ستّة أيّام فقط من الهُدنة حقَّقت ما لم تُحقّقه ستّة أسابيع من الحرب. فُتِحَت كُوّة ولو ضيّقة للحوار، ونفضت السياسةُ عن كاهلها غبارَ البارود وتراب المبانى المُتهدِّمة، وصار بالإمكان مُعاينة المآلات المُحتمَلة بعيدًا من عضِّ الأصابع، ومن لَوثة الأُصوليّة، والضغط على الوتر الضابط لإيقاع المُواجهة إلى حدِّ الانقطاع. وليس من فائدة الوقفات الإنسانية إسكات البنادق أو تجميد المقتلة فحسب؛ إنما أن يُوضَع العقلُ على الطاولة، ويختبر المُختصمون فيه عواقبَ الافتتان بالجنون. وإن كان الغرقُ فى حمأة الكرِّ والفَرّ قد منع الطرفين من اختبار البدائل؛ كما هى طبائعُ الخشونة واندفاعة الأدرينالين، فإنهما الآن أقرب إلى الواقع، وتحصَّل لهما ما فات من رسائل وإشارات، وحتى لو عادا للصدام فلن يكون بنكهة الجولة الأُولى، ولا وفق حسابات «طوفان الأقصى» التى بدأت مُلتهبةً، وتولَّت ليالى الوَصل والمُقايضة تبريد رواسبها فى القطاع وتل أبيب.
بدأت إسرائيلُ عدوانَها من الذروة؛ فأعلنت أهدافًا غير واقعية، وحدَّدت عنوانًا للتهدئة شرطُه إفناء «حماس» واستعادة الأسرى دون مُفاوضةٍ أو تنازلات. فى المقابل أنجزت الحركة هجمةَ السابع من أكتوبر ثم تحصَّنت فى حاضنتها، وقد ربحت بالضربة كما ستربح بالبقاء على قَيد الحياة.. الحربُ عمَّقت جراح الاحتلال وعزَّزت مكاسب المقاومة؛ لكن الأخيرة ربما تنوء بعُقدة الذنب تجاه الغزِّيين، وعليها التزاماتٌ واجبةُ الوفاء؛ فكانت الهُدنة مخرجًا اضطراريًّا للطرفين: نتنياهو لإعادة الحسابات وتقليص ضغط الشارع، والقسَّام لترتيب الصفوف وإيقاف نزيف القطاع. هكذا انتهت جولةٌ ولم تُحسَم المباراة، ونظريًّا تبدو العودةُ للسلاح مسألةً شبه يقينية؛ لكنّه يقينٌ من النوع الذى تسهُل خلخلتُه بتكثيف الشكوك والتساؤلات.
بُنِيَت المواجهةُ على مُرتكزين: فصائل «غزّة» تتوخّى تنشيط القضية وأن تحوز ولايةً كاملة على فضائها، بما يُلامس المُصادرة والاحتكار، واليمين الصهيونى غايتُه الثأر واستعادة الرَّدع، ثمّ خَنق ما تبقَّى من فلسطين لو استطاع إلى ذلك سبيلاً. أمَّا الحصيلةُ: فقد عاد الصراعُ للواجهة، لكنّه ترافق مع شِبه إجماعٍ دولى على شطب «حماس» من المُعادلة، وأباد نتنياهو شطرًا عريضًا من القطاع وما خفتت المُقاومة ولا عاد الأسرى، فضلاً على صلابةٍ مصريّة أُردنيّة أحبطت مُخطَّط التهجير والتصفية. هنا لا تبدو التوازناتُ القائمة مُقنعةً للطرفين؛ لذا فالهُدنة أقرب إلى استراحةٍ لحشو البنادق، وإن كان إيقاعُ الرصاص محكومًا برغبات المُتقاتلين؛ فإنّ ملامح التهدئة تتشكَّل خارجَ الميدان، ومساراتها تُرسَم بأقلام الضامنين والوسطاء.
لم يكن جنرالات نتنياهو راغبين فى الوقفة الحالية؛ لكنهم أُجبِروا عليها بإرادةٍ أمريكية. كما لم يكن سهلاً أن تنخلع الفصائل من مدارها الشيعي؛ لتُبرم صفقةً تغيب عنها قيادةُ المحور الممانع؛ وإن بدا أنها تُوافق عليها وتُقرّ محتواها. الموجةُ التى بدأت ضعيفةً يُمكن أن تتضخَّم وتُغرِق الشاطئ كاملاً؛ أى أن تتمسَّك واشنطن باستعادة تل أبيب تحت أُفق سياستها الخارجية، وأن يسير الحمساويون وراء الجزرة المُعلَّقة فى سارية الراية الفلسطينية. بهذا التصوُّر يُمكن أن يكون التلويح الأمريكى بورقة الدعم مدخلاً لعقلنة المواقف الصهيونية، وأن ينشأ عن التعقُّل سياجٌ يُباعِد بين المقاومة وأجندة رُعاتها المذهبيِّين؛ وكُلّما اختبر الفريقان قساوةَ الاحتراب بجهٍد فردى؛ استوعبا أهمية احترام رُؤى الشركاء، وتَرك الباب مفتوحًا لكل الاحتمالات مهما بدت خفيفةً ومُزعجة.
يبحثُ الجميعُ اليومَ عن آمالٍ تُكافئ الخسائر وتكاليفها؛ لكنهم يستكشفون مع انقضاء الساعات، حربًا وجدلاً، أن كثيرًا من الفواقد لا تقبل التعويض، وربما يكون الإمساكُ بالمُتاح أفضلَ من اقتفاء سراب المستحيل. ما عادت إسرائيل تُخيف الفلسطينيين، ولا بمقدور «حماس» أن تتسيَّد المشهد دون شريك، والعواصم الوازنةُ لن تستمر فى سداد فواتير المُغامرات غير المحسوبة بسخاءٍ وانضباط، كما يصعُب على المُمانعين الاحتفاظ بجبهة «غزّة» بينما يتهدّدهم الخطرُ فى ضاحية بيروت. ربّما رأى البعض فى التزام «حزب الله» بالهُدنة بُعدًا دوليًّا للتفاوض؛ لكنه فى الواقع كان تبرُّعًا لافتداء النفس، وقد صار واضحًا أن الاحتلال يفصل بين الجبهتين، وقد يقبلُ بنصفِ هزيمةٍ فى الجنوب؛ إلّا أنه لا بديل لديه عن انتصارٍ كامل فى الشمال، ولو تأجَّل لبعض الوقت.
الواقفون على جبل صهيون أزاحوا خيارَ التفاوض تمامًا، وأزاحه القساميِّون ما لم يكُن على شرطهم. وعندما ساروا إليه جميعًا، مُختارين أو مُجبَرين، كانوا يُعيدون برمجة استراتيجيَّاتهم بأكثر ممّا يُناورون فى التكتيك. كأنَّ إسرائيل تعترف بحماس التى وصمتها بالإرهاب وأعدَّت مراسم دفنها، والأخيرة تنزل عن ميثاقها «من النهر إلى البحر»؛ لتُفاوض فى صيغة العداوة لا إنكار العدوّ.. يعنى ذلك عمليًّا سقوط كلّ خيارٍ لا يُقرّ بفلسطين، وانطفاء كلِّ تحالفٍ يُشجّع المقاومة على الذهاب إلى المجهول. هكذا تبدو الصفقةُ أكبرَ من هُدنةٍ موقوتة؛ وإن ظلَّت أقلَّ من تهدئةٍ دائمة. صحيح أنها لم تُخطِّط ملعبَ المُستقبل إلى الآن؛ لكنها تقترحُ تصوُّرًا لتفكيك الجبهات القائمة، وإعادة تركيب المشهد وفق مُعادلةٍ مُغايرة.
رغم رداءة الحرب تحت كلِّ ظرفٍ؛ فإنها أصدقُ فى تخليق التفاهمات. صنعَةُ النار أن تصهر الصُّلبَ مهما كان قاسيًا وتُصفِّيه من شوائبه، وقد أنجزت دورها عندما فصلت واشنطن عن مخابيل «الكابينت»، وعزلت الفصائل عن وصاية المُمانعين. سمحَ ذلك بأن يلعب البيت الأبيض دورًا فى الدفع نحو السياسة، وأن تتقدَّم القاهرة والدوحة لإنجاز الوساطة بعيدًا من فجاجة الإسناد الغربى، ومن اعتبارات المحاور التى تُوظِّف «غزّة» ضمن باقة ساحاتها الساخنة. أنتجت الديناميّة الجديدةُ ضامنين أكثر فاعليّةً واستقامة، لا إلى غطرسة الميليشيا ولا دوائر المُداهنة الاقتصادية والتطبيع المجّانى، وبالمنطق فإن وُسطاء الهُدنة سيكونون وسطاء ما بعد الحرب، ما يعنى أنه لا سبيلَ لاستخدام القضية فى صراعات الإقليم، ولا للقفز عليها بالمشاريع وصفقات التجّار.
الدلالةُ الأوضح تُفصِح عنها فلسفة مصر وقطر وتحرُّكاتهما. إذ بينما استثمر كثيرون فى الانقسام وسباقات الهيمنة؛ قادت الأولى جولاتٍ على مدى سنوات للتقريب بين الفصائل، واحتضنت الثانية مُؤخّرًا لقاءات بين «حماس» وعناصر من فتح ومجموعة دحلان. ورغم السوابق التى تُؤكِّد صُعوبة بناء الإجماع، فالإشارةُ أننا إزاء ذهنيّةٍ فلسطينية جديدة، ونسيجٍ وطنى على نَولٍ أحدث؛ بعدما تأكَّد الفرقاء أنه لا فُرصةَ لأحدٍ فى اللعب مُنفردًا.. ربما اقتنع الحمساويّون بأنهم فى حاجةٍ لغطاءٍ سياسى، أو يسعون إلى وراثة «فتح ومُنظّمة التحرير»؛ لكنّ المُهم أن المشهد يُعاد بناؤه على قاعدةٍ أعرض، وبأطيافٍ وتلاوين أعقد من سرديَّة التمثيل التاريخى وسطحيّة التأسيس العقائدى؛ وستتكفَّل النقاشات الداخلية ونزاعات المكانة والدَّور بإنضاج التجربة، وصولاً لمعمارٍ أشدّ رسوخًا ممّا كان عليه البيت الفلسطينى فى عقوده الأخيرة، وتحديدًا منذ تشييع جنازة «عرفات»؛ إيذانًا بانقضاء زمن الزعامة الكاريزميّة، والحاجة لتخليق بديلٍ جبهوىّ، يستعصى على التصفية بالسمِّ أو الترهيب أو الإغراء.
طُرِح اسم «دحلان» من قبل؛ جسرًا لإنهاء الانقسام ووَصل «غزّة» بالضفّة. هو ابن القطاع وفتح، وعليه مُلاحظات من الطرفين، وله حلفاء وأصدقاء أيضًا. ربما تدرس «حماس» إمكانيّةَ العمل معه، ويظلّ مروان البرغوثى بديلاً مُناسبًا إذا نجحت خطّة «تبييض السجون»، أو أُدرِج فى صفقةٍ مُقبلة. حتى السلطة باتت مُقتنعةً بحاجتها للهيكلة، والفصائل الأُصوليّة تُناور مع يقينها بضرورة تغيير جلدها واستبدال صُفوفها الأُولى. وسيأخذ الطريق إلى التحديث وقتًا وجهدًا، وسيعترضه نُكوصٌ ومُناكفات وحسابات شخصيّة وأيديولوجية،بعضها عابرٌ للحدود أو «فوق فلسطينى»؛ لكنّه مسارٌ لا فِكاك منه ولا أملَ إلّا فيه؛ سواء عادت الحرب، أو استطال الهدوء العابر ليصير تهدئةً راسخة.
وفى مسألة الهُدنة؛ فقد تمدَّدت وفق حساباتٍ نفعيّة لدى الطرفين. وما تزال الأسباب التى أنتجتها قادرةً على تكرارها، والوسطاء مُستعدّون لذلك وراغبون فيه. ما تبقَّى من الأسرى يُقارب المائتين، ومنهم عسكريّون ستكون لهم صفقاتٌ خاصّة، وبعيدًا من الأرقام المُدقَّقة فربما تكفى حصَّة المدنيِّين لشراء أُسبوعين أو أكثر؛ لكن إسرائيل ستتهرَّب من إرخاء الحَبل خوفًا على معنويّات الجنود ودَعم الحلفاء. إن تعجَّلت طَرق الجبهة فى سُخونتها فقد لا يزيد صمتها على عشرة أيام أو أكثر قليلاً، وإن أخضعتها واشنطن فقد يأتى الرفضُ لاحقا من «السنوار»؛ بعدما يستنفدُ هامش المُبادلة المُتاح. أى أن باعث التوقُّف يختلف على الناحيتين: الاحتلال مشغولٌ بالنقطة التى لا يعود الرجوع مُمكنًا بعدها، والحركةُ محكومةٌ بآخر مدنىٍّ قبل أن تبدأ التفاوض على الخُوذات.
المدنيّون الإسرائيليون عبءٌ على غزّة؛ إنْ لتكلفة الإعاشة والتأمين، أو لأنهم أقلّ سعرًا، كما تنتجُ عنهم إداناتٌ سياسية وأخلاقية لا تتحقَّق إزاء العسكريِّين، ولا رغبةَ لدى الاحتلال والمُقاومة فى التفاوض على الأعزل قبل المُسلَّح. الصفقة اليوم «فرد مُقابل ثلاثة»، وكان الجندى شاليط فى 2011 وحده بأكثر من ألفٍ. يُمكن القول إن مُعادلةَ الأسرى حاليًا أنه كلَّما قلَّ عددُهم زادت قيمتُهم، ولو تبقَّى ثلاثون أو عشرون مُقاتلاً فقط فإن وزنهم النسبى يكفى لاستعادة كلّ المُعتقَلين الفلسطينيِّين، وإن كانت الخطورة فى عدم كفايته لوَقف الحرب أو تحجيم هياجها، انطلاقًا من أنهم لن يكونوا أغلى من زُملائهم المقتولين فى شوارع القطاع أو طوفان الغلاف.. معنى ذلك أن فُرص تشغيل الدبَّابات أكبر من استمرار تعطيلها؛ دون انتفاء إمكانية أن يتمدَّد الصمت يومًا بعد آخر فى نهايةٍ مفتوحة، أو أن يُفلح الوسطاء والضامنون فى إكسابه جسمًا ميثاقيًّا وطابعًا مُستدامًا.
تخسرُ إسرائيل من الهُدنة، وستخسر أكثر إن عادت للحرب. فى المُقابل تربح «حماس» فى الحالين، وتدفع غزّة وحدها الكُلفةَ الكاملة من مستقبلها الذى صار غامضًا؛ لكن مصير الحركة معقودٌ بالأرض، ما يُهدِّد بأن تحترق أرباحها أو تستحيل وجعًا دائمًا. لم يعُد مفصلاً حاسمًا أن تُثَار مسألةُ الألم الاقتصادى فى تل أبيب والإنسانى فى القطاع؛ فقد تضرَّر الطرفان لعقودٍ مُقبلة، ولا فارقَ بين التوقُّف فورًا أو بعد أيَّام وأسابيع. تحصَّل كلُّ جانبٍ على نصيبه كاملاً من الخسارة؛ والمُقلق أنهما صارا عاجزَين عن إدارة الحرب، وأكثر عجزًا عن إنهائها. إن إسقاط نتنياهو وائتلافه لن يُرمِّم الصُّدوعَ الصهيونية الواسعة؛ لو افترضنا أصلاً أن بديلاً خالصًا من سطوة المُتطرفين قد يصعدُ على إيقاع الطبول الصاخبة، كما أن إزاحة «حماس» أو استدعاء السلطة أو إنتاج صيغةٍ أُمميّة هجينة، لن يُداوى الغزِّيين أو يُنهى ثأرَهم.
إن كانت الحروبُ مُعادلاً خشنًا للسياسة؛ فاللحظة التى تخبو فيها النار ستشتعلُ معركةٌ سياسية لا تقلّ جنونًا، وقد نتبدَّلُ فى دائرةٍ مُفرغةٍ بين السلاح الأعمى والمُفاوضات الخرساء. وحده استخلاصُ فلسطين من أنياب التوراتيِّين والإسلاميين يُمكن أن يُغلِق صفحةَ المقتلةِ المُقدَّسة، ويُجلى المسألةَ بوجهها الإنسانى العادل، وأن يُزيح القُلنسوات الدامية والعمائم السوداء عن رأس المنطقة. إن التسويةَ العاقلةَ لن تُنقذ الدولتين فقط؛ إنما ستكونُ مُصالحةً بين الأديان والثقافات؛ وقد دُفعت قهرًا إلى محرقةٍ ظالمة، وآنَ لها أن تتحرَّر من وصاية الشيوخ والحاخامات، ومن استغلاليّة أحطِّ صُنوف السياسيِّين والشعبويِّين فى الشرق والغرب.