نجاح ملموس حققته الدولة المصرية فى إدارة الأزمة التى تشهدها غزة، أثمر فى نهاية المطاف عن إرساء هدنة، تمثل خطوة هامة على طريق وقف إطلاق النار، ومنها إلى مفاوضات الحل النهائى، فى إطار الشرعية الدولية، والقائمة على حل الدولتين، عبر تأسيس الدولة الفلسطينية ذات السيادة على حدود الرابع من يونيو وعاصمتها القدس الشرقية، وهو ما يمثل أولوية قصوى فى إطار الحق الذى كافحت من أجله الشعوب العربية والإسلامية منذ عقود طويلة من الزمن.
والحديث عن الأولويات يمثل أهمية كبيرة عند الحديث عن أزمة غزة، فى ظل معركة خاضها الاحتلال منذ اللحظة الأولى للعدوان لتشتيت انتباه العالم، وتوجيه أنظاره نحو القطاع، ليعمل فى اتجاه آخر نحو تقويض القضية، عبر دعوات التهجير التى أطلقها لتصفية الحق الفلسطينى، من خلال تفريغ أراضى الدولة المنشودة من سكانها، وهو الأمر الذى انطلق من خلاله عمل الدبلوماسية المصرية، حيث لم تفقد البوصلة على غرار غيرها، بل كان خطابها واضحا، من خلال العمل على تعزيز الشرعية التى ارتضاها العالم، وهو ما بدا سواء خلال قمة القاهرة للسلام، أو اللقاءات التى عقدها الرئيس عبد الفتاح السيسى مع زعماء الغرب، وآخرهم رئيسا وزراء بلجيكا وإسبانيا.
ولعل نجاح الدبلوماسية المصرية فى إدارة الأزمة التى شهدها القطاع يتجلى فى أبهى صوره فى تحولات متواترة فى الخطاب الغربى، والذى بدا فى لحظة العدوان الأولى منحازا مع الاحتلال، على اعتبار أن ما أقدمت عليه الدولة العبرية "دفاع عن النفس"، إلا أن الموقف شهد تغييرات تدريجية، بدءً من الدعوة إلى التهدئة، ثم الحديث عن وقف إطلاق النار، ومنها إلى توجه دول غربية معروفة بدعمها لإسرائيل نحو مناقشة الاعتراف بدولة فلسطين، وهو ما يتوافق مع الأولوية التى وضعتها مصر على عاتقها منذ اللحظة الأولى، والتى تتجسد فى إضفاء غطاء من الحماية على الشرعية الدولية فى مواجهة محاولات تقويضها والتى تبناها الاحتلال مستغلا الزخم الناجم عن عملية "طوفان الأقصى".
بينما تصاعدت الإدانات الدولية، تدريجيًا خلال مراحل الأزمة، بدءًا من الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو جوتيريش، وحتى العديد من دول العالم، وصولا إلى أسبانيا، والتى أعلن رئيس وزرائها بيدرو سانشيز أن القتل العشوائى فى غزة غير مقبول، وذلك خلال الكلمة التى أدلى بها فى مؤتمر صحفى فى معبر رفح، مما أثار حفيظة الدولة العبرية إلى حد مطالبتها الأول بالاستقالة من منصبه، بينما استدعت سفيريها من مدريد وبروكسل على خلفية تصريحات رئيسى وزرائهما من قلب أرض مصر وهو ما يعكس تحول كبير فى المواقف، من الانحياز الكلى والمطلق للاحتلال، وحتى إدانة الانتهاكات التى ارتكبتها، وذلك ما يمثل إنجازًا دبلوماسيًا كبيرا، تمكنت الدولة المصرية من تحقيقه، على صعيد الحشد الدبلوماسى فى غضون أسابيع معدودة.
نجاعة الدبلوماسية المصرية فى إدارة أزمة غزة، تجلت فى أبهى صورها فى تغيير المواقف الدولية، بما يعكس قدرتها الفائقة وتأثيرها الكبير فى المجتمع الدولى، فى انعكاس لنفوذ متزايد يتجاوز الدائرة الإقليمية الضيقة، إلى آفاق عالمية أوسع، حيث نجحت فى استثمار شراكاتها التى دشنتها خلال السنوات الماضية، فى تحقيق أكبر قدر من المكاسب خلال الأزمة الحالية، لتضع نفسها فى موقع القيادة الدولية، سواء على مستوى القضية، عبر تعزيز الشرعية من جانب، أو على مستوى الأزمة فى غزة، عبر ملف المساعدات الإنسانية وعبور الأجانب ومزدوجى الجنسية، وحتى قضية الأسرى، والتى تمثل أبرز بنود اتفاق الهدنة.
وهنا يمكننا القول إن النجاح الكبير الذى حققته الدبلوماسية المصرية، لا يقتصر على إدارة أزمة مرتبطة برقعة جغرافية محدودة، وإنما تجلى فى مسارين رئيسيين أولهما الانتصار للقضية الفلسطينية وتقويض محاولات تصفيتها، بينما يبقى المسار الثانى فى القدرة على الحشد الدولى لدعم القضية برمتها وإفشال محاولات الاحتلال لتخريبها منطلقا من ذريعة الدفاع عن نفس نحو ما تعتبره تهديدا لها من القطاع، بل وحولت رؤية العالم للمشهد من الانحياز المطلق لإسرائيل إلى حد إدانتها على ما ارتكبته من انتهاكات.