حالة من الانسجام تشهدها التحركات الإقليمية، والتي تقودها الدولة المصرية في إدارة أزمة العدوان الحالي على قطاع غزة، تبدو على العديد من المسارات، سواء دبلوماسيًا، وهو ما يتجلى في انعقاد قمة دولية (القاهرة للسلام)، بالعاصمة الإدارية الجديدة في أكتوبر الماضي، ناهيك عن الزيارات التي أجراها كبار المسؤولين الدوليين، إلى مصر، في الأسابيع الماضية، بهدف التنسيق، وهو ما أثمر في نهاية المطاف إلى توافق "عابر للمواقف"، في ظل أختلاف الرؤى، والانحياز الدولي لصالح طرف على حساب الآخر، في إطار تعزيز ثوابت القضية أو إنسانيا عبر تمرير المساعدات وكذلك ميدانيا في إطار ضرورة تحقيق التهدئة تمهيدا لوقف إطلاق النار.
إلا أن ثمة مسارًا إقليميا لا يقل أهمية عن المسار الدولي المذكور، يتجسد في القمة العربية الإسلامية التي عقدت بالعاصمة السعودية الرياض قبل أيام، والتي تمثل نطاقا يتجاوز الإقليم، وما صدر عنها من قرارات داعمة للقضية الفلسطينية، أبرزها تشكيل لجنة وزارية، للتحرك دوليا من أجل وقف الحرب في غزة من جانب، والانطلاق منها نحو إطلاق عملية سياسية جادة وحقيقية لتحقيق السلام الدائم والشامل وفقا للشرعية الدولية القائمة على حل الدولتين، وفي القلب منه تأسيس الدولة الفلسطينية المستقلة ذات السيادة وعاصمتها القدس الشرقية.
وبين المسارين الدولي والاقليمي، تجد أن ثمة حالة من التوازن، يبدو واضحا في قدرة الدولة المصرية على إرساء أساس دولي ينطلق من الشرعية الدولية، عبر سياسة "بناء التوافق" مع الغرب، يتجلى بوضوح في التغيير الكبير في الخطاب الذي تتبناه أوروبا، سواء على مستوى الدول، على غرار فرنسا وإسبانيا وغيرهما، والتي تحولت من تبني الدعاية الإسرائيلية حول حق الدولة العبرية في "الدفاع عن نفسها"، نحو الدعوة إلى التهدئة، ومنها إلى وقف إطلاق النار، ناهيك عن التأكيد على الالتزام بحل الدولتين، أو على المستوى الجمعي في إطار المواقف التي تبناها الاتحاد الأوروبي مؤخرا، وهو ما يمثل خطوة مهمة في إطار انتزاع "الشرعية" التي حاول الاحتلال إضفائها على انتهاكاته الوحشية على القطاع، والتي لا تقتصر على قصف المدنيين والمنازل والمستشفيات ودور العبادة، وإنما امتدت إلى دعوات تهجير السكان من مناطقهم، وما تمثله من جريمة دولية تقع تحت بند "الإبادة الجماعية"، بحسب القانون الدولي والأعراف الدولية.
والحديث عن "الشرعية"، يمثل لب المعركة التي تخوضها الدبلوماسية المصرية، في مواجهة الاحتلال الإسرائيلي، وهو ما يبدو على النحو سالف الذكر في إجبار المعسكر الغربي على تجديد التزامه بحل الدولتين، من جانب، وتجريد الاحتلال من طموحه في "شرعنة" العدوان وانتهاكاته، ودعواته التي تهدف إلى تصفية القضية الفلسطينية برمتها من جانب آخر، وهو الأمر الذي تحقق بصورة كبيرة مما ساهم في تحقيق قدر من التوازن، خاصة مع التغيير الكبير في مواقف الغرب، إذا ما قورنت باللحظة التي اندلع فيها العدوان على قطاع غزة.
بينما يمثل المسار الإقليمي، ركنا آخر في معركة "الشرعية" التي تخوضها الدولة المصرية، ومن ورائها القوى الرئيسية في الشرق الأوسط والعالم الإسلامي، في ظل ما أسفرت عنه قمة الرياض من قرارات ساهمت في تعزيز النتائج التي آلا لها قمة "القاهرة للسلام"، وهو ما يعكس القدرة على بناء تكتل دولي، يتجاوز الحالة الإقليمية المحدودة، يمثل دعمًا كبيرًا للحق الفلسطيني، سواء فيما يتعلق بالعدوان الوحشي، وهو ما بدا في دعوة الرئيس عبد الفتاح السيسي إلى إلى إجراء تحقيق دولي فيما ارتكبته قوات الاحتلال من انتهاكات في غزة، مما يمثل تفعيلا لمبدأ المحاسبة الدولية من جانب، أو تعزيز القضية بأسرها من جانب آخر.
ولعل تشكيل لجنة وزارية منبثقة عن القمة العربية الإسلامية، والتي انطلقت في أعمالها عبر البدء في جولة إلى الدول دائمة العضوية في مجلس الأمن، بمثابة ساحة جديدة للمعركة التي يخوضها الإقليم، بقيادة مصرية، في اللحظة الراهنة، عبر استقطاب قوى مؤثرة من شأنها المساهمة في عملية صناعة القرار الدولي، وعلى رأسها الصين وروسيا، والتي باتت تلعب دورا محوريا في للنظام العالمي، والذي يشهد انتقالًا ملموسًا من الحالة الأحادية التي هيمنت على العالم منذ أوائل التسعينات من القرن الماضي، نحو مزيد من التعددية.
ويعد الحديث عن التعددية الدولية، والتي باتت تمثل ضرورة ملحة في ظل العديد من الأزمات العالمية المعقدة، متواكبا مع الرؤية المصرية، في إدارة أزمة قطاع غزة، وهو ما بدا منذ اللحظة الأولى لاندلاع العدوان الإسرائيلي، عندما دعت إلى القمة الدولية، في ضوء رغبتها في توسيع نطاق الرعاية الدولية للقضية، بعدما فشلت الرعاية "الأحادية"، بسبب الانحياز الصارخ لطرف على حساب الاخر، وهو ما يعكس ادراكا بطبيعة المرحلة الدولية الراهنة ومتطلباتها ومعطياتها والمرونة الكبيرة في التعامل معها.
وهنا يمكننا القول بأن الدبلوماسية المصرية سجلت نقاطًا كبيرة على حساب الاحتلال الإسرائيلي في ظل إدارتها لأزمة العدوان على غزة، سواء عالميا أو إقليميًا، أو حتى داخل المعسكر الموالي للدولة العبرية، ناهيك عن التحرك تجاه استقطاب القوى الدولية المؤثرة في صناعة القرار الدولي، على غرار الصين وروسيا، وهو ما يمثل حالة من الانسجام الملموس في التحركات الإقليمية التي تقودها الدولة المصرية في اللحظة الراهنة، في إطار معركة بين الشرعية الدولية التي أرساها العالم منذ عقود، ومحاولات الشرعنة التي تسعى إليها الدولة العبرية عبر دعواتها المشبوهة التي أطلقتها منذ لحظة اندلاع العدوان