في الوقت الذي تمثل فيه الهدنة التي يشهدها قطاع غزة، فرصة مهمة للغاية للالتقاط الأنفاس بعد ما يقرب من 50 يوما من القصف الإسرائيلي الوحشي والمتواتر، وما أسفرت عنه من مقتل آلاف البشر من المدنيين العزل، ومعظمهم من النساء والأطفال، تحمل الخطوة أهمية كبرى في أبعاد أخرى، تبتعد في جوهرها عن الأولوية اللحظية، والتي تتجسد في حقن الدماء، عبر تهيئة مجال للتفاوض، حول قضايا مرتبطة بالعدوان، على غرار الأسرى، أو تمديد الهدنة، وصولا إلى وقف إطلاق النار، بينما يمتد نطاقها في بعد آخر، نحو قضايا أكثر أهمية، ترتبط بمستقبل فلسطين، والقضية والدولة المنشودة، وحدودها الجغرافية، والتي تمتد من الضفة الغربية إلى قطاع غزة، مرورا بالقدس الشرقية باعتبارها العاصمة المستقبلية لها.
وفي الواقع، يمثل الحديث عن التفاوض على مستقبل القضية الفلسطينية، هو الحق الشرعي والحصري للسلطة الشرعية، ممثلة في منظمة التحرير، والتي تمثل الممثل الوحيد للشعب الفلسطيني، إلا أن العملية التفاوضية، ينبغي أن تحظى بشموليتها، لتمتد إلى كافة أطياف المعادلة الفلسطينية، ومن بينها الفصائل المتواجدة في غزة، ناهيك عن قطع الطريق أمام الدعوات المشبوهة، التي أطلقها الاحتلال خلال أيام العدوان، بفصل القطاع عن الأراضي الفلسطينية، وهو ما استنكرته الرئاسة الفلسطينية نفسها، بالتأكيد عن كون القطاع جزء لا يتجزأ من أراضي الدولة المنشودة، وهو ما يمثل أولوية مصرية، في إطار تعاملها مع القضية، عبر إضفاء غطاء من الحماية على القضية، بكافة أبعادها، وعدم الانجرار وراء محاولات الاحتلال لتسليط الضوء على الحالة اللحظية للعدوان، ليجد لنفسه المساحة الكافية للتلاعب بمقدرات القضية ومستقبلها.
فلو نظرنا إلى لحظة العدوان على غزة، في أعقاب عملية "طوفان الأقصى"، نجد أن ثمة دعوات مشبوهة لتهجير الفلسطينيين، من أراضيهم، بهدف تفريغ الأرض من شعبها، وتقويض أركان الدولة، عبر تجريد الدولة من مواطنيها، بينما ظهرت بعد ذلك دعوات أخرى، تبنتها بعض الدول الغربية، تقوم على استبعاد القطاع من حل الدولتين، وهو ما يمثل محاولة لتجريد القضية من أرضها، في ضوء العديد من المعطيات، أولها التهام المستوطنات للضفة الغربية من جانب، وعدم اعتراف الاحتلال بحق الفلسطينيين في القدس.
وهنا يتجلى النهج المصري، القائم على بناء الأولويات والانتقال بينها خلال مراحل الصراع المختلفة، وهو ما يعكس الحرص الشديد على مستقبل القضية برمتها، وهو ما يبدو في الموقف الحاسم والحازم، الرافض لفكرة التهجير، مع اندلاع الصراع، لحماية هوية المواطن الفلسطيني، بينما يبقى الاحتفاظ بوجود الفصائل الفلسطينية، في دائرة المعادلة التفاوضية خلال الهدنة، خاصة فيما يتعلق بملف الأسرى، هو بمثابة حماية لـ"مكونات" الدولة المنشودة، بالإضافة إلى تعزيز مكانة القطاع نفسه، باعتباره جزءً منها، دون فصل أو انفصال، هو ما يعكس قدرة كبيرة لدى الدبلوماسية المصرية على المناورة لتحقيق أكبر قدر من المكاسب، أو على الأقل الاحتفاظ على الوضع القائم، والذي يمثل أساس الشرعية الدولية.
ولعل الثقة الدولية الكبيرة التي تحظى بها الدولة المصرية في إدارة هذا الملف، هي أحد أهم مؤهلاتها للقيام بهذا الدور بكفاءة كبيرة، وهو ما يبدو في نجاحات عدة تحققت خلال الأسابيع الماضية، على غرار تغيير المواقف الدولية وتحويل بوصلتها نحو قدر من الاتزان من جانب، بالإضافة إلى نجاحها منقطع النظير في إجبار الاحتلال على قبول الهدنة، ناهيك عن الوقوف كحائط صد أمام محاولات تقويضها، إثر عقبات وضعها الاحتلال خلال تنفيذ المرحلة الثانية من صفقة تبادل الأسرى، ثم النجاح الكبير في تمديدها ليومين إضافيين، وهو ما يضفي المزيد من الشرعية للخطوات التي تتخذها القاهرة لحماية القضية.
نجاح القاهرة ونجاعة رؤيتها، انعكس على تحول أنظار العالم مجددا نحو القضية وشرعيتها، وهو ما يمثل تجاوزا للحظة العدوان نحو أفاق أوسع، تحمل رؤية أشمل لانتهاكات الماضي التي ارتكبتها قوات الاحتلال، وآمال المستقبل القائمة على ضرورة الانتصار للشرعية الدولية وهو ما بدا في إعلان إسبانيا وبلجيكا نيتهما الاعتراف بدولة فلسطين، وهو ما أثار حفيظة إسرائيل إلى حد استدعاء سفيريها من البلدين، وهو ما يمثل تقويضا لجهود الاحتلال في تحديد الرؤية الدولية لعدوانها الوحشي على التهديد الذي يمثله القطاع لها بعد "طوفان الأقصى"، وبالتالي التذرع مجددا بأحقيته في "الدفاع عن نفسه".
وهنا يمكننا القول بأن أولويات الدولة المصرية تعكس قراءة جيدة للمشهد، بصورته الكاملة، وهو ما يعكس انتقالا سلسا في التعامل مع كل مرحلة، رغم صعوبة المهمة التي وضعتها على عاتقها منذ اليوم الأول، في ظل حالة عدوانية مسعورة، تبدو في نهم للمزيد من الدماء، ومواقف دولية منحازة، إلا أنها لعبت دورا بارزا في تغيير وجهة الضغط العالمي نحو الدولة العبرية حتى رضخت للهدنة، ومن ثم التفاوض، وهو الأمر الذي يتطلع العالم إلى مواصلته، ليس فقط لإنهاء العدوان والوصول إلى وقف شامل ومستدام لإطلاق النار، وإنما أيضا للوصول إلى محطة التفاوض حول الحل النهائي.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة