، وتحدَّث نتنياهو عن بقاءٍ أمنى طويل بعد إطاحة حماس، وآخر الرسائل المُزعجة أنّ قادة الحركة ارتحلوا جنوبًا، فى تلميحٍ إلى توسعة العملية البرّية بعد وادى غزّة وصولاً إلى رفح. وتعلم إسرائيل أن ما تطرحه أبعد من الواقع وإمكانية الإنفاذ، وأن ملف التهجير صار مُرادفًا للحرب الشاملة، ولن يحدث بصورة عكسية عبر استدعاء العرب للتكفُّل بعبء الغزِّيين فى بيئتهم؛ وتلك المُقاربات مع التيقُّن من استحالتها، قد تُشير إلى تهيئة الأجواء لمُخطَّط فكّ الارتباط الحيوى وعزل الشريط الساحلى عن الضفة، بمعنى قطع الجغرافيا الفلسطينية وإنهاء مسؤولية الاحتلال عن حياة المدنيِّين المُحاصَرين، أى إنهاء حلّ «الدولة المستقلة» عمليًّا. الإدارة الأمريكية على توحُّشها لن تتصدَّى للسيناريو شديد البؤس، ولن تقبله القاهرة وعمّان، كما أن ارتداداته ستعيد تنشيط المقاومة، مع وفرةٍ من الغضب ورغبة الثأر فى صدور الناس. خطابيّة القسَّام تُغذّى جنون النازية الصهيونية، سواء استوعبوا ذلك أو تورَّطوا فيه بعاطفيّة ونزوعٍ شعبوى، وربما تتعامى تل أبيب فتمضى فى طريق الخطر؛ لكن البرجماتيين الغربيين قد يُضطرون لإجبارها على العودة قبل انفجار المنطقة.
الخُلاصة التى يقترب الجميع من استيعابها، أنه لا مجال للنصر الكامل. ما يحدث أن إسرائيل تُعاند بضغط الكبرياء الجريحة والسعى إلى ترميم هشاشتها الفاضحة، و»حماس» ترفض خوفًا من المصير الغامض إذا تكشَّف عن إطاحتها خارج المشهد. أمَّا المُراقبة الرشيدة فتُفصح عن حقائق راسخة: الدولة العبرية لا تواجه خطرًا وجوديًّا كما روَّجت بحثًا عن غطاءٍ لشراستها، والمقاومة باقيةٌ تحت لافتة حماس أو غيرها، وما لم يتحقَّق بالسلاح لثمانية عقود قد لا يتحصَّل إلا بالسياسة؛ إذ لا أمن مع الاحتلال ولا سلام على شرط الإلغاء. نظرية الحدود الغائمة التى تتحدَّد بأبعد نقطة يصلها الجنود سقطت فى أكتوبر، وفى وادى عربة وحرب لبنان، ولا سبيل لإعادة إحيائها مُجدَّدًا. كما أن النضال من قاعدةٍ دينية أضرّ القضية، وقبول دولة على حدود يونيو 1967 دون تطوير الرؤية والخطاب، وعلى أمل توسعتها مُستقبلاً، ليس خيارًا عمليًّا، ويمنح العدو ورقة المظلومية والهلع التى يشترى بها صمت الغرب على سحقه لفلسطين وشعبها. قد لا يختلف عاقلان مُحايدان على أن الصهاينة شياطين دمويّون؛ لكن بعض المقاومين ليسوا ملائكة. لم يكونوا كذلك وهم يُلقون أشقاءهم الفتحاويين من أعالى البنايات ويسحلونهم وراء السيارات فى شوارع غزّة، أو عندما رهنوا المسألة الوطنية للعبة المحاور تحت عناوين مذهبية أو عرقية، تختصم العرب بأكثر ممّا تنتصر للفلسطينيين.
إسرائيل لا ينقصها عتادٌ ولا سلاح، والفصائل ليست القوّة التى يحتشد لها العالم. جاء الغربيون وهم يعلمون أنهم فى صراعٍ مُضمَر مع المحور الشيعى، وانطلقت «حماس» من اطمئنانٍ ساذج لحلفائها. الواقع أن الاحتلال أباد القطاع دون موقفٍ من المُمانعين، وكان قادرا على ذلك فى غياب واشنطن وأوروبا. تبادلت كلُّ الأطراف رسائلها الضرورية على جُثث أهل غزّة، تعويضًا عن تبادلها فى سوريا ولبنان والعراق ومياه الخليج.. ربما لهذا يترجَّح أن يمضى الصراع إلى التهدئة، لأن توابيت الغزِّيين ونُعوشهم فى جوهرها كانت صناديق بريد، وبعدما أنجزت دورها لا مُبرِّر لأن تظلّ مفتوحة؛ لأن فى ذلك تهديدًا بإشعال جبهاتٍ لم يحن موعدها بعد. صحيح أن الصهاينة لن يتخلّوا عن أطماعهم، ولن يكونوا أبدًا دُعاة سلام؛ إلّا أن ذلك لا ينفى أنّ خطاب النضال الفلسطينى فى حاجةٍ ماسة للتصويب. لا سبيل إلى مزج السياسة بالسلاح تحت لافتةٍ دينية، ولعلّ صيغة «مُنظمة التحرير» بشرعيتها الدولية وكتابها الوطنى وقدرتها على مُوازنة القوّة والدبلوماسية، أوقع من لغة الفقهاء وقرقعة البنادق المُؤجَّرة. التهدئةُ قادمةٌ؛ لكنّ المُؤلم أن يكون التوافق مع العدوّ أيسر من مُوافقة الشقيق، وقد أبرمت حماس عشرات التوافقات مع تل أبيب طوال عقدين، حافظت فيهما على القطيعة مع رام الله.. والحقيقة النهائية أنه لا فائدة لأيّة حرب أو تسوية، ما لم تكن فلسطين عنوانها الوحيد.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة