في الوقت الذي يهيمن فيه العدوان على قطاع غزة، على المشهد الدولي، ليتجاوز في خطورته وتهديداته، أحداثا عالمية أخرى، ربما أبرزها الأزمة الأوكرانية، ليس فقط على خلفية القصف الوحشي والمتواتر على المدنيين ومنشآتهم، سواء المنازل أو المستشفيات أو دور العبادة، وما أسفر عنه من سقوط آلاف الضحايا، معظمهم من النساء والأطفال والشيوخ، وإنما في ضوء ما يؤول إليه من تهديدات وجودية، تعكسها الدعوات المشبوهة، التي أطلقها الاحتلال الإسرائيلي، وعلى رأسها تهجير سكان قطاع، في إطار محاولات صريحة لتصفية القضية الفلسطينية عبر تفريغ الدولة المنشودة من مواطنيها من جانب، وتصدير الأزمات لدول الجوار، في إطار مساع حيثية لـ"إعادة تدوير الفوضى"، بعد سنوات من الاستقرار النسبي في أعقاب حقبة "الربيع العربي".
والحديث عن محاولات إسرائيل تصدير الفوضى إلى دول المنطقة، ربما يدفع إلى الحديث عن الجبهة الداخلية، في القوى المؤثرة إقليميا، وفي القلب منها مصر، باعتبارها "حائط الصد" الأول، سواء في الدفاع عن القضية أو إضفاء غطاء من الحماية على منطقتها للحفاظ على المكتسبات التي تحققت في السنوات الماضية، بالإضافة إلى كونها كذلك المستهدف الأول من الدعوات المشبوهة التي أطلقتها سلطات الاحتلال في الأسابيع الماضية، وهو ما يسلط الضوء على التطورات المحلية، في الداخل، خاصة مع التزامن بين الأوضاع في غزة، واقتراب الانتخابات الرئاسية، المقرر انطلاقها في الشهر المقبل، والتي تحمل طابعا استثنائيا، إذا ما قورنت بأحداث سابقة، كانت تمر خلالها بمراحل مختلفة، أبرزها احتواء تداعيات الفوضى التي اندلعت خلال العقد الماضي.
استثنائية الانتخابات الرئاسية المقبلة، تبدو واضحة في إطار أوضاع إقليمية ودولية مختلفة، في ظل أزمة العدوان على غزة، وما تخللها من دعوات مشبوهة، لا تقتصر في نطاقها على استهداف الحالة الأمنية، والعودة بنا إلى حقبة الفوضى، وإنما تمتد إلى العودة مجددا إلى أزمنة الاحتلال، خاصة وأن سيناء تبدو الرقعة المستهدفة، والتي تمثل "لب" الحلم الإسرائيلي القديم، والذي يتطلع إلى دولة عبرية "من النيل إلى الفرات"، وهو ما يعكس خطورة الأوضاع في اللحظة الراهنة، في الوقت الذي تحقق فيه الدبلوماسية المصرية نجاحا باهرا في إدارة الأزمة، عبر تقويض تلك المساعي على المستوى الدولي، من خلال تعزيز ثوابت الشرعية الدولية، وحشد المجتمع الدولي حولها، وفي القلب منه دول المعسكر الغربي المعروف بانحيازه لإسرائيل، من جانب، بالإضافة إلى بناء تكتل إقليمي، من شأنه ممارسة المزيد من الضغط الدولي على الاحتلال لوقف العدوان وإجباره على الانخراط في مفاوضات الحل النهائي، لتحقيق استقرار إقليمي شامل.
ولعل التزامن بين الانتخابات الرئاسية والمستجدات في قطاع غزة، يسلط الضوء على الخطوات التي اتخذتها الدولة المصرية طيلة السنوات الماضية، منذ ميلاد "الجمهورية الجديدة"، بل وأجاب على العديد من التساؤلات، أبرزها يدور حول إصرار القيادة السياسية على التحرك على أكثر من مسار، عبر تعزيز القوة العسكرية، جنبا إلى جنب مع العمل على المسار التنموي في إطاره المستدام، بالإضافة تعزيز الاستقرار الإقليمي، ناهيك عما يمكننا تسميته بـ"التوغل" الدبلوماسي، في ضوء النهج القائم على إحياء "النقاط الميتة" في دوائر مصر الدبلوماسية، من خلال تدشين شراكات جزئية معها، قابلة للتوسع، سواء جغرافيا، أو من حيث نطاق التعاون.
فتعزيز القوة العسكرية، يبقى واضحا للعيان في السنوات الماضية، سواء في إطار الحرب على الإرهاب، أو تأمين الحدود، والتي تبقى ضرورة ملحة الآن أكثر من أي وقت مضى، بينما يبقى الجانب التنموي، بعدا رئيسيا في تحسين الأوضاع في الداخل، ولكن في الوقت نفسه تحول إلى أداة دبلوماسية لتعزيز استقرار المنطقة برمتها، عبر استلهام التجربة المصرية، بالإضافة إلى دوره في تخفيف حدة الصراع بين القوى المتنافسة، عبر توجيه بوصلتهم نحو التعاون لتحقيق المصالح المشتركة، وهو ما ساهم في تحقيق قدر كبير من الاستقرار النسبي على المستوى الإقليمي، بينما كانت الشراكات الدولية التي عقدتها مصر مع دول بعيدة نسبيا عن مناطقها الجغرافية قد ساهم في زيادة تأثيرها، وتعزيز الثقة في قدرتها على إدارة العديد من الملفات، ربما أبرزها الشراكة مع اليونان وقبرص، في مجال الغاز الطبيعي، والتي ساهمت في خلق مكانة متميزة لمصر داخل أوروبا بأسرها.
فلو نظرنا إلى أزمة غزة، باعتبارها نموذجا لحظيا، يمكن القياس عليه، نجد أن ثمة تغييرا كبيرا في الكيفية التي أدارتها بها مصر، بدءً من الدعوة للقمة العالمية، والاستجابة الكبيرة لها من قبل العديد من دول العالم بالإضافة إلى تحول القاهرة إلى "قبلة" الزعماء والقادة في إطار التنسيق، في انعكاس لحالة الثقة الدولية، إلى الحد الذي شهد فيه الخطاب الدولي برمته تغييرا كبيرا وملموسا، ليتجه نحو التوافق مع الرؤية المصرية، بينما كانت الحالة التنموية وما نجم عنها من استقرار سببا رئيسيا في بناء تكتل إقليمي قوى يمكنه مجابهة الاحتلال ودعواته، بعيدا عن التنافر الذي كان يسود التفاعلات الإقليمية قبل سنوات معدودة، في حين تحولت الشراكات الجزئية إلى أداة لتعزيز العلاقات المصرية مع دول الأقاليم الأخرى، بالإضافة إلى تنظيماتها الجمعية، وعلى رأسها الاتحاد الأوروبى.
وهنا يمثل توقيت انعقاد الانتخابات الرئاسية المقبلة، مفارقة مهمة، في ظل ما يقدمه من إجابات لتساؤلات عدة، طرحها العديد من أطراف المعادلة السياسية والمجتمعية في الدولة المصرية، بينما تبقى فرصة مهمة، لتعزيز جبهة الداخل، عبر مشاركة فعالة من قبل المواطن، يعبر فيها عن دعم دولته، وجهودها، وحربها الشرسة التي تخوضها، في ظل ما تواجهه من تحديات، تتجاوز في جوهرها مجرد التحديات الداخلية التي يواجهها المواطن، وإنما تمتد إلى أرضه ووطنه، التي مازال حلم السيطرة عليها طاغيا على خيال القوى ذات الطموحات التوسعية.
وهنا يمكننا القول بأن الانتخابات الرئاسية المقبلة، تتجاوز في أهميتها مجرد كونها حدث داخلي، وإنما تحمل في طياتها رسالة من المواطن المصري إلى العالم، تدور حول دعمه لدولته ومؤسساتها، في مواجهة كل التحديات المحيطة به، بينما يضفي بصوته "شرعية" لكافة الإجراءات التي تتخذها لحمايته وحماية أرضه وحماية القضية التي طالما دافع عنها وخرج متظاهرا من أجلها في الشوارع والميادين، وهو ما يمثل تحصينا للجبهة الداخلية المصرية وتعزيز صمودها فى مواجهة دعوات مشبوهة، ربما تشهد حلقات أخرى فى المستقبل.