تتّخذ القضية الفلسطينية ظاهريًّا صيغة الصراع الثنائى؛ لكنها مُركَّبةٌ فى العُمق: لا إسرائيل جبهةٌ واحدة، ولا الفصائل أيضًا؛ أى أكثر من ظالمٍ وأكثر من مظلوم، وبالضرورة عديدٌ من تقنيات الإخضاع وآليّات التمرُّد. كان الاحتلال خطأً استراتيجيًّا يستجلب بالضرورة مسارًا من المقاومة والاستنزاف المُتبادَل، مثلما كان الانقسام خطيئةً أفرغت القضية من عناصر قوَّتها، ورهنتها لمخاطر التآكل الداخلى. البحث اليوم عن استبقاء توازنات الماضى لم يعد خيارًا موضوعيًّا، كما أن التطلُّع لمخارج إلغائية يبدو خيالاً مُنقطعًا عن الواقع. إنّ غرام الصهيونية بالصراعات زهيدة التكاليف، وبإدارتها بدلاً من حلِّها، لا تتناسب مع تحديثات الميدان، وبالمثل فإن نزاعات الأشقاء على الحُكم فى جغرافيا سائلة، لا تضمن السلطةَ الفعلية، كما لا تستقطع الدولة المأمولة من أنياب الغريم الجَشِع.
بقدر ما كشفت عملية «طوفان الأقصى» عن هشاشة الاحتلال، فإنها افتضحت غياب البرنامج السياسى لدى مُتصدِّرى المشهد. ولقاء الدمار الذى طال «غزّة»؛ تقع مسؤوليةٌ ثقيلة على أكتاف مُنظَّمة التحرير وحركة حماس، فى ترجمة الحرب لرصيدٍ معنوى يستعيد العقل المُؤسَّسى، ويبنى أجندةٍ تحرُّرية تُفضى لإعلان الدولة، أو تُقرِّب من أطرافها. والمُشكلة أن الفاعلين مُختلفون: السلطة تُطارد سراب أوسلو بعدما فرَّغه الاحتلال من مضمونه، والمُقاومة الأُصوليّة تتمسَّك بفلسطين من النهر للبحر، ما يُوفّر للصهيونية المُتطرّفة غطاءً دعائيًّا من العداوة والإلغاء، صحيح أنها مُتغطرسة فى ابتلاع الأرض؛ لكنّ إسنادها بالمُبرِّرات السهلة آخر ما تحتاجه فلسطين من السياسيِّين والمُقاتلين.
الهروب من الفخّ يتطلَّب وِفاقًا وطنيًّا أوّلاً، ثم دفع البرامج والخطابات لنطاقٍ أكثر إقناعًا وموضوعيّة؛ لا سيّما مع اتِّضاح فجاجة الانحياز الغربى، والتسليم بحاجتنا العميقة لمُخاطبة العالم. لم تعُد المشكلة فيما يدور على أرض غزّة، رغم فداحة الكُلفة وغياب أفق التسوية؛ لأنّ الأزمةَ أعمق وأشدّ خطرًا، بالنظر إلى أن الهُدنة تظل تحت سقف «الوقفة الإنسانية» المُؤقّتة، وقد تتجدّد المواجهات بوتيرةٍ لا تقلّ شراسةً عن الجولة الأولى. لكن حتى لو افترضنا نجاح الوسطاء فى التهدئة الكاملة؛ فإن تجميد الميدان لن يكون مُفيدًا دون تركيز قاعدةٍ سياسيّة تُعيد إطلاق القضية. إن كان «حلّ الدولتين» قد تآكلت أطروحته القديمة، بأن تُصاغ الخطوة الأولى على طاولة التفاوض؛ فلعلّ البديل أن نفتتح الجلسة من مُنتصف الطرق، ليكون النزاع على الحدود لا على الوجود.
المقصود أن نقفز التلَّةَ العالية التى راكمت تل أبيب تُرابها عقودًا؛ لنبدأ سباق التسوية من مضمارٍ سهلىٍّ فسيح. كانت ثغرة «أوسلو» أنه رتَّب الاعتراف المُتبادَل، وأعاد منظمة التحرير لبيئتها؛ لكنه استبقى صُلب الفكرة بخصوص الدولة وهياكلها وحُكمها ومسائل الحدود واللاجئين لما أسماه «قضايا الحلّ النهائى». وكانت النتيجة أن «عرفات» فاز بالعَلَم والمقرّ، وخسر الدولة، ولأنّ خليفته كان أضعف فى التكتيك والاستراتيجية فلم يسدّ الثقوب أو يُبقِها على حالها؛ إنّما اتّسعت وقضمت مكاسب الاتفاق القليلة. من هنا قد لا يصحّ الرهان على التلموديِّين المخابيل فى إسرائيل، ولا «اليسار» الذى عاين مقتل رابين عقابًا على خطوته نحو التسوية، وربما البديل أن ينطلق القطارُ خارج الدولة العبرية، ثمّ تجد نفسها مُضطرّةً لاستقلاله، أو الاصطدام به واحتمال تأثيرات حمولته الدولية الثقيلة، سياسيًّا وقانونيًّا، على سرديَّتها وما تُروِّجه عن نفسها.
فى تلك النقطة؛ كان الموقفُ الأكثر تقدُّميةً ما طرحه الرئيس السيسى، خلال مؤتمره مع رئيسى وزراء إسبانيا وبلجيكا قبل أيام، عندما دعا للاعتراف بالدولة ومنحها عضويةً كاملةً بالأُمَم المُتحدة. وأهمية ذلك أنه يُسقِط أسوار السجن الإسرائيلى الذى يحبس فلسطين، ويُحرِق ورقةَ التوصيف المُحرَّف للصراع بوصفه مُواجهةً بين سُلطةٍ شرعيّة وميليشيات مُتمرِّدة، فضلاً على تخليص الدائرة الغربية من رواسب الماضى وأثقال التأسيس المغلوط، وبدلاً من مُطالبتها باقتطاع دولةٍ من الحليف اليهودى مُحترف العجرفة وادّعاء المظلومية؛ سيكون المطلوب أن تضطلع بمهمَّة ترسيم الحدود وضبط توازنات القوَّة بين بلدين كاملى الحضور والأهلية.
يُمكن فى سبيل ذلك احتمالُ الضغوط وتقديم بعض التنازلات. الواقع أن الفلسطينيين تنازلوا كثيرًا دون عوائد ملموسة، ولا يضرّ لو سدَّدوا فاتورةً إضافيّة، يشترون بها الدولة التى صارت بعيدةً جدًّا عن أى وقتٍ مضى. لكن يتعيَّن العِلم أنها مُواجهةٌ شاقّة، وأقرب لتسويق سلعةٍ جديدةٍ فى سوقٍ مُزدحمة بالعلامات الذائعة؛ ما يحتاج قدرًا عاليًا من الكفاءة والكياسة وإقناع الجمهور. كأن تُطرَح الفكرة باعتبارها خروجًا آمنًا من الصدام الدامى، بتواضعٍ جغرافى وسياسى، ومُبادرةٍ بأن تكون منزوعةَ السلاح أو تحت سقفٍ دولى، المهمّ أن يقتنع المُصوِّتون الدوليّون بأن البديل المطروح أقلّ كُلفةً وأعلى مأمونيةً من الوضع القائم.
فرصةُ اللحظة أن فلسطين فى الواجهة، وكُلفة الدم قد تدفعُ الأغلبيةَ لتغليب الضمير على حسابات المصالح، كما أن الولايات المُتّحدة وبعض أوروبا على موعدٍ مع الانتخابات، وأمام المدّ اليمينى يحتاج المُمسكون بالسلطة إلى إنجازاتٍ صالحة للتسويق، وربما تكون المسألة الفلسطينية خيارًا مثاليًّا، خصوصًا مع فاتورة الخطر المُحتمَلة حال بقاء الانسداد، وتسلُّط القهر على وجدان العوام والأُصوليِّين. لا يعنى ذلك أن الغرب الأطلسى سيُبادِر برفع بطاقة الدولة؛ لكنه على الأقل قد لا يُمزّقها أو يُمارس ضغوطًا على داعميها. كما أن الخطوةَ ليست صافيةَ المكاسب؛ إذ بقدر ما تُعيد ترسيم الصراع، وتُوفّر مقعدًا أُمميًّا كاملاً، وفرصًا أفضل لخصومة السياسة والقانون؛ فإنها قد ترتدّ بمزيدٍ من الشراسة الصهيونية، واستفحال الصراع على السُّلطة، وربما تنشيط جماعات الضغط اليهودية فى الخارج بأكثر ممّا عليه الآن.
تقنيًّا؛ لا تفتقد فلسطين الصفةَ الاعتبارية، وتحوز اعترافًا من عشرات الحكومات؛ لكنها عمليًّا أقل من دولةٍ، وإن كانت أكبر من جماعة.. عضوية الجامعة العربية والتعاون الإسلامى لم تمنحها الجسد السياسى الكامل، ولا بعثاتها الدبلوماسية ووضعيّة المُراقب بالجمعية العامّة، أمَّا داخليًّا فتتوزّع بين سُلطةٍ هزيلة يختصمها العدو، وميليشيّات مُؤدلجة تختصم الصديق. ويُمكن حال إزاحتها من الافتراضية إلى الوجود الملموس، أن تستفيد من البيئة الدولية بدرجةٍ أكبر، وتنفُذ إلى خياراتٍ أوسع من التضامن والدعم وخطط الإعمار، ومن الاستثمار فى المَأسسة وضبط الإدارة، والانفتاح على الحلول المُؤلمة من زاوية الندِّية لا الوصاية؛ كأن يُصار إلى الاستعانة بقوَّاتٍ أُمميَّة أو إقليمية دون مخاطر تصفية القضية، أو أن تكون شُرطيًّا يحرس الاحتلال.
إنَّ تأمين الاعتراف على نطاقٍ واسع، يُقلِّص المخاوف بشأن المستقبل، ويحلّ مُشكلة اليوم التالى بعد حرب غزّة. لن يعود سؤال الجغرافيا مُزعجًا؛ حتى لو أصرت إسرائيل على البقاء أو اقتطعت سياجًا عازلاً؛ فالأرض ستتحصَّن بوثيقةٍ عالمية، تنقل النزاع من الاختلاف فى حدودٍ غائمة، إلى التعدِّى على دولةٍ واضحة المعالم ومُكتملة الجسد. هكذا لن يعود الملف للوراء فى بنائه القانونى على الأقل، كما حدث سابقًا من أرضٍ نسبتها 44 % فى قرار التقسيم إلى أقل من نصفها حاليًا؛ وبالضرورة ستنتفى شرعية الاستيطان فى الضفّة، وتتعرَّى خطّة القَضم من القطاع المخنوق؛ مهما كان السلاح قادرًا على إنجازها مُؤقّتًا.. قد يبدو التصوُّر مُتفائلاً؛ لكنّ المنطق يقضى باستبقاء فُرص المُحاججة كما استُبقيت مفاتيح البيوت بعد النكبة، ومثلما بدأت إسرائيل الخيالية بورقةٍ حوّلتها واقعًا، يُمكن أن تُولَد فلسطين الواقعية بورقةٍ تُثبِّت حُلمَها، وتصون الحقّ فيما تبقَّى من تركة القسمة الظالمة.
الآن يحتفلُ العالمُ بيوم التضامن مع الشعب الفلسطينى، وقد اعتمده بالعام 1977 فى ذكرى قرار التقسيم المشؤوم. وحبّذا لو صار تضامنًا مع فلسطين الدولة، لا مع الشعب عاريًا؛ كما لو أنه آتٍ من المجهول وذاهبٌ إليه دومًا.. وعلى ما فى الطرح من إحباطات؛ فإنّ معوّقاته الداخلية قد تتجاوز صعوبات الخارج. ترهَّلت مُنظّمة التحرير ولم يعد ميثاقُها جامعًا، ولا حيويًّا فى مُوازنة السياسة والسلاح. بينما يتضارب برنامج «حماس» بين قبول الدولة ورفض إسرائيل، رغم الاعتراف الضمنى فى مسألة «حدود 4 يونيو» بمَن رسمها. صلاحيةُ الفكرة مشروطةٌ بأن تُعاد هيكلة المنظمة، مع إرخاء مظلَّتها على كامل الفصائل، وباغتسال الحركات المُسلَّحة من صِبغتها الأيديولوجية، وانخلاعها عن التحالفات والتلاوين فوق الوطنية، ثم الاتفاق الجماعى على الصيغة السياسية لما بعد الدولة، ومسارات الحُكم، والنقطة التى تتوقَّف عندها البندقيّة وتنشط الدبلوماسية، وما إذا كانت الأولوية لعلم فلسطين أم لرايات الكتائب ورغبات القادة.
المُعضلة أن السلطة لا تتخيَّل الساحة من دونها، و«حماس» ليست جسمًا واحدًا وإن أنكرت. لو كانت سيرة الرئيس عباس لا تخلو من ومضاتٍ مُضيئة؛ فإن حاضره صار عبئًا. والقسَّاميون مشطورون بين الخارج والداخل، وبين دائرة عربية وأُخرى شيعية، وقد لا يكون «هنيّة ومشعل والسنوار والضيف» على عقلٍ واحد كما يتخيَّل البعض. من هنا؛ فإن «تحرير الدولة» المرفوض فى إسرائيل؛ لأنها تُريد صراعًا قليل التكلفة فى السياسة والعنف، قد يرفضه الفُرقاء الفلسطينيّون بالدرجة نفسها؛ إذ سيُجبرهم أن ينزلوا عن التكتيك لصالح الاستراتيجية، وقد يشمل النزول إزاحةَ الطبقة المُهيمنة من الناحيتين. إنه المنطق نفسه الذى يشتغل عليه الاحتلال والمُقاومة، وقد تأكَّد أن الأُصوليّة «التوراتية والإسلامية» تخدم المسار الصفرى، وأن الحرب تُعاقب المُعتدلين وتُكافئ الجنرالات؛ ولن يُفرِّط المستفيدون من التركيب القائم فى مواقعهم؛ إلَّا لو اشتعل الفتيل فى ناحيةٍ ليُغيّر توازنات المشهد بكامله.
تل أبيب أقرب للتحوُّل العاصف؛ إذ تتزايد فُرص الخلاص من نتنياهو كلَّما طالت المواجهة، بالحرب أو بالهُدنة الموقوتة. الوساطة المصرية القطرية فى تهدئة الأيام الأربعة، ثمّ ليومين قد يتبعهما تمديدٌ ثانٍ، كانت اختراقًا مُهمًّا على الجبهتين: عاين الإسرائيليون موقفَ الهزيمة، بالرجوع عن خطاب الإبادة وتصفية حماس، ورأى الغزِّيون أن المآل النهائى قد يزيد على مأساتهم الراهنة ولا ينقص؛ إذ يتراكم الخراب والشهداء ولا تتحرَّر الأرض. قد يُعزِّز ذلك من فُرص التعقُّل وطلب السلام، ويُخرِج الضمير العالمى من ثلاجة السردية الصهيونية؛ وحال استخلاص الاعتراف بالدولة ستُوضع المُقاومة فى سياقها التحرُّرى، كما سيكتشف قادتُها حقيقةَ أن عليهم أن يكونوا رجالَ دولة، أو أن يُفسِحوا الطريق للقادرين على المهمّة، إن كانوا لا يُريدون المُغامرة بالخروج من حسابات الجميع.
يعود للفصائل الغزِّية الفضلُ فى تنشيط القضية، وفى رواج «حل الدولتين»؛ حتى داخل أشدّ العواصم تطرُّفًا فى دعم إسرائيل. لكن يظلّ ذلك من باب الزراعة التى يتوجَّب أن يتبعها حصاد، وإلى الآن لا تُقدّم «حماس» تصوُّرًا سياسيًّا مُغلقًا، ولا تتلاقى مع السلطة على برنامج مفتوح للأخذ والرد. إنّ إثارة مسألة الاعتراف وإلباس فلسطين ملابسَ الدولة الرسمية، طرحٌ مُهمّ فى الظرف والأثر، وإمّا يستحصلُ من المظلومية مسارًا مُمهَّدًا، أو يُعلّق الجرسَ فى رقبة الحركات على تنوُّعها؛ تجفيفًا لمَلامَةِ الغياب العربى والمُؤامرة الكونية. لا أنفى الغياب والمُؤامرة قطعًا؛ إنّما لا أحب البقاء على أطلالهما وقد لاحت فرصةٌ لرفع الركام وتعلية البناء مُجدّدًا. على العالم بكامله ديونٌ واجبةُ السداد للفلسطينيين؛ إنّما عليهم أن يُساعدوا أنفسهم أوّلاً، وسواء تحقَّق طُموح الاعتراف أو أخفق، فإن فكرة الدولة نفسَها قابلةٌ للإنجاز فورًا فى النطاق المعنوى، بالفكر والعاطفة والخطاب، وإذا لم تُبادر إليها الفصائل معًا؛ فلعلَّها تُفوّت الفُرصة لتطبيب جراح الأرض، ولا أحد أَشفقُ عليها من أبنائها، وما لم يتساند الأشقاء فلا فائدةَ من إسناد الأصدقاء، ولا افتكاك من دوَّامة العدوّ الذى ما أنجز، بكلِّ بطشه ووحشيّته، شيئًا أثمن ولا أعزّ عليه من تلوين الصراع ورعاية الفتنة والانقسام.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة