تبدو الأزمة الراهنة التي يشهدها قطاع غزة، والتي بدأت منذ السابع من أكتوبر الماضي، جراء القصف العنيف، الذي تشنه قوات الاحتلال والذي طال المساكن والمستشفيات ودور العبادة، وقتل على إثره آلاف المدنيين، معظمهم من النساء والاطفال، مشهدا جديدا لقدرة الدبلوماسية المصرية على إضفاء "غطاء من الحماية" على محيطها الجغرافي، ومن وراءه منطقتها بأسرها، وهو ما يمثل انسجاما مع سياسات الدولة سواء في الداخل، والتي شهدت حرصا على تعزيز قدرة المواطن على الصمود بي مواجهة الأزمات، أو على المستوى الإقليمي عبر تحجيم الصراعات بين القوى المتنافسة وتحويل بوصلة العلاقات بينها نحو الشراكة.
والحديث عن نهج "الحماية"، الذي تتبناه الدولة المصرية في التعامل مع أزمة غزة، يحمل العديد من المسارات، أولها حماية القضية الفلسطينية تجاه محاولات صريحة لتصفيتها، بينما شهدت في مسار آخر حماية المواطن الفلسطيني المحاصر بالقصف العنيف من قبل قوات الاحتلال، في حين يبقى المسار الثالث إقليميًا، عبر حماية المنطقة من مخططات تهدف إلى "إعادة تدوير" الفوضى، ونشر بذور الانقسام بين دولها مجددا، مما يساهم في عودة الصراعات البينية، والدخول مرة أخرى في دائرة عدم الاستقرار عبر جر الاقليم بأسره إلى حرب شاملة سوف تأكل الأخضر واليابس حال نشوبها.
فلو نظرنا إلى المسار الأول المرتبط بالقضية الفلسطينية، نجد أن ثمة العديد من الخطوات التي اتخذتها الدولة المصرية منذ اللحظة الأولى للصراع الراهن، ربما أبرزها الدعوة إلى انعقاد قمة "القاهرة للسلام"، والتي جاءت ليس فقط لحشد توافق دولي حول ضرورة التهدئة وتمرير المساعدات الانسانية لقطاع غزة، وإنما أيضًا لتعزيز الشرعية الدولية القائمة على حل الدولتين، وفي القلب منه تأسيس دولة فلسطينية مستقلة ذات سيادة على حدود الرابع من يونيو وعاصمتها القدس الشرقية، وهو ما يمثل الأساس لانهاء قضية الصراع التي طال أمدها لأكثر من 75 عام.
ولعل الرفض المصري الصارم لمخططات التهجير التي دعت إليها سلطات الاحتلال مع بداية القصف الوحشي على قطاع غزة، يعكس إدراك الدولة للهدف الحقيقي من وراء العدوان غير المسبوق، وهو تصفية القضية الفلسطينية وتقويض حل الدولتين، تحت ذريعة "الدفاع عن النفس"، في أعقاب "طوفان الاقصى"، وذلك عبر تجريد الدولة المنشودة من أهم عناصرها وهو الشعب، بينما تضع يدعا على العنصر الاخر هو الأرض، في إطار النهج التوسعي الذي يتبناه الاحتلال.
وأما المسار الثاني، فيتجسد في تقديم الحماية للمواطنين الفلسطينيين القابعين تحت نيران القصف الوحشي، وذلك من خلال الضغط على المجتمع الدولي لتمرير المساعدات أولا، رغم التعنت الإسرائيلي، في ظل مساعي الاحتلال لحرمان أهل غزة من الدواء والغذاء، لإجبارهم على ترك أراضيهم، بينما فتحت معبرها لنقل المصابين الفلسطينيين إلى أراضيها لتلقي العلاج، وجهزت المستشفيات لاستقبالهم وتوفير كافة السبل لتقديم أفضل خدمة لهم.
الحماية المصرية للمواطن الفلسطيني في قطاع غزة لم تقتصر على مجرد تقديم المساعدات أو نقل المصابين إلى أراضيها لتلقي العلاج وإنما امتدت إلى حشد الضغط الدولي على الدولة العبرية لتخفيف القصف الوحشي على القطاع، وهو ما بدا في اشتراطها توقف الاحتلال عن قصف المستشفيات في قطاع غزة مقابل عبور أصحاب الجنسيات الأجنبية إلى أراضيها تمهيدا لنقلهم إلى بلدانهم، وهو ما يعكس ما تمتلكه الدولة المصرية من أدوات للضغط من شأنها الوصول إلى التهدئة كأولوية قصوى في اللحظة الراهنة.
بينما يبقى المسار الثالث قائما على حماية الاقليم بأسره، عبر الوقوف كحائط صد أمام محاولات التهجير، والتي من شأنها إثارة الفوضى الإقليمية مجددا، في ظل رغبة إسرائيل الملحة في تصدير الأزمات، ليس فقط لدول الجوار، وفي القلب منهم مصر، وإنما في الاقليم بأسره.
وتبدو رغبة إسرائيل في تصدير الأزمات للمنطقة، متوافقة مع مصالحها، في ظل العديد من المستجدات، لا ترتبط في جوهرها فقط بالقضية الفلسطينية التي استعادت جزء كبير من مركزيتها، في السنوات الماضية، وإنما أيضا بحالة القلق الكبير جراء ما تشهده المنطقة من توافقات جراء الاستقرار النسبي، وهو ما يبدو في سلسلة المصالحات التي عقدت بين الدول العربية من جانب، وتركيا وإيران من جانب آخر، وهو ما يمثل "لبنة" مهمة لتشكيل معسكر محتمل مناوئ لها، يمكنه تعطيل مصالحها، سواء في إطار القضية، أو فيما يتعلق بالجانب التنموي، القائم على الاستدامة، والذي يمثل تهديدا للمشروعات التي ترغب الدولة العبرية في تدشينها، ناهيك عن حجم التأثير الذي باتت تحظى به المنطقة، في لحظة مخاض يمر بها النظام الدولي، تجاه العديد من الأزمات والقضايا التي يشهدها العالم في اللحظة الراهنة.
وهنا يمكن القول بأن الدور المصرى في قضية غزة يحمل امتدادات عميقة دوليا، عبر التنسيق مع كافة دول العالم، وإقليميًا، من خلال العمل على حماية المنطقة من مخططات تهدف لاعادة استنساخ الفوضى، بينما تبقى فلسطين وقضيتها مركزا لكافة التحركات المصرية عبر العمل على مسارات التهدئة والمساعدات وحتى تقويض المحاولات الهادفة إلى القضاء على حل الدولتين