لم تكن مصر زائرًا عابرًا لجبهة القضية الفلسطينية فى أيّة لحظة؛ بل اشتبكت معها من النقطة صفر، وظلَّت على اتصال وثيق بها إلى الآن. وانطلاقًا من ثقلها الإقليمى، ومركزيّتها فى قيادة العمل العربى؛ فإنها لا تمنّ على الأشقاء بذلك ولا تنتظر شُكرًا منهم؛ إنما تتوجَّب الإشارة إلى أنها أكثر الأطراف التى ساندت الفلسطينيين، وتكبّدت كثيرًا من اقتصادها ودماء أهلها لقاء استبقاء الملف مفتوحًا، والحقوق قابلة للاستعادة.. على هذا المعنى؛ فإن القاهرة أوثق العواصم صلةً بالقدس، وأقربها إلى محنة غزّة ومُعاناة الغزِّيين؛ والمنطق أن يتضاعف الاهتمام إذا تضخَّمت أطماع الاحتلال هناك، أو اسودَّت نواياه هنا، ما يعنى أن النزاع صار مسألةً مصرية مُباشرة، من زاوية الدفاع عن الوجود العربى فى بيئته الأصليّة المُحصّنة بحقوقها العادلة، والتصدّى لمحاولات تصدير الأزمة إلى دول الجوار إمّا بتفريغ الديموغرافيا، أو بإزاحة الجغرافيا.
كان عنوان التهجير حاضرًا منذ سنوات، وأُديرَت مُناقشاته فى أروقة الإدارة الصهيونية، وتسرَّب بعضها للعلن من خلال الإدارة الأمريكية حينًا، أو عبر تفاهماتٍ مع الإخوان فى سنةِ حُكمهم أحيانًا، على ما قال الرئيس «أبو مازن» بشأن إثارة الموضوع معه من المعزول محمد مرسى. وإلى ذلك لم يخفُت بريقها من حكومة شارون إلى حكومة نتنياهو، وإلى ورقة وزارة الاستخبارات الإسرائيلية قبل شهرٍ واحد. الموقف المصرى على مدى الأسابيع الماضية أطاح المُخطط عمليًّا، وعدَّل مُقاربة الإدارة الأمريكية إلى ما دون سقف الترحيل؛ لكن المُقترح لم يُسحَب تمامًا من على الطاولة، وما تزال تل أبيب تتحسَّس الخُطى بغرض إثارته مُجدَّدًا، أو تُناور فيما يخصُّ أُطروحات اليوم التالى للحرب، بشأن الاستعانة بقوَّات مصرية أو عربية أو أُمميَّة؛ ليُغلَق الملفُ مُؤقّتًا فيما يُشبه طردَ القطاع من الخريطة، كأقرب صيغةٍ يُريدها التوراتيِّون على أمل ابتلاع الأرض نفسها مُستقبلاً، وتلك من الأمور المرفوضة بحسمٍ فى القاهرة.
دخل البرلمان على خطِّ الأزمة من قبل. كانت البدايةُ بمجلس الشيوخ بعد أحد عشر يومًا من العدوان، تبعه «النواب» فى اليوم التالى، وأكَّدت الغرفتان دعمهما للقيادة السياسية وتحرُّكاتها، وتفويض الرئيس فى اتّخاذ ما يراه ضروريًّا لصيانة الأمن القومى، كما طُرِحت مُخاطبة الاتحاد البرلمانى الدولى بموقف المُشرِّعين المصريّين من الجرائم والانتهاكات الإسرائيلية. كان التحرُّك سابقًا على انعقاد «قمّة القاهرة للسلام»، وبجانب التظاهرات الشعبيّة الحاشدة فى الجمعة التالية، لعب دورًا فى بناء وتسويق حالة الإجماع الوطنية، وتثبيت الموقف المصرى عبر حزمة رسائل وإجراءات شديدة الجدّية والوضوح؛ ولعلَّ الزخمَ الواسع كان الفاعل الأكبر فى ترتيب أوراق القمّة، وتعديل أجندات بعض الدول الغربية، من التشدُّد الكامل فى إسناد الاحتلال ومقتلته الوحشية، إلى رفض التهجير والإقرار بنهائية «حلّ الدولتين»، ووضع مسألة الإغاثة على قدم المساواة مع تخليقة «الدفاع عن النفس»، بعدما كان لا صوت يعلو فوق صوت الجنون الصهيونى.
جلسةُ مجلس النواب الأخيرة، الثلاثاء، تحمل مُتغيِّرًا عريضًا. إذ لا تأتى تحت عنوان التفويض أو إثبات الموقف، بقدر ما تُثير تساؤلاتٍ عميقةً تقع فى صُلب المسألة الوطنية، واستدامة القضية الفلسطينية حيّةً ومُتحرّكة، والتقاطعات التى تُخيِّم على الأجواء بين أراضى فلسطين التاريخية وبقيَّة دُول الطوق. أمَّا الملمح الأبرز فيتمثَّل فى التقاء الأغلبية مع المُعارضة والحكومة على رؤيةٍ شبه مُتطابقة، تُؤكّد الطبيعة الجبهويّة للمُقاربات الوطنية على تنوُّعها، وتتجاوز المناكفات التقليدية بين تيارات الطبقة السياسية، وتلك رسالة بالغة الأهمية بشأن الانفتاح على الميدان بكلِّ مخاطره، والتحضُّر لِبَاقة الاحتمالات من أدناها صوتًا إلى أعلاها فِعلاً. وإذا كان الإسرائيليون يعيشون انقسامًا عموديًّا حادًّا بين اليمين القومى والدينى وبعض اليسار، وبين الساسة والجنرالات، وحكومة الحرب وأهالى المخطوفين، فإن القاهرة تُقدِّم نموذجًا ناضجًا للتآلف وصلابة الرؤية، داخليًّا فى اتحاد الشارع مع القيادة والمُؤسَّسات، وخارجيًّا فى التكامل مع الأردن وبعض المحيط العربى والعواصم الدولية الفاعلة.
قد يصحُّ القول إن الخطوة البرلمانية الأخيرة جاءت مُتأخِّرةً؛ إلا أنها تُنشِّط المجال العام فى سياق مُواجهةٍ طويلة، ستُدَار بالتراكم وتُحسَم بالنقاط. مواقف القيادة السياسية مُتقدّمةٌ على كثيرٍ من المُؤسَّسات والأحزاب وقادة الرأى، وقد استشعرت المسكوت عنه منذ الخطوة الأولى، وتصدَّت له بصياغاتٍ مكشوفةٍ لا تحتمل التردُّد أو التأويل. أمَّا أهمية التقاء النواب على ستّة عشر طلب إحاطة، بحضور رئيس الوزراء، وبالرسائل التى تتراوح من استقراء حقيقة الأوضاع والمُصارحة بصعوبة التحديات، إلى تأكيد مبدئيّة الخيارات والاستعداد للدفاع عنها بكلّ الوسائل؛ فإنّها تنبع من طبيعة المُؤسَّسة نفسها، وأنها المعنيّة المُباشرة بإقرار مسائل السلم والحرب، وتدعيم البرامج التنفيذية بالتشريع أو تدبير التمويل. وقد قال نوابٌ وُرؤساء لجان بوضوح إن مصر تنحاز إلى السلام؛ لكنها قادرةٌ على بدائله، وشدَّد «مدبولى» على رفض التهجير واتّخاذ كلِّ الإجراءات الواجبة لتحصين الأمن القومى.
المشهدُ المصرى لا يُقرَأ بمعزلٍ عن الجارى فى عمّان. جمَّدت الحكومة الأردنية اتّفاقًا وشيكَ التوقيع مع تل أبيب، وقال وزير خارجيّتها أيمن الصفدى إن اتفاقية السلام «وادى عربة» سيعلوها الغُبار، وتكرَّر الجزم بأن أيَّة تحرُّكات ناحية التهجير بمثابة إعلان حربٍ على المملكة. المنطق أن تتلقَّى حكومةُ النازيِّين الصهاينة تلك الإشارات، وتُعيد بناءَ مواقفها على قاعدةٍ أكثر تعقُّلاً، ما يُجنِّب المنطقةَ مخاطر تصعيد التوتّر أو الانزلاق لمواجهةٍ شاملة مع قوى أكبر. أمَّا التطرُّف وتسلُّط الدمويِّين على عقل الاحتلال فإنهما قد يُنتجان تأزيمًا أشدّ حدّة، لا سيّما مع ترقُّب القاهرة من تلّةٍ عالية، وحساباتها الديناميكية للمواقف والتطوُّرات، دون مُصادرةٍ على حقائق الأرض، ودون تهاونٍ فى السياسات الواجبة لردِّ الدراما إلى مسارها الصحيح؛ كلَّما كان مطلوبًا أن تشتدَّ خُشونة اللغة أو يتبدَّل الكلام أفعالاً، والدبلوماسية الناعمة إلى نزالٍ بالقانون أو العضلات.
لدى الدولة تقديرٌ عميق للموقف، بدا جليًّا فى اجتماع مجلس الأمن القومى، وما سبقه وتبعه من مساراتٍ سياسية وتنفيذية. كان وقوفُ الرئيس فى حشدٍ من المُقاتلين والمدنيين باحتفال الأكاديمية العسكرية، رسالةً بأن لُغة التهدئة تنبع من قوّةٍ لا من ضعفٍ أو عجز، وكذلك اصطفاف الفرقة الرابعة المُدرَّعة ضمن احتفالات اليوبيل الذهبى لانتصارات أكتوبر؛ إذ رغم برمجتها المُسبقة لا يُمكن تجاهل دلالاتها المُتّصلة بالمشهد المُستجَدّ. وإذا وُضِعت حالة الفاعليّة الساخنة والمُخلصة فى تمرير المُساعدات، والأجندة الرئاسيّة المُحتشدة بعشرات الاستقبالات والمهاتفات، ووساطة التهدئة انطلاقًا من تحرير أسيرتين إلى إنجاز اتّفاق أوسع قبل ساعات، بجانب حصيلة العمل فى قمّة القاهرة، وفى الأُمم المتحدة والقمّة العربية الإسلامية؛ فإن مروحةَ النشاطات المصرية تتّسع لتُغطِّى فضاء الإقليم والعالم؛ كما لو أنها تستنفد كلَّ المسالك الهادئة؛ لإنقاذ المنطقة من مصيرٍ لن يحتمله الجميع، أو لإقامة الحُجّة على العدوّ المُتغطرس، قبل أن يُفضى به الجنون إلى مآلٍ أقسى وأشدّ وعورة.
تضخّمت فاتورة الحرب؛ لكنها ستتوقَّف فى النهاية. مجانين إسرائيل يُريدون الوصول بها إلى نقطةٍ لا تعود بعدها فلسطين بكاملها قابلةً للحياة، وليس غزّة فقط؛ ولعلّ الفصائل وسَّعت خطوة المُغامرة إلى حدِّ أنها لم تعُد مُبصرةً أين وضعت قدمها، أو كيف يمكن أن تعود. وفى الإقليم دُولٌ كانت تتجهّز للقفز على القضية بالاقتصاد، وأخرى تختنق بالراديكالية أو الفوضى. وحدها مصر تُمسك بالتصوُّر الأكثر تعقُّلاً وحيويّة؛ إذ جرّبت الصدام مع الأُصوليّة وأزاحتها من المنطقة، وسجَّلت الانتصار العسكرى الوحيد على العدوّ ودفعته للانكماش بعد التمدُّد، وتتّصل عضويًّا بالقضية من أبواب التاريخ والجغرافيا، ولم تسعَ يومًا إلى المُقامرة بها أو التفاوض عليها كما يفعلُ بعضُ المُتاجرين. هكذا تنطلق القيادة السياسية، والمُؤسَّسات خلفها، من نيّةٍ صافية وأرضيّة قيميَّةٍ راسخة، وهى قادرةٌ على إحراج الأطراف جميعًا: الحركات التى أحدثت انقسامًا فى البيئة الفلسطينية ووضعت مصالحها فوق القضية، والمحتل الذى يلغُ فى الدم وينوء بسجلّه الإجرامى المُشين، كما أنه لا مصلحةَ لها كما فى بعض الدول، ولا نزاعات عقائديّة صفرية كما فى غيرها.. خُضنا الحربَ من أجل السلام، ونُخلِص فى المُسالمة لصالح الناس، ونُقدِّم فلسطين على أنفسنا، ولا نُقايض بها دورًا أو منفعةً أو صفقةً تجارية فى شرق ولا فى غرب.
يستقيمُ عودُ الدولة انطلاقًا من الذخيرة الناصعة، طوال خمسٍ وسبعين سنةً فى عُمر القضية، وبارتفاع كومةٍ ضخمة من المواقف والتضحيات والخسارات التى لم نستنكفها أو نُزايد بها. كأنّ القيادة والنواب يقفون على بناءٍ عالٍ من السوابق البيضاء، وفى يدهم «سلاح أكتوبر» الذى ما يزال تاج الفخار الوحيد فى مسار الصراع العربى الإسرائيلى. لن تتخلَّى مصر عن القضية وقد صارت تعتبرها رُكنًا رصينًا من أركان الإيمان فى العقيدة الوطنية، كما لن تتسامح مع أيّة أطماع فى أمنها وترابها.. المجانين فى «تل أبيب» يعون ذلك؛ لكنهم يُراهنون على الدعم الغربى الوقح، وعلى التسرُّب البطىء وصولاً إلى فرض الأمر الواقع. أهميّة الجلسة النيابية أنها تُجدِّد التذكير بثوابتنا التى لا تقبل المساس، ومن الضرورى أن تظلّ الرسائل حارّةً ومُتدفّقةً طوال الوقت، وألّا نركن إلى أننا أبلغنا مواقفنا وأشهرنا أسلحتنا، وأن الغربيِّين استوعبوا الأمر وعدّلوا أحاديثهم. فلسطين باقيةٌ وعصيّةٌ على التصفية، وفى كل الأحوال لن يكون الحل على حساب مصر، كما قال الرئيس سابقًا، وتردَّد تحت قبّة البرلمان أمس.