لا قولَ يعلو على أحاديث التهدئة، ولا فعلَ إلّا أصوات الرصاص والانفجارات. يُوشك الأسبوع السابع أن ينقضى وانسداد «غزّة» على حاله، ولا يبدو أن أحدًا من الفاعلين يضع قدمًا على طريق الخروج، أو حتى يستبين ملامحَه.. وبينما يفرض الواقع شروطًا مُغايرة، تتشدَّد خطابات المُتحاربين فى إعلاء الخيارات الصفرية القديمة. تحرّكت مواقف الغرب نسبيًّا، وأنفذ العرب ضغوطَهم الدبلوماسية لِما وراء خطِّ النار، وأفاقت المنظومة الأُمميّة من سباتها، وأبان محورُ الممانعة نواياه كاشفًا عمَّا فى قَعر الكأس من بارودٍ، آخره التسخين وليست غايته الإشعال؛ لكنّ إسرائيل تتمسَّك بتخريب القطاع وتكسيح الفصائل، وتتمترس «حماس» وراء التسوية على شرطٍ يضمن بقاءها مع مكاسب صالحةٍ للتسويق، ويتجاهلان أن الطموحات التى دخلا بها أكتوبر، لم يعد مضمونًا أن تتحقَّق فى نوفمبر وما بعده من شهور.
تنطبقُ على نتنياهو اليوم صفة «الرجل الخطير»؛ لناحية أنه مُتلبّسٌ بالجنون ويُدير الصراع على مُرتكزٍ شخصى، غايته النجاة الفردية من المُساءلة، وإطالة حُكمه على أمل «صورة الانتصار» التى قد تُعدِّل الأوضاع؛ ما يضعه تحت رحمة التوراتيِّين المُتطرّفين فى الائتلاف مثل سموتريتش وبن جفير، خشية أن يُطيحوا أغلبيّته الهشَّة. لكن صفة «الخطر» لا تغيب عن حماس أيضًا؛ لأنها تُعاين قلقًا وجوديًّا يتّصل بمصيرها، سواء السيطرة على غزّة أو حضورها بالمشهد الفلسطينى عمومًا. ويُضاف إليهما «حزب الله» مع المناوشات الدائرة، وتيقُّنه من الضربة المُؤجَّلة، وأن تصفية القطاع قد تتبعها استدارةُ الاحتلال شمالاً لتقليم أظافره، وقد بدا أن فكرة الردع ودعائيَّات الأمان التى تُباع للمستوطنين، لا ينسجمان مع بقاء طوق الميليشيات المحيط بالدولة، وانضباطه على نغمةٍ واحدة مع سلاح الداخل.. من هنا يتَّخذ التعقيد بُعدًا مُركّبًا: إسرائيل تتعشَّم القضاء على خصومها جميعًا، وحماس بين خيارى الوجود والعدم، والحزب يتجنَّب التصعيد، كما لا يُريد انكسار غزّة؛ حتى لا تدور عليه دائرة النار.
ما زال المشهد بعيدًا من الحسم لأى طرف، ونظريًّا فإن الهجمة البرّية لم تُحقّق أيًّا من أهدافها، والتقدُّم شديد البطء لدرجةِ قياسه بالأمتار، بينما المطلوب تمشيط 365 كيلو مترًا فوق الأرض وتحتها. ويُستخلَص أننا بانتظار شهورٍ من النشاط العسكرى، وأن ينتقل الإسرائيليّون من الشمال للوسط والجنوب، مع اشتداد المُقاومة وصولاً إلى القتال الحضرى، ثمّ العمليات الانتحارية عندما تضيق الخيارات. وفى المُقابل فإن وضعية الغُزاة فى الاقتصاد، وأنّ قوام الجيش من الاحتياط، وتعطُّل قنوات الإمداد الأمريكية بفعل الاختلاف الجمهورى على أوكرانيا، لا تسمح كلُّها بمزيدٍ من المُغامرات المفتوحة شهورًا أو حتى لأسابيع. ضغطُ الكُلفة الداخلية أثقل من الضغوط الدولية؛ والأخيرة قد تكون المنفذ الحافظ لماء الوجه، عندما تقتنع تل أبيب بأنها لا تستطيع المُواصلة دون سقف.
ربّما يترجَّح ذلك من حصيلة التقارير المُتتابعة عن النزيف الاقتصادى، وأحاديث الطبقة السياسية عن تهيئة الأجواء لتسريح بعض الاحتياط؛ بما يستنقذ السوق من مصيرٍ قاتم. المُقاربة المُتباطئة تتحسَّس ردود الفعل الإقليمية والدولية؛ كأنها تُلوِّح بورقة التهدئة فى سياق تخارُجٍ ناعم،ٍ لا يُقرّ بالهزيمة ولا يُفصح عن الضعف؛ لا سيما مع احتمال أن تتسبَّب فى تشجيع «نصر الله» شمالاً أو «السنوار» جنوبًا. قراءةُ المسكوت عنه فى الطرح، تتواءم مع إشاراتٍ عملية سابقة: أهمُّها النزول عن شجرة القضاء على «حماس» إلى اقتراح إضعافها، والتراجع المُتدرِّج فى ملف المساعدات والوقود وإجلاء الجرحى، وأخيرًا اختزال سرديّة الانتصار فى تحرير الأسرى؛ لتُصبح النقطة المقبول عندها بحثُ الهُدنة بما يعنى إيقاف الحرب، ولو على شرط التجدُّد؛ خصوصًا أن التجارب العملية تُؤكِّد أن الحروب لا تعود بالعقيدة والإصرار والغايات نفسها بعد الجولة الأولى.
القلق لدى الجانبين رُكنه الوعى بأن النقطة التى ستبدأ عندها الهُدنة، ربما تكون الأقرب للصيغة النهائية.. تنشطُ البيئة الإقليمية لتفعيل الدبلوماسية، وأنجزت قرارًا معنويًّا مُهمًّا بالأُمم المُتّحدة، ثم عزَّزته مُخرجات القمَّة العربية الإسلامية، وجاء إقرار الصيغة المالطية بمجلس الأمن ليستكمل طوق السياسة حول عُنق إسرائيل، حتى مع خفَّة القرار وغياب آليّاته التنفيذية، وانعدام فُرص وضعه تحت البند السابع. المُلفت أن واشنطن امتنعت عن التصويت بدلاً من «الفيتو» المُعتاد؛ أى صارت أكثر رغبةً فى الضغط على تل أبيب؛ لكنها تُريده مُؤسَّسيًّا بحشدٍ دولى، لا أن تظهر فى صورة المُتسلّط على نتنياهو، وقد رفضت استقباله فى البيت الأبيض وكانت ضدّه لوقتٍ قريب. المشكلة أن التطوُّرات فى محور التعقُّل، لا تُقابلها حركة ملموسة من فريق المُمانعة؛ ما يتسبَّب فى تخفيض الاستفادة من ورقة المظلوميّة لشعبٍ أعزل فى مواجهة آلة قتلٍ شديدة الوحشية.
تستوفى إسرائيل الشروطَ البنيويّة للدولة؛ لكنها تفتقد شرطَ الرشاد والأخلاق. ربما يعترف بها العالم فى النطاق المُؤسَّسى؛ إنما مقابل ذلك تتحلَّل عمليًّا من المنظور الشعبى، وستُعانى طويلاً من آثار تهشُّم الصورة المدنية، وانكشافها الإنسانى شديد الوقاحة.. تفكيكُ الصراع على أرضية قيميَّة؛ يتطلَّب من الجانب الفلسطينى التحرُّر من عبء ادِّعاء القوّة ومُناكفات الفصائل. الواقع أن فلسطين صارت مُنازعةً ثلاثية: الاحتلال بإجرامه المفتوح لابتلاع القضية، والسلطة ببرنامجها الوطنى العاجز عن تفعيل السياسة، والمقاومةُ بسلاحها المُلوَّن بأيديولوجيا مذهبيّة. وباختصارٍ جادّ لا يُمكن لأىٍّ منهم أن يُحرج خصومَه دون إعطاء الفلسطينيين شيئًا؛ أى على تل أبيب أن تنزل لطاولة التفاوض، وعلى مُنظَّمة التحرير وحماس أن يُنجزوا برنامجًا ينبع من الشارع، ويستجيب لشواغله وأولويَّاته، وينقطع عن سباق الحُكم بالداخل أو الارتهان لمحاور الخارج. الجمود عند التوازنات القائمة يجعل المدنيِّين فى غزَّة والضفّة ضحايا للجميع، وخصومًا لهم أيضًا؛ حتى لو غابت الخصومة جزئيًّا وراء كراهية العدوّ، أو الترفُّع على انتقاد الشقيق فى أجواء المحنة.
نشرت الولايات المُتّحدة جنودًا وبطّاريات صواريخ، وأرسلت بوارج وطائرات تكفى لمسح غزّة من الخريطة؛ لكنها لم تُفكّر فى إرسال مُساعدات ولا مستشفيات عائمة لمُداواة جرحاها. كانت الاندفاعةُ الأمريكية الحافزَ الأوَّل لإسرائيل على التشدُّد فى هجمتها، وبرمجة قائمة أهدافٍ أوَّلية تبدأ من آخر نقطةٍ يُمكن أن تصلها الحرب؛ لهذا لا يبدو خطابها الجديد جدّيًّا أو مُقنعًا، عندما تُرجِّح مسألة الهُدنة وتبادل الأسرى وتيسير جهود الإغاثة. لا الغزِّيون يستشعرون الصدق فى رسائل واشنطن، ولا تل أبيب تقبل أن تنزلق على مقياس البيت الأبيض من الدعم الخشن إلى الهزيمة الناعمة. هكذا تتعثَّر جهود خفض التوتر، ويتطلَّب تحريكها شيئًا من الغلظة أو المُواءمة؛ إمَّا لإقناع المُقاومة بأن التبريد المُؤقَّت لن يتبعه إحراق مُؤجَّل، أو لترضية الاحتلال بالتهدئة على شرط الإبادة اللاحقة. وإذا كان الطرفان قد اختبرا الوضع القائم، ولديهما مُتَّسع للبقاء معًا داخل القفص رغم متاعبه؛ فالخطورة كلّها على السلطة الفلسطينية التى تُواجه تغوّلاً فى بيئتها، وتُشطَب بسطوة السلاح من فضاء غزّة. أى أن الاشتباك المُتأجِّج فى القطاع ربما يُفضى إلى إزهاق الخيار السياسى؛ فتتساوى الحرب مع التسوية على قاعدة التوازن الصفرى والتجميد الطويل، والمُزعج أن يكون ذلك فى قلب الأهداف المقصودة من نتنياهو والسنوار.
النكهةُ الأصوليّة للصراع شديدة الوضوح: الصهيونية لا ترى الآخر إلا هدفًا للقتل أو الإزاحة استخلاصًا للوعد الإلهى فى أرض التوراة، والراديكالية الإسلامية تتسرَّع حرب آخر الزمان على أمل استحصال جغرافيا فلسطين التاريخية. بعيدًا من الجولة الأخيرة؛ فإن الخصومة مثالية للطرفين، وربما لو خُيِّر أحدهما ما اختار بديلاً للآخر. كأنّ هناك اتّفاقًا ضمنيًّا على تصفية القضية وإن تنازعت الوسائل؛ إذ المعنى المُضمَر لعنوان الإلغاء أنه إمَّا الفوز الكامل أو الخسارة الكاملة، ولا فارق عمليًّا بين مُخطّط التهجير الذى يحلُم به الغاصب، وأطماع التأميم التى تتسلَّط على عقل المغصوب؛ فالأوَّل يتطلَّع لكَنس الفلسطينيين دفعةً واحدة، والثانى يتدرَّج من استبعاد شُركائه إلى أن يكون بفرديَّته لُقمةً سائغةً لأعدائه.. ولعلَّ الدلالةَ أشد وضوحًا فى العناوين: أطلقت حماس عملية «طوفان الأقصى» على احتمال أن يغرق العدو والمنافس مع دمار الأرض، وردَّت إسرائيل برفع «السيوف الحديدية» فى إشارةٍ للذبح وتقطيع الأوصال داخل غزَّة وفى اتّصالها بالضفّة. إنه مشهدُ لعبٍ بالنار، ومع الخيارات الصفرية فقد تُحرِق فى الاتّجاهين، ويصير إطفاؤها عند الحدود الآمنة مُستحيلاً عليهما معًا.
الاستراتيجية الإسرائيليّة تشتغل على منطق الدفع إلى الحافّة، وكانت مسألة الوقود كاشفةً لهذا؛ ما يعنى أن المُبالغة فى التشدُّد والتصعيد قد تكون مُقدّمةً للتبريد المحسوب. تردَّد أخيرًا أن الوساطة أنجزت اتفاقًا لتبادل الرهائن، ثم تعطَّل فى خطوته الأخيرة، ونفته تل أبيب وقالت «حماس» إنها المرّة الخامسة التى يُسحَب قبل التنفيذ. تُريد الحركة مُقايضةً تُؤمِّن لها مبدأ «الكل مُقابل الكل» حتى لو افتُتح بالنساء والأطفال، وأن يتوزّع التسليم على الأيام مع نفاذ أوسع للمساعدات والطاقة؛ أمّا نتنياهو فعينه على الأسرى والثانية على رضا شُركائه المتطرفين، وقِيل سابقًا إنه رفض إخراج المسجونين الفلسطينيين للخارج، فاتحًا طريقًا وحيدة إلى غزّة. لعلّه يُضمر نيّة اصطيادهم لاحقًا فى القطاع، كما يعقدُ العزمَ على تصفية رموز المقاومة بالاغتيال هنا أو فى الملاذات البديلة؛ حتى لو توقّف العدوان بتفاهماتٍ شاملة. ويترشَّح عن ذلك أن أفكار التسوية المُقترحة بشأن هُدنةٍ طويلة لعدّة سنوات، قد تفشل فى أوَّلها أو تظلّ مُطوَّقة بالرُّعب لآخر لحظاتها؛ فإن أُبرِمت مع الفصائل المُسلحة لا أمانَ لإسرائيل ولا أُفق سياسيًّا يُعزّزها، وإن كانت مع السُلطة فلن يقبل الحمساويّون وقد يُفجّرونها برصاصةٍ طائشة.
الراديكاليّة تحكم الجبهتين؛ لهذا يخافان التنازلات. يُراهن المقاومون على طاقة الغضب وأن ينفلت الشارع الإسرائيلى، ويُراهن المُحتل على انهيار لوجستيات «حماس» وتفكُّك حاضنتها الشعبية. منسوب التضامن الصهيونى فى الأزمات قد لا يسمح بتحوُّل الانتقادات لفوضى شاملة، ومنطق المحنة يُقوّض فُرص تأليب الغزِّيين على فصائلهم؛ وهكذا قد لا يكتمل الرهان لأىٍّ منهما. النظر للقضية بديناميكيّةٍ يفرض على القسّاميين توسعة مدى الرؤية، وإشراك السُلطة وآلتها السياسية والدبلوماسية فى المشهد، والاحتلال لا يستوعب أن هدف إفناء الحركة لا يستقيمُ مع المقتلة المُنفلتة وتغذية ثأر المدنيّين. كلّ تلك الأسابيع وما زالت الصواريخ حاضرةً، والنزيف المُتبادَل لم يتقلّص، واليوم الذى يمرُّ دون انطفاء المقاومة هو انكسار للعدوّ، والمخاوف على أشُدّها من اشتعال الضفّة أو جنوب لبنان، ومن تطوُّر تكتيكات الحوثيِّين. هُزِمت الدولة العبرية عمليًّا؛ إنّما لصالح الغزّيين «القتلى والجرحى» لا إلى رصيد هنيّة أو عباس؛ والسؤال الإلزامى إلى أى مدى يضع القادةُ فلسطينَ قبل أنفسهم وتيّاراتهم، وثلاثة أرباع الإجابة عند «حماس» بالتحديد. التهدئة على مرمى حجر؛ لكن ما بعدها أهم وأصعب.. سقط الصهاينة فى بئر الدم إلى حُلوقهم، ويجب ألا يسقط مُتصدّرو المشهد الفلسطينى معهم بخفّةٍ، أو بانتهازية بغيضة.