حازم حسين

إنهم يحلمون بالبيوت لا القبور.. قنابل «الوصم والتنميط» أخطر ما يتفجر فى غزّة

الثلاثاء، 07 نوفمبر 2023 02:00 م

مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
لا أحدَ يُريد الموت؛ حتى أشدّ المُتمسّكين بحُلم فلسطين البعيد. الواقع أنهم يتطلّعون إلى الدولة ليسكنوا بيوتها المُحرَّرة، لا قبورها الخانقة. المقابر لم تكن مُحتلّةً قطّ؛ والموت هو الحرية المُطلقة التى لا قيدَ فيها ولا حصار؛ لكنّ أهل «غزّة» لا يسعون لتلك الصيغة من التحرُّر؛ وإلّا حملوا السلاح جميعًا أو قفزوا فى البحر كما أراد لهم إسحاق رابين. يتزوَّج الرجال صغارًا للفوز برقصةٍ أطول مع الحياة، والنساء يُنجبن بكثافةٍ لترويض ذئاب الفَقد، ولا يعرف الأطفال أنّ خيارًا بانتظارهم سوى الانطلاق.. كثيرون تحت النار يأملون النجاة من حفلة الشواء، لا يُلطِّخ الدم وجه أحلامهم، ولا غطَّت ضوضاء القذائف على غنائهم للمستقبل، وربما يختصمون الذى حدَّد موعد المذبحة كخصومتهم مع مُنفّذيها، ويشعرون بالظلم من الناحيتين.
 
قرأت قبل أيامٍ منشورًا لفتاةٍ غزّية على «فيس بوك»، تقول نصًّا: «لو استُشهدت؛ فأنا ما استشهدت فداءً لشىء، أو لأجل أحد. أنا متّ مظلومة ونفسى فى حاجات كثيرة لسّه ما حققتها. مت وأنا نفسى فى الحياة». ثم عدّلته، ربما بضغطٍ؛ لتحذف جملة الفداء وتُبقِى على الظلم والحياة.. والمعنى دون لبسٍ أنها تشكو عدوانَ إسرائيل الظالم، وتشكو استبدادَ فريقٍ بتقرير مصائر الناس تحت لافتة القضيّة. وترى أن طهرانية «النضال والتضحية» ليست بديلاً مُقنعًا عن الأمل وطول النَّفَس، وربما تختزن فى روحها مرارةَ أن تكون هدفًا للقصف، بينما أصحاب القرار فى المخابئ أو الملاذات و«الملذَّات» الآمنة. كلّ الذين يسقطون شهداءٌ أطهار، ولا ينتقص من قدسيّة أرواحهم القول إنهم ما كانوا يُريدون الشهادة، ولو عُرِض عليهم الأمر ما اختاروا أن تكون حياتهم سطرًا فى رسالةٍ، يبدو أن العالم لم يُحسِن قراءتها، أو قرَّر ردَّها على أصحابها مزيدًا من الرعب والخراب والانتقام المسعور.
 
بأثرٍ من بُكائيّة البنت؛ وجدتنى مدفوعًا لتتبُّع مواقف الغزّيين ورسائلهم، عبر التعليقات فى صفحات المنصَّات الإعلامية، ومن الحسابات الشخصية مُباشرةً. لم أجد احتفاءً بالحرب أو تمجيدًا للصمود، لا مدائحَ للمُقاومة ومقاتلى الصواريخ والأنفاق، لا بلاغة ساذجة عن الوطنية، لا تظاهُر بالحكمة أو البطولة، ولا ادّعاء للصلابة وحُسن ضيافة الموت. الجميع تقريبًا يُريدون أن يتوقَّف القصف دون لحظةٍ إضافية، لا يعتبرون أنهم فى مهمَّةٍ مُقدّسة، ويسعون للهُدنة ووقف النار بأكثر ممّا ينتظرون الإغاثة والمساعدات. النساء أوضح فى الهشاشة والأسى واستصراخ الإنسانية، وهُنّ الأكثر سدادًا للأثمان على الأرض؛ إمَّا من دمائهنّ أو من أُمومتهن: نحو ثلثى الشهداء إناثٌ وأطفال.. ما يُقال من قادة الفصائل بالخارج، ومن العسكريّين فى باطن القطاع، غير ما يقوله عامة الناس؛ كأنهم يتحدّثون عن بلدٍ آخر وقضيّةٍ غير القضية.
 
كان تديينُ الصراع واحدًا من شِراك الأُصوليّة، وكذلك عسكرتُه المُتشدّدة فى تغييب السياسة. خطاب العقيدة سمح بأن تُصرَف رمزيّة القُدس لصالح الرجعيّة على تنوُّعها، وفى قلبها «الإخوان» وفروعهم. والعسكرة الخالصة تسعى لإزاحة السلطة ومُنظّمة التحرير، وشطب نضال أربعة عقودٍ قبل أن يظهر الإسلاميّون. والمُؤسف أن إسرائيل تستفيد بالأمرين: استدعاء القرآن يُسوّغ لها استحضار التوراة وتثبيت «يهوديّة الدولة»، والتمترسُ وراء السلاح حصرًا يخنق المقاومة السلميّة، ويُحوّل الغريم من مُحتلٍّ غاصبٍ إلى خصم فى معركةٍ بين قوّتين، كما يُعزّز دعائية «غياب الشريك» وانتفاء فرص التفاوض. الذين يموتون بينهم مسيحيون، وأغلبهم مُسالمون، لا يطلقون الرصاص ولا يعدّونها قضيةَ دِينٍ دون آخر؛ إنما هى استحقاقٌ إنسانى لا ينتقص منه التهويد شبرًا ولا تزيده الأسلمةُ ذراعًا. والمُؤلم أن يصير الموت موضوعًا للمُناكفة: فريقٌ يقتل بمنتهى الوحشيّة ويُلوّح بالمظلوميّة، وفريقٌ يُحصى الجُثث بانهزامٍ ثمّ يدّعى البأس، وبينهما لا يتوقَّف العدَّاد عن التهام مزيدٍ من الأبدان، وقد نجح التنميط فى نقل المشهد لحالة الاعتياد، وتكثيف أيّام البشر وأحلامهم، والعلاقات والصور والذكريات، فى حفنة أرقامٍ وأكفان.
 
يتعاقد مُقاتلو القسَّام وأى فصيلٍ آخر مع القضية على الموت؛ لكنّ الأطفال والنساء وعوام المدنيِّين يتعاقدون على الحياة. معلومٌ أن لكلّ نضالٍ ضحايا وأُضحيات؛ إنما معلوم أيضًا أن النضال اختيار شخصى لا «عَقد إذعانٍ» يفرضه آخرون. أضعف الإيمان أن نرفع السبَّابة ونكتفى بالدموع فى وداع المنحورين ظُلمًا، دون إفراطٍ فى الرومانسية. قاتلَ اللهُ الرومانسيّةَ عندما تختزل العُمرَ والأحلام فى شعارٍ أو قنبلة.. لقد ماتوا رغمًا عنهم؛ لأن إسرائيل الغاشمة قرَّرت بدمٍ بارد أن تجعلهم عبرةً لأهل السلاح، ولأن المُسلَّحين الطيِّبين اتّخذوهم قربانًا فى طقوسهم الوطنية.. لا سبيلَ إلى فضّ التشابك؛ إذ لا منطق لحرمان المُقاومة من حق الدفاع عن الأرض والمبدأ، كما لا تبرير لإجرام الاحتلال، وقد اعتاد الارتواء من دم الأبرياء بسببٍ ودون سبب؛ إلّا أن شيئًا من الإنسانية الجريحة يُوجِب القول إنّ أغلب المُنتقلين من سطح «غزّة» إلى قعرها، لم يُستَشاروا من الطرفين، وربّما لو كانت لهم الخِيرة من أمرهم ما اختاروا أن يتحدَّد موتُهم بمواقيت الآخرين.
 
قال خالد مشعل عن عملية طوفان الأقصى إنها «مُغامرة محسوبة». لعلّنا نحتاج أوّلًا للاتفاق على قاعدة الحساب المُعتمدة قبل أن نقبل المنطق أو نرُدّه. إن كانت تخصّ انتعاش «حماس»، وعودتها للواجهة بأقل الخسائر الذاتية فقد أصاب، وإن تقصَّد صالح القطاع والقضية بالإجمال فربّما جانبه التوفيق.. كانت الهجمةُ الواسعة فى «غلاف غزّة» أقرب لعمليةٍ انتحارية؛ لكنها عادت بالأحزمة الناسفة إلى بيئتها الحاضنة بدلاً من تفجيرها فى بيت العدو. لنتخيَّل أن الحركة دفعت مُقاتليها جميعًا، ثلاثين ألفًا كانوا أو أربعين، ليشنّوا حربًا مفتوحة فى العُمق: ذهاب دون عودة يتحقَّق فيه شرط الفدائية الاختيارية. الأرجح أنّ المُواجهة كانت ستمتدّ وتتّسع هناك لا هنا، وما كانت إسرائيل لتُوجّه آلتها المُتوحّشة نحو المدنيِّين بينما النار فى أحضانها. كان عدَّاد الجُثث المُتسارع فى الأحياء والمُخيّمات سينتقل لملعب المُباراة بين الفصائل وجيش الاحتلال. حتى لو بدا ذلك خيالًا فى نظر المُقاومة والصهاينة على السواء؛ فإنّ أى تصوُّر يتحمَّل فيه أصحاب القرار تبعات مواقفهم، يظلّ أكثر منطقيّةً من إنابة غيرهم فى سداد الفواتير الباهظة.
 
إنها مُساءَلةٌ أخلاقيّة تقع فى صُلب السياسة؛ وقد اتّفق المُحتل والمُقاوم على إزهاقها لصالح جنون الحرب وجاذبيّة المُواجهات الصفريّة. ليس من سُلطتنا، نحن المُراقبين من الخارج، أن نفرض على أهل المحنة رُؤانا وإن كانت دفاعًا عن سلامتهم؛ لكنّه ليس من سُلطة الفاعلين فى الداخل أيضًا أن يفرضوا على حُرّاس الأرض موعد دفنهم.. إنّنا نتورَّط بحُسن نيّة فى جريمةٍ مُوازية؛ عندما ننزلق إلى فخّ التنميط: إسرائيل بنازيّةٍ مُفرطة تصم كلّ «غزّة» بالإرهاب لتُبرّر الإبادة، والرومانسيّون القوميّون والإسلاميون يستهلكون «سرديَّة الصمود»؛ ليُصبح الموت مقبولاً بالعاطفة والاعتقاد. العدو يُشعِل النار تحت القِدر، والصديق يسكبُ الملح والتوابل؛ كأنهما على عُمق الشقاق بين الرؤيتين، ينهمكان بالحماسة نفسها فى تجهيز الوليمة. الحقيقةُ أنه لا فارقَ فى نزع الإنسانيّة عن الغزِّيين، سواء فعله القاتلُ بقصدٍ أو تَلبَّسه الباكى بعفويّة؛ فالمُحصّلة تجريد البشر من حقّ المُقاومة، أو تجريدهم من ضعفهم ومخاوفهم واستمساكهم بالحياة؛ كأنّ البديل عن تنصيبهم مُقاتلين بالإجبار، أن يصيروا قرابين مجّانية صامتة، بالإجبار أيضًا.. القضيّة ليست أهمّ من أصحابها، وعلى الجميع أن يحترموا هشاشتهم، وألّا يتآمروا لكتمان صرخاتهم والتعالى على رفضهم للموت الرخيص.
 
كُلّ ميّت يطوى معه جانبًا من روح العالم. يحزمُ حقيبةً ضخمة فيها أحياء وموتى آخرون، كانوا يُعوّلون عليه أن تبقى سيرتُهم خضراء، ويترك للأرض والدار والهواء ودولاب الملابس جرحًا لن يُشفَى. فى «غزّة» صار كل ذلك رهين الانتقال بين رقمين. شكَّك «بايدن» فى فاتورة الدم وأعدادها المُعلنة، وردَّت الصحة الفلسطينية بنشر أسماء الضحايا كبارًا وصغارًا. المُؤكّد أن سيّد البيت الأبيض يثقُ فى قنابله، ويعرف أن آلاف الأطنان التى أرسلها لإسرائيل كافيةٌ لما هو أكبر، وتعرف سُلطات القطاع أنها لو عرضت أكباد الشهداء وقُلوبهم فى صناديق زجاجيّة؛ فسيظلّ القاتل وداعموه على التشكيك. وحدها البيوت التى أظلمت أو تهدّمت تستوعب المأساة، والعائلات التى شُطِبت من السجلّات تُعبّر عن فداحة الخسارة، وكذلك القطاع الذى لن يتعافى من الضربة المُميتة قبل عقود.. إن كانت واشنطن تُفاصل فى قتيلٍ أو ألف؛ فهل تعنيها الدُميةُ التى فقدت صاحبتها أو حذاء الصبىّ الذى لن يعود لمدرسته؟! وإن كان أبطالُ الوطن الضائع لا يلحظون أنهم ابتعدوا عنه أكثر؛ فهل يسترعى انتباههم أنّ نظرات الضحايا تُعاتبهم بقدر ما تسبُّ الجُناة؟!
أطلقت «حماس» عمليّتها لإخراج القضية من الجُمود، وإيلام الاحتلال، ثم «تبييض السجون» من الأسرى.. التفت العالم فعلاً نحو فلسطين؛ لكن باتّهام الحركة بالداعشيّة، وبقدرٍ من التوحُّش الغربى غير المسبوق فى مُساندة الصهيونية. لم يُغادر 6 آلاف سجين زنازينهم، وأُضيف إليهم آخرون من الضفة والعُمّال، وطُرِح سيناريو التهجير علنًا مع مشروع قانون لتجريد مليونى عربى من الجنسية الإسرائيلية، وتجاوزنا 10 آلاف شهيد وربّما تتضاعف الأرقام قبل أن نشمّ التهدئة. وضعت «تل أبيب» لحربها هدفًا مُستحيلاً: تصفية «حماس» والقضاء على سُلطتها ومُرتكزات قوّتها؛ وفى سبيله قد تُعيد إنتاج تجربة تدمير بيروت مطلع الثمانينيات لإخراج مُنظّمة التحرير وعرفات. حضور الحركة بالخارج، سياسيًّا وعسكريًّا، من الضفة لتركيا وقطر وسوريا ولبنان، يُحبط خطط القضاء عليها؛ لكنّه لا يمنع أن يستمر الاحتلال فى مهمّة شلّ القطاع وإحراقه ليصير غير صالحٍ للسكن. هنا نعود لأولويّة السياسة التى أغفلها المُسلّحون، ولمظلمة المدنيّين التى يتعيَّن انتشالها من تحت الركام، ومن لعبة الكيد وعضّ الأصابع.
 
القتلُ الآن من طرفٍ واحد؛ لكن كلّما أسقطت إسرائيل قنبلةً حارقة على الغزّيين، تُطلِق المُقاومة صواريخها التى لا تُرهِب ولا تقتل. كأنها تستميت فى مَنح العدوان صفةَ الحرب المُتبادَلة، بدلاً من الاحتماء بالضعف، وتصدير محنة القتلى الأبرياء صافيةً من الشوائب والدعايات الخفيفة. لا تنفصل عن ذلك لُغةُ القادة السياسيّين لحماس من الخارج، وفيها استعلاءٌ على آلام المقصوفين وإيحاء غير مُبرّر بالقوّة والتحدّى، بينما تُؤدّى الدبلوماسيّة الفلسطينية دورًا أكثر ذكاءً وعقلانيّة، يتّضح فى إفادات وزير الخارجية المالكى والمندوب بالأُمم المتحدة رياض منصور، ولقاءات السفير فى لندن حسام زملط وزملائه الباقين. لا شىءَ يتقدَّم الآن على مِحنة المحبوسين فى الميدان، ولا أولوية إلّا عصمة أرواحهم وإغلاق محابس الدم. تأكَّدَ أن الداعمين صرفوا جهدهم بعيدًا عن فتح الجبهات، ولم تعُد نظريّة «وُحدة الساحات» فعّالة إزاء مقتلةِ المدنيّين، واحتمال تنشيطها الوحيد أن يُشرِف حُلفاء المحور الشيعى على الفناء. فى تلك اللوثة لن يُسمَع صراخ الواقفين فى طابور الموت، وقد يصمت بعض المرعوبين من اقتراب أدوارهم؛ خشيةَ الوصْم والتخوين.. ويجب أن نتحلّى بالشجاعة الواجبة؛ لنقول إن دماء الفلسطينيين سُحِبت على حسابات فى بنوك المُمانعة، وربما يُساومون عليها لقاء منافع لميليشيات الشام واليمن وغيرهما، أو للإفراج عن أرصدةٍ ماليّة مُعلّقة.
 
كثيرونُ من مُتصنّعى البكاء على «غزّة» يُريدون استمرار المذبحة. ما تزال القضيّة جذابة روحيًّا للأجيال الجديدة التى انخلعت من مصيدة الأُصوليّة، ما يجعلها وسيلةً مثاليّة لإنعاش الجماعات الدينية وإعادتها للمشهد. من الشواهد أن تُطلق الجماعة الإسلامية «إخوان لبنان» ذراعها العسكريّة باسم «قوّات الفجر» بالتزامن مع المحرقة، دون حضورٍ جاد أو أثرٍ ملموس. وفى هذا المناخ تزدهر خطابات الابتزاز والمُزايدة، وتُصوَّب السهام على دُولٍ بعينها، وتُخطئ غيرَها رغم أدوارها المشبوهة مع إسرائيل أو ضد جوهر المسألة الفلسطينية.. الغرض أن يكون القطاع منصّةً دعائيّة سهلةً وواسعة الانتشار، وتسمح بالإفلات من القيود المُطبقة على دوائر الرجعية بالمنطقة. وعبر رسائل الاستهداف السياسى المخلوطة بالدم والعاطفة المقدسيّة، تُعاد التعبئةُ ويُستَلَب وعى الصغار المُتحمّسين. يُهدّد ذلك بأن تستمر التجارة الشعبوية بالمأساة، مع إصرارٍ على أن تظلّ مفتوحةً ونازفة؛ طالما يُغيَّب العقلُ عمدًا، وطالما لا خوفَ من أن يسألهم عابرٌ أو مُقيم عمّا حقَّقوه لفلسطين، وما تسبَّبوا فيه من أضرارٍ وانتكاسات.
 
كلَّما تباطأ الاجتياح البرّى؛ ظنّت الفصائل أنها انتصرت. وكلَّما زادت الوحشيّة الصهيونية تتعالى مخاطر انزلاق المنطقة لحربٍ واسعة. قيادةُ المحور الشيعى لا تُريد ذلك وإن هدَّدت به، وواشنطن تخشاه وإن بدت مُتحسِّبةً له؛ والمُخاطرة بالتمادى فى الجنون قد تُغلِق منافذ العودة. وسواء وقع المحظورُ أو لم يقع؛ يظلّ الغزّيون فى مرمى النار دائمًا: تحت سقف التوازن القائم، أو فى قلب الانفلات المُحتمَل.. لن تزول إسرائيل عن المنطقة للأسف، كما لن تذوب المُقاومة فى بحر الدم، ولا يقبل أحدُهما بقاءَ الآخر أو شراكته. الذين يموتون فى «غزّة» أولى بها من المُحتل والتاجر، وليسوا أهدافًا زهيدةً أو مشاريع شهداء كما يُنظَر لهم من الناحيتين. وإن كان أكثرهم ينزعجون من الموت المجّانى؛ فلأنهم لا يستشعرون إخلاص الوجه للقضية، ويستنكفون أنهم مُستبعَدون من تقرير مصيرهم مرَّتين: الأولى على يد الاحتلال الذى يسرق الأرض ويُخطّط لاقتلاعهم، والثانية على أيدى الحلفاء الذين يدّعون الجدّية فى تحريرها، وغايتهم السلطة واحتكار التمثيل لخدمة أجندات «فوق فلسطينية».. يُريد الجميع أن يسلبوهم إنسانيتهم؛ ليصيروا قرابين أو أهدافًا مشروعة؛ وعلينا ألّا نُفرِّط فى مظلمتهم الصادقة، وأن نُحارب تشييئهم باستعادة «الأنسنة».. للشُّهداء حقٌّ على الطرفين؛ أدناه أن نُقرّ بأن الغزّيين يكرهون الموت ولا يزهدون الحياة، وأن نُحرّرهم من تنميط العدوّ والصديق. إنهم يبكون حُزنًا وخوفًا وأملاً مثلما يبكى البشر فى كلّ مكان، ينتظرون الشمس ليُطلقوا أبناءهم للشوارع لا إلى أفواه القبور، ويُعمّرون بيوتهم بعد كل حربٍ؛ كأنهم أخذوا عهدًا على الدمار أن ينقطع.. إنّهم أُناسٌ عاديّون جدًّا، لا بينهم خارقون ولا فيهم المسيح؛ فاحترموا أنهم يُريدون حياةً عادية تُختتَم بموتٍ عادى، ليكون لهم حظٌّ من وداعةِ العَيش ومن شجن الوداع الرّزين، لا أن يصيروا أكوامًا يُكدّسها الصهاينةُ فى الطرقات، ويتفاوض عليها «المُمانعون» فى الفنادق الفاخرة.






مشاركة






الرجوع الى أعلى الصفحة