في الوقت الذي كانت فيه الأزمة التي شهدها قطاع غزة كاشفة إلى حد كبير لما آل إليه العالم من ازدواجية في المعايير، إلا أنها كشفت بالتزامن مع ذلك، أن ثمة تغيير كبير وواسع في النظام العالمي، وإن كان لم يتغير بعد، فعلى الرغم من استمرار الهيمنة الأحادية الأمريكية، إلا أنها لم تعد قادرة على الاستئثار بالمكاسب لحلفائها، دون غيرهم، كما أنها لم تعد المتحكمة في زمام الأمور بمفردها، في ظل صعود قوى دولية، ربما مازالت بعيدة نوعا ما عن القضية الفلسطينية، إلا أنها باتت تمتلك من الثقل الدولي الذي من شأنه إرباك الولايات المتحدة، وحلفائها، حال دخولهم على خط الأزمة، ناهيك عن بزوغ الدور الذي يمكن أن تلعبه القوى الإقليمية، بعيدا عن الدوران في فلك واشنطن، كما جرت العادة لعقود طويلة من الزمن، وهو ما يتجلى في أبهى صوره في الإدارة الحكيمة للدولة المصرية للأزمة منذ اندلاعها، والتي اتسمت بالاستقلالية المطلقة، والقدرة على حشد المجتمع الدولي وراءها.
فعلى الرغم من الدعم الذي حظت به إسرائيل من حلفائها، مع بداية العدوان الوحشي على قطاع غزة، نجد أن مخططاتها باءت بالفشل في نهاية المطاف، وعلى رأسها تصفية القضية الفلسطينية، من بوابة الدعوة إلى تهجير سكان غزة، وهو ما قوبل بالرفض المطلق من الدولة المصرية ومن ورائها الإقليم بأسره، في انعكاس للتغيير الكبير في المشهد العالمي، إلى الحد الذي تواجه فيه سلطات الاحتلال لأول مرة منذ النكبة فشلا دبلوماسيا بهذا الحجم، في ظل اعتمادها المطلق على الطرف الأقوى في المعادلة الدولية، منذ عقود طويلة من الزمن، وهو ما ينطبق كذلك على تذرعها بحجة "الدفاع عن النفس" على خلفية "طوفان الأقصى" للإمعان في قصفها الوحشي على المدنيين، ومعظمهم من النساء والأطفال، دون ردع أو رادع، وهو ما كان يؤتي بثماره من قبل، ولكن الأمور لم تسير كما جرت العادة هذه المرة مع تغير المواقف الدولية.
وهنا يبدو أن استثنائية العدوان على غزة هذه المرة لم يقتصر على الوحشية غير المسبوقة، أو الدعوات المشبوهة، والتي عكست رغبة الاحتلال الملحة لتصفية القضية الفلسطينية، وإنما أيضا في قدرته على كشف حالة الارتباك المهيمنة على المعسكر الغربي، بقيادة الولايات المتحدة، والشكوك المتزايدة حول قدرة واشنطن على القيادة المنفردة للعالم، وهو ما يمثل أحد إرهاصات نهاية الحقبة الأحادية، والتي تمثل امتدادا للعديد من المشاهد السابقة، ربما أبرزها أزمة الوباء والأزمة الأوكرانية، ما تخللهما من شقاق داخل أروقة الغرب، تعكس بجلاء تلك الحالة الضبابية التي باتت تهيمن على المشهد العالمي.
فإذا ما اعتبرنا أن الوباء، يمثل برهانا قويا على صعود الصين، في ظل قدرتها على احتوائه، وتقديم المساعدات للدول الأخرى، في الوقت الذي عجزت فيه الولايات المتحدة على القيام بالدور نفسه، بينما كانت أوكرانيا، دليلا على استعادة روسيا قدرا كبيرا من نفوذها الدولي، في إطار قدرتها على فرض رؤيتها في محيطها الجغرافي، بينما لم تستطيع واشنطن عن حماية حلفائها، فإن غزة تمثل نموذجا أكثر وضوحا للتغيير الكبير في النظام العالمي، ليس فقط فيما يتعلق بعجز الحليف الأكبر والأهم لإسرائيل على إضفاء الشرعية لأهدافها، وإنما أيضا فيما يرتبط بمسألة "الرعاية" الأحادية للقضية الأهم والأكبر والأطول أمدا في العالم، وهو ما يبدو في خروج حلفاء واشنطن عن الخط الذي طالما رسمته لهم، خلال أسابيع محدودة.
فبالنظر إلى المواقف الدولية، على سبيل المثال، نجد أن ثمة انشقاقا أوروبيا "ناعما" عن واشنطن، في ظل التغيير المتدرج للمواقف، سواء من العدوان، عبر التحول عن ذريعة "الدفاع عن النفس"، مرورا بالدعوة إلى التهدئة، ومنها إلى وقف إطلاق النار، وحتى إدانة الجرائم المرتكبة في القطاع، إلى الحد الذي أثار ما يمكننا تسميته بـ"الصدمة" الدبلوماسية لدى إسرائيل، وهو ما بدا في قرارها الأخير باستدعاء سفرائها لدى إسبانيا وبلجيكا إثر إدانتهما لما ارتكبته من جرائم، أو قبل ذلك في الهجوم على الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو جوتيريش ومطالبته بالاستقالة من منصبه بعدما أدان وحشية الاحتلال بل وذهب إلى أبعد من ذلك عبر الحديث عن مسؤوليته عما وصلت إليه الأمور خلال "طوفان الأقصى".
بينما تجلى في الوقت نفسه دور الإقليم، الذي تحول من مجرد أداة تستخدمها القوى الدولية لتعزيز مواقفها، إلى فاعل رئيسي، وهو ما بدا في القيادة المصرية للأزمة، والتي لعبت دورا رئيسيا في خلق حلقات توافقية، بين الأطراف المتنافرة في العالم، للوصول في نهاية المطاف، إلى الضغط على إسرائيل، والرضوخ إلى إبرام هدنة قابلة للتمديد، وهو ما يعكس تنامي دور الأقاليم في المشهد الدولي الجديد، بعيدا عن الدوران في فلك قوى واحدة.
وهنا يمكننا القول بأن العدوان على غزة، وإن كان حدثا متكررا في السنوات الماضية، إلا أنه هذه المرة استثنائيا، ليس فقط في طبيعته الوحشية أو أهدافه، وإنما أيضا باعتباره كاشفا لموازين القوى الدولية، في ظل صعود قوى جديدة، ربما لم تتدخل بالصورة المتوقعة على خط الأزمة، وإنما يبقى وجودها مربكا للقوى المهيمنة، من جانب، وتنامي دور الأقاليم في احتواء أزماتها، من جانب آخر، ناهيك عن قدرة القوى الإقليمية المؤثرة، وفي القلب منها مصر على حشد المجتمع الدولي، عبر تحقيق أكبر قدر من التوافقات التي من شأنها تحقيق المصالح المشتركة، وفي القلب منها الأمن والاستقرار، بما يعكس صعودها وتنامي تأثيرها ليتجاوز الإقليم الضيق، جانبا ثالثا من الصورة الدولية لمستقبل العالم.