يمضى قطار الانتخابات الرئاسية إلى الأمام؛ ويبدو بعض المُرشَّحين كما لو كانوا يمشون داخله بعكس الاتجاه. التجربة شديدةُ الأهمية فى الظرف والدلالة، وكلُّ المُبادرين إلى خوضها يستحقّون التحيّة والتشجيع؛ لكنّ جانبًا مُهمًّا من شدِّ الأَزْر أن نضع أيادينا على الثغرات، وأن نُقيِّم الأداءات ونُقوّمها؛ حتى لا يقع الانفصال غير المطلوب بين الغاية ووسائلها؛ إذ المُفترض أنَّ سباقات الديمقراطية التمثيلية على تنوُّعها حالةٌ ديناميكيّة دائمة، تتشابك حلقاتُها وتتوطَّد بالتراكم الطويل، وبالحَدس والتجريب وترقية الفكر والمُمارسة؛ بينما تشى كثيرٌ من تحرُّكات المجال العام بأنّ الجولة صارت مطلوبةً لذاتها، بغضّ النظر عن فُرص الواقع وتطلُّعات المستقبل، ما يعزل طقوسَ الأحزاب والحملات عن مرجعيَّاتها الزمنية والمعرفيّة، ويُبعدها عن أولوية الاشتغال على تأسيس حضورٍ دائم، وتعبيد الطريق اللازمة لاختبار فاعليّة الخطاب والتلقّى، اليوم وفى المستقبل.
يتوزَّع المشهد على قاعدةٍ رُباعية؛ وإن كان أحدهم أوفر حظًّا، لناحية أنه يخوض السباق من موقع الحُكم، ولديه رصيد مع الشارع بالخبرة والذيوع؛ فإنّ الثلاثة الباقين عليهم مسؤوليةٌ مُضاعَفة، انطلاقًا من أنهم يختصمون مُنافسًا قويًّا، ويُقدِّمون أنفسَهم دون جماهيريّةٍ أو خبرةٍ تنفيذية واضحة، فضلاً على تمثيلهم أحزابًا سياسية يلتزمون بترجمة أيديولوجيّاتها فى برامجهم، وبأن يصرفوا لها من مُختبر الرئاسة رصيدًا يُعينها أوّلاً فى الشارع، ثم فى مضامير البرلمان والمحلّيات والنقابات وغيرها.. وإن كُنّا على مرمى حجرٍ من تصويت المصريين فى الخارج، ويلحقهم الداخل بفارق أسبوع تقريبًا، فلعلّ ما تبقَّى لا يحمل جديدًا عمّا قدَّموه خلال الفترة الماضية، وما فات يكفى للنظر فى الحصيلة واستقراء آثارها، لا سيّما الاستفادة من مجال الحركة المُتاح، وما سبق الدعوة إلى الانتخابات وترافق معها، والأهمّ كفاءة الاشتباك مع السياقات المحلية والخارجية، بوصفها أوراق قوَّةٍ يُمكن أن تُعزِّز مراكز المُتسابقين، كما تكشف عن حدود الرؤية السياسية وما سقط من الرسائل المُعلَنة، أو سكتت عنه البرامج وحملات التسويق.
الملمحُ الأبرز أن الأحزاب الثلاثة المُمثَّلة فى السباق، يبدو كما لو أنها تخوض المواجهة من نقطة الصفر. وإن كان «الشعب الجمهورى» حديث النشأة نسبيًّا، فإن الوفد والمصرى الديمقراطى لهما تجربةٌ أوسع، بالأصالة أو بالتحالفات. لكنّ الأول لم يستحضر فى ورشته الانتخابية كثيرين من رموزه ذوى الخبرات الطويلة، وشهد خلافًا مُبكّرًا على بطاقة الترشُّح، وتبدو حملته مُكتفيةً بقاعدة عضويَّتها أكثر من الانفتاح على تيَّارها الليبرالى العريض، بينما الثانى تلقَّى ضرباتٍ قاسيةً من حُلفائه القدامى، ويُعانى تناقضًا مُركَّبًا بين تشقُّق الأيديولوجيا داخل الائتلاف، والبحث عن إقناع رجل الشارع بذاكرته المُتحفِّظة تجاه النُّخَب الطليعيّة. صحيح أنه غير مسؤولٍ عن تحوُّلات أصدقائه الذين نقضوا عهودهم معه، أو انحازوا لأجندةٍ بُنِيت تفاهماتُها تحت طاولةٍ سوداء؛ إلّا أن المُحصِّلة الأخيرة أنه يفتقد كثيرًا من عناصر قوّته، بينما لا ينشغل الناخب وراء ستارة التصويت باعتبارات التنسيق والمناورة وألاعيب القوميِّين واليسار.
إنْ تجاوزنا مسألةَ التصدُّعات الداخلية؛ فإننا سنصطدم فى المقلب التالى مُباشرةً بأزمةٍ أكبر، ألا وهى اختزال السباق الرئاسى وتكييفه عند صيغةٍ أخفّ من المُنازلات. فالواقع أنَّ شطرًا عريضًا من الحملات يبدو أقرب إلى معارك البرلمان، ومُناكفات الدوائر بما فيها من استمالاتٍ عاطفية، ومن احتمالات العبور بين عدَّة فائزين. يتجلَّى ذلك بوضوحٍ فى طغيان العناوين الاجتماعية على غيرها من الملفَّات، وفى شعبويّة الخطاب، وقلَّة الاهتمام بتفكيك القضايا التى تُتَّخَذ رافعةً دعائيّة، أو منصةً لاستهداف المُنافس الأبرز، ثمّ الإشارة الأشدّ سطوعًا فى إغفال موضوعات السياسة الخارجية؛ خصوصًا أنها تتَّصل عميقًا بأحوال الداخل، كما أنها تظلُّ ركنًا أصيلاً فى الإفصاح السياسى، وإثبات الجدارة بالمنصب التنفيذى الأرفع، ولسنا بالتأكيد فى مقام الفرز بين قائمةٍ من التكنوقراط، أو البحث عن مُديرٍ لدولاب الإدارة اليومية.
ربّما باستثناء حملة السيسى، وقد اتّصلت بالجاليات وعقدت لقاءات مع مُمثّليهم، يغيبُ الاهتمام بالمصريين فى الخارج عن بقيَّة المُرشَّحين. من خُلاصةِ أرشيف المُؤتمرات واللقاءات التليفزيونية والصحفية، يُمكن القول إن الملفَّ بكامله لم يُغادر هامش الحملات الثلاث، فلم تنشط كلها فى دوائر المُغتربين، كما لم تُثِر ما يقع ضمن أولويَّات علاقتهم بالدولة. وإن مددنا الخطَّ على استقامته؛ فلم تُطرَح قضية «سدّ النهضة» إلا عرضًا، وغابت تقريبًا ملفّات ليبيا والسودان وسوريا والعراق، ودوائر المصالح الاستراتيجية والأمن القومى فى أفريقيا وحوض المتوسط، ومعها ما يخص تركيا وإيران، والانفتاح على «بريكس» وغيرها من تحالفات الجنوب العالمى، بل إن «ملف غزّة» لم يستوف موضعَه اللائق تأسيسًا على استيعاب دور مصر فى الإقليم، أو على تقاطع القضية الفلسطينية مع دوائر أصيلة وخطوط حمراء للدولة المصرية.. باختصارٍ غير مُخلّ؛ انكفأ المُرشَّحون على البيئة المحلية تمامًا، حتى أنهم لم يلحظوا أنها محكومةٌ فى بعض تطوُّراتها بالرياح العابرة خارج الحدود.
موضوعُ الاقتصاد تقدَّم على غيره فى بناء البرامج والحملات؛ لكنه جاء مقطوعًا من السياق اللازم للفهم والتحليل. انطلق أغلبُ الطرح من افتراض أنّ الأزمة القائمة نتاجُ تفاعلاتٍ داخلية مُغلقة على ذاتها؛ فجاءت الحلول المُقترَحة رومانسيّةً وتبسيطية، كما لو أنها رُسِمَت فى مُختبراتٍ مُعقَّمة. قال مُرشَّح إن الحلّ فى وقف الاقتراض، ودعا آخر لتعطيل بعض المشروعات القائمة، وما قال أحدهما ماذا عن فجوة التمويل، ولا أثر التباطؤ المطلوب على مُؤشِّرات البطالة والتضخُّم. صحيح أن السياسات المالية والنقدية تقبل المُراجعة، وتتفاوت فيها الآراء؛ لكن التقديم المنطقى وحده يُمكن أن يقود إلى استخلاصاتٍ منطقية. وكان إغفال البُعد الخارجى حاجزًا يُغيِّب المنطق؛ إذ بدون النظر إلى تأثيرات فترة كورونا، ثم الحرب الأوكرانية وعدوان غزّة، وتداعيات التشديد النقدى فى الغرب، والصراعات الجيوسياسية وظلالها التجارية بين القوى الكبرى، لا يسهُل الحُكم بموضوعيّةٍ على الظرف الراهن محليًّا، ولا التماس مساراتٍ مُستقرّة ومُستدامة للخروج من النفق.
يُمكن أن تَفرش خطاباتُ الاقتصاد ذات النكهة الاجتماعية سجَّادةً حمراء فى ساحة التسويق السياسى؛ لكنها من دون تفكيكٍ جاد ومُقارباتٍ فنّية عميقة، قد تظلُّ مُجرّد اصطيادٍ وجدانى للجمهور، هذا إن غلَّبنا حُسْن النيَّة تجاوزًا عن احتمالات بَيع الوهم. وفى «قضية التعليم» مثلاً؛ ساق بعضهم حديثَ حقٍّ عن حاجته للتطوير، وعن تفعيل نِسَب الإنفاق الدستورية؛ لكنهم لم يُفصحوا عن الصيغة المثالية المُبتغاة ولا كيف نُحصِّلها، وغاب القطاع الفنِّى عن رُزمة العناوين، بينما يُساق الطرحُ تحت لافتة الحاجة إلى وَصْل المدرسة بسوق العمل، وتطويع ماكينة إنتاج البشر لخدمة سياسات التحديث والتنمية. هنا يحتملُ السياقُ كثيرًا من الملاحظات: أوّلها أن محور التعليم فى استراتيجية التنمية المستدامة 2030 طموحٌ جدًّا، ويتجاوز كثيرًا من أفكار المُرشَّحين، والموارد محدودة أمام سيلٍ هادر من الإنجاب والحاجات المُتصاعدة بعُنف، كما أن المنظومة حصيلةُ التقاءٍ بين الدولة مُخطِّطًا ومُموّلاً، والمجتمع شريكًا ومُستفيدًا.. إن كانت المُشكلة فى الرؤية فأين البديل؟ أو كيف نسدّ فجوة التمويل؟ وماذا عن المُقاومة الاجتماعية للإصلاح واقتراحات التغلُّب عليها؟ تفجيرُ قنبلة التعليم فى عَرْض البرنامج الانتخابى، ثم الانصراف وترك الشظايا للجمهور دون أجوبةٍ مُقنعة، ربما لا يكون الرهان المُناسب فى سباقٍ على العقل، لا على الأصوات الانتخابية وحدها!
ما يُطِلّ برأسه من ملفّ التعليم، يتكرَّر فى تناقضات الواقع والأفكار تحت عناوين الصحة والاستثمار والرعاية الاجتماعية وغيرها. وإذا كان السيسى «مُرشَّحًا» يبدأ سباقَه من نقطةِ الحركة؛ ما يعنى أن الخطوط العريضة لبرنامجه مُعلَنةٌ ومحلُّ تطبيق؛ فالباقون ينطلقون من الثبات، وعليهم تعويض فارق السرعة؛ ولا وقودَ لذلك إلا التفاصيل قليلة الشعبوية ووافرة الدقَّة والإحكام.. إنَّ الجولةَ الرئاسية سؤالٌ من المستقبل، ولا يصحّ أن تُستَدعى إجابتُه من الماضى؛ لكن المُشكلة المُركَّبة أن الجواب الخفيف يستبق الصياغةَ المُحكَمة للتساؤل. ما يُقالُ فى الغالب أنّ المنافسة بين مشاريع وصيغ حُكم؛ لكنها عمليًّا تُكَيَّف طوال الوقت بوصفها نزاعًا شخصيًّا مع «المنافس الرئيس». هكذا ينشغلُ قوام الخطاب بالنقد والتخطئة وتعيين المعركة بالأسماء والأوصاف، أكثر من انشغاله بصياغة البدائل المُتكاملة، وتحصين دعاوى التغيير بالنزاع على البرامج لا على هيكل النظام.. والمآخذُ أن تلك الآليّة تختزلُ العمليّةَ السياسية المُتّصلة فى مرحلةٍ وأفراد، وتُعطِّل فاعليّة التراكُم؛ لأنها تجعل كلَّ مُواجهةٍ فى المستقبل جولةً انقطاعية عمَّا سبقها. ربما لهذا سقط المنافس فى 2014 من مضمار السباق، وتلاه مَن حاول وفشل فى 2018، وهيمنت الهشاشةُ على أوراق المُتقدِّمين لاستحقاق 2024، حتى الذين أخفقوا منهم فى عبور العتبة الانتخابية؛ لأنهم جميعًا أسَّسوا رُؤاهم على خصومةٍ شخصية؛ فما تحقَّق لهم رصيد الشعبية، ولا أفادوا تيَّاراتهم بالتدرُّج الصاعد.
أمَّا الميزة التى توافرت ولم يُحسِن المُتسابقون استغلالَها؛ فإنها تخصّ انشغال الرئيس بالأوضاع الإقليمية وغيابه الشخصى عن الدعاية. صحيح أنّ فعاليّة استاد القاهرة رُفِعت فيها لافتاتُ تأييدٍ من بعض الأحزاب، لكنها ظلَّت فى نطاقها التضامنى مع غزّة، وأن حملته الرسمية تنشطُ بصورةٍ جيدة وديناميكية طوال الوقت؛ إلّا أن زخم الظهور الانتخابى المُباشر يُمكن أن يُحدِث انقلابًا أكبر فى التوازنات، ولقاء ذلك تُتاح لبقيّة المرشحين فُرصٌ لامعة للحركة والاتصال الجماهيرى؛ لكنهم إمَّا يتغافلون عن أولويات الشارع اتصالاً بمركزية موضوع الأمن القومى والسياسة الخارجية، أو يُديرون أنشطتهم بمنطق «حملات الظروف الطبيعية»، لا كما يفرض سياقُ الأزمة أو طبيعة التنافس مع مُرشّحٍ أقوى وأكثر حيويّة. إنّ التخلِّى عن فُرصة التكافؤ الكامل لا يخصم من حظوظ الانتشار واستمالة الناخبين فقط؛ إنما يُثير ملاحظاتٍ عميقة بشأن قُدرة المُتقدّمين للمنصب على المُناورة وحُسن التصرُّف وقُدرات الاستجابة السريعة للمُثيرات والتطوُّرات، وكلّها من صميم أدوار القيادة؛ لا سيّما فى بلدٍ كبير يُجابه تحدّيات استثنائية ويحيطه طوق النار من كلِّ جانب.
لا يُمكن الجَزم بمآلات السباق؛ وإن توقَّع المُرشَّحون أنفسهم أنهم فى مُنازلة صعبة مع مُنافسٍ قوى. لكن حتى مع التسابق بقناعة الهزيمة، لا يصح التغاضى عن أثر الجولة فى التأسيس لمُمارسةٍ سياسية أكثر كفاءة فى المستقبل. إنّ خطوات كالحوار الوطنى، ثمّ فَتح المجال العام وتنشيط الأحزاب، يُمكن أن تكون المُرتكَز لرَسم توازناتٍ جديدة داخل السلطة والمُؤسَّسات. نتيجةُ الرئاسة أوّل الطريق لا آخرها، وبعدها البرلمان الذى سيكون بوّابةَ الترشُّح لرئاسيّات 2030، والمحلّيات التى تُشكِّل عصبَ الإدارة والشعبية. إن الخسارة الوحيدة فى الجولة الحالية أن تنقطع عمَّا بعدها، وأن يتبدَّد التراكُم، ولا يترك المُرشَّحون رصيدًا لأحزابهم فى الشارع وبين الناخبين. وهذا الأثر لا تحكمه بطاقاتُ الاقتراع؛ إنما القدرة على انتزاع مساحةٍ فى عقل الناخب وإن لم تنتزع صوتَه اليوم. ربما يقترب القطار من محطَّته؛ لكن ما تبقَّى من فُسحة الوقت يكفى لتصويب المسار، وتعويض بعض الفواقد، وتكييف الشكل مع المضمون بما يُقلِّص التناقضات ويُحفزّ الجدّية والإقناع. بعض الخطابات يسهُل إنضاجُها سريعًا، وقد يتوجَّب إسقاط الهشِّ منها طالما لم يكن ناضجًا ولا مُقنعًا، وبقَدر الحشد وترتيب المراكز وجاهزيّة العمل بعد انتهاء الرحلة؛ سيكون مُمكنًا الحديث عن أداءٍ فاعلٍ وعن تراكُمٍ بنَّاء. إنَّ وعيَنا بالمستقبل رهينٌ باستيعاب الماضى؛ لكن المُهم أن نستوعبه ونتجاوزه، لا أن نظلّ محبوسين فى أوهامه المُريحة وتجاربه الباهتة.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة