أطلق المركز المصري للفكر والدراسات الاستراتيجية ورقة بحثية تحمل عنوان "سيناريوهات مستقبل قطاع غزة والدور المصري" التي تشتمل علي رؤية خبراء المركز المنخرطين لسنوات طويلة في قضايا الصراع العربي-الإسرائيلي بهدف إثراء النقاشات الدائرة حول كيفية الخروج من المأزق الحالي في ضوء الحرب الإسرائيلية علي قطاع غزة.
وتتعامل الورقة البحثية مع كيفية ملء الفراغ في قطاع غزة في حال اضعاف حركة حماس بعد الحملة العسكرية الإسرائيلية، وهو ما يستدعي دورا مصريا فاعلا في المرحلة الدقيقة المقبلة، وجاء فى الورقة أنه من الضروري أن يكون لمصر دور رئيسي في اي نظام سوف يتم تطبيقه في قطاع غزة حتي يمكن تجنب أية تسوية تتعارض مع المصالح المصرية والأمن القومي المصري والمصالح الفلسطينية أيضا.
وأشارت الورقة الى تنوع التصورات الفكرية الغربية حول مستقبل غزة، وملامح الأوضاع المتوقعة فيما بعد العملية العسكرية التي تقوم بها قوات الاحتلال الإسرائيلي، لافتا الى تأسس تلك التصورات -في مجملها- على ثلاثة افتراضات، الأول أن إسرائيل ستنجح في تحقيق هدفها في القضاء على حماس والثاني، إعفاء إسرائيل من المسئولية عن القطاع بعد وقف إطلاق النار، والثالث، أن ثمة إدارة لمرحلة انتقالية لملء الفراغ في غزة بعد الحرب قبل تولِّي السلطة الفلسطينية فيما بعد مسئولية القطاع.
وتابعت :"وتباينت تلك التصورات في الأفكار المطروحة بشأن الإدارة المقترحة خلال العملية الانتقالية، ومن أبرزها تولِّي شخصيات تكنوقراط –غير سياسية- إدارة قطاع غزة، تولِّي الأمم المتحدة إدارة قطاع غزة مع تواجد قوات أممية، تولِّي قوات متعددة الجنسيات مسئولية الحفاظ على الأمن في غزة، تولِّي مجموعة من الدول العربية مهمة الحفاظ على الأمن في غزة، إلا أن تقييم تلك التصورات الغربية يكشف عن إشكاليات ومعضلات عديدة من أبرزها تتجاهل معظم التصورات المطروحة مسألة ضرورة وقف إطلاق النار، أو وضع سيناريوهات حول المدى الزمني الذي يمكن أن يحدث فيه ذلك، خاصة أن هذه هي الخطوة الضرورية التي من دونها لا يمكن لتلك التصورات أن تكون قابلة للتنفيذ، تشير تصورات اليوم التالي لغزة إلى انحياز واضح، ينسجم مع الانحياز السياسي الرسمي الغربي للجانب الإسرائيلي، فمعظم تلك التصورات تصب -حال تحقيقها- في اتجاه إعفاء إسرائيل من مسئوليتها كقوة احتلال، وتسعى لتحميل أطراف أخرى دولية وإقليمية تبعات كثيرة ومركبة لتخفيف العبء على إسرائيل، تعالج التصورات المطروحة للأوضاع المستقبلية في غزة، فقط في ضوء ما يحدث منذ السابع من أكتوبر، وهو ما يمثل تماهيًا مع الرؤية الإسرائيلية التي تسعى لفصل غزة عن مجمل القضية، أو مستقبل الدولة الفلسطينية. ومن ثم تقزم تلك التصورات القضية الفلسطينية وتحصرها في الحديث عن غزة، دون معالجة القضية من المنظور الأشمل المتعلق بالتسوية السياسية للصراع الفلسطيني-الإسرائيلي في ضوء مقررات الشرعية الدولية".
ولفتت الى انشغال التصورات المطروحة بالأساس بالقضاء على حماس بأي شكل من الأشكال، وتعتبر أن العملية البرية الإسرائيلية قادرة على تحقيق هذا الهدف، وهو ما لا تعكسه تطورات الأوضاع الميدانية حاليًا في غزة بعد شهر كامل من العمل العسكري، في ضوء ارتفاع التكلفة الإنسانية والبشرية كنتيجة للعملية العسكرية الإسرائيلية، فضلًا عن إغفال احتمالية اتساع النطاق الجغرافي للصراع خارج حدود مسرح العمليات بقطاع غزة، بل وخارج حدود دولة إسرائيل، مضيفة :"تتماهى تلك السيناريوهات مع الموقف الإسرائيلي الذي يسوق فكرة أن ما يحدث في القطاع هو للقضاء على حماس وليس على الفلسطينيين، من خلال تبني سياسة العقاب والإنهاك الجماعي، ومنع المساعدات الإنسانية عن عموم السكان المدنيين في القطاع، تتجاهل هذه التصورات حالة التأجيج العام للرأي العام الفلسطيني والعربي، خاصة بعد سقوط آلاف الشهداء الفلسطينيين وتدمير البنية التحتية لقطاع غزة على مدار شهر في ظل قصف إسرائيلي عنيف وغير مسبوق، الأمر الذي يخلق بيئة فلسطينية وعربية غاضبة ورافضة لأي تصورات غربية لـ"اليوم التالي" لغزة".
وأكدت الورقة البحثية أن التصورات الغربية لليوم التالي في قطاع غزة، تستهدف بالأساس إخراج إسرائيل منتصرة تمامًا في تلك الحرب، متابعة:" إذ تعكس أغلبها رغبة إسرائيلية في التخلي عن مسئولياتها كسلطة احتلال، كما تسعى لتحميل أطراف أخرى هذه المسئولية، وتبقى هي بعيدة -بشكل أو بآخر- عن التعامل المباشر مع تشابكات الأوضاع في غزة، بما يضمن لها تحقيق مكاسب دون تكاليف، على الجانب الآخر، فإن تحليل مضمون أغلب تلك التصورات الغربية يشير إلى أن تركيزها على مسار التسوية السلمية محدود للغاية، مما يجعلها مجرد "حل مؤقت" لإرضاء الجانب الإسرائيلي، وهو الأمر الذي يمثل العقبة الرئيسية في قابلية تلك التصورات للتحقق على أرض الواقع، لكونها تنتهج معادلة صفرية "ربح إسرائيلي/ خسارة فلسطينية"، وبالتالي لا تقدم أي مكاسب حقيقية للطرف الفلسطيني، سواء أكان للمجتمع في غزة الذي دفع ثمنًا باهظًا وغير مسبوق للحرب، أو حتى حفز السلطة الوطنية الفلسطينية على القبول بلعب دور أكبر في اليوم التالي في غزة".
ونوهت الى أن معظم التصورات الغربية المطروحة لليوم التالي في قطاع غزة، لم تتصورتجاوز الدور المصري وأهميته القصوى باعتباره "العامل المرجح" لأي من هذه السيناريوهات المستقبلية، التي يمكن أن تنتهي إليها الأوضاع في القطاع، مضيفة :"ومع ذلك، فإن تلك التصورات لم تتنبه بالقدر الكافي لمحددات ذلك الدور، ليس فقط فيما يتعلق بالأزمة الحالية في غزة، ولكن بتسوية الصراع الفلسطيني-الإسرائيلي بشكل عام، إذ تستهدف مصر حلًا عادلًا وشاملًا يضمن الأمن والاستقرار في الشرق الأوسط، من خلال إقامة دولة فلسطينية على خطوط الرابع من يونيو 1967 وعاصمتها القدس الشرقية. ولعلّ عدم الانتباه لمحددات الموقف المصري الثابت والمعلن من القضية الفلسطينية، يعد من أهم أسباب عدم قابلية السيناريوهات الغربية المطروحة لمستقبل غزة للتحقق على أرض الواقع، وترتكز الرؤية المصرية للصراع الفلسطيني-الإسرائيلي على الاعتقاد الجازم في أنه لا سبيل لحل القضية الفلسطينية سوى من خلال الدولتين، وأن تصورات البعض بشأن جدوى الحل أو الحسم العسكري لهذا الصراع هي خارج إطار الواقع، ولا يمكن القبول بها وأن السياسة الإسرائيلية القائمة على إغلاق الأفق السياسي أمام الفلسطينيين ستكون عواقبها وخيمة، ومن ثم فلا بديل عن إحياء المسار السياسي".
ولفتت الى أن إحياء المسار السياسي يظل بندًا رئيسًا على أجندة الدولة المصرية، حتى في ظلّ اشتعال المواجهات بين الإسرائيليين والفلسطينيين، متابعة :"ولم تكن المواجهة الحالية استثناء من ذلك التوجه، فمنذ اليوم الأول للمواجهات ومع محاولات التحذير والعمل على وقف أو خفض التصعيد، طرحت مصر ضرورة الانتباه للمسار السياسي، في هذا الإطار، جاءت دعوتها واستضافتها للمؤتمر الدولي بالقاهرة في الـ21 أكتوبر 2023 الذي خصصته للمسار السياسي، فكان عنوان المؤتمر "مؤتمر القاهرة للسلام"، للتأكيد على ضرورة المقاربة الشاملة للتصعيد الجاري، ومع انسداد الأفق السياسي نتيجة للانحياز الغربي غير المسبوق للجانب الإسرائيلي، تبنت القاهرة المسار الإنساني، وسعت لحشد المجتمع الدولي لتبني ذلك المسار، وهو ما نتج عنه الاتفاق الذي سمح بفتح معبر رفح من جانبه الفلسطيني لإدخال المساعدات الإنسانية العاجلة للفلسطينيين داخل القطاع.
وأكدت الورقة البحثية أن مصر واجهت المخططات الإسرائيلية لتوظيف هجوم السابع من أكتوبر، إذ أدركت أن الهدف الإسرائيلي من التصعيد هو وضع مخطط "التهجير القسري" للفلسطينيين باتجاه سيناء لتصدير الأزمة لمصر موضع التنفيذ، من خلال أكبر عملية عسكرية من القصف الموسع على القطاع لتحوله إلى "قنبلة بشرية" قابلة للانفجار باتجاه مصر، مشيرة الى أنه إزاء ذلك المخطط، أعلنت مصر بشكل واضح أن التهجير القسري للفلسطينيين مرفوض، وأن محاولات تصفية القضية الفلسطينية مرفوضة، وأن تصدير الأزمة لمصر هو خط أحمر غير قابل للنقاش.
وأوضحت أن التصور المصري لليوم التالي للتصعيد الإسرائيلي-الفلسطيني الراهن يقوم بالأساس على ضرورة وقف إطلاق النار، وأن الحديث لا يجب أن يقتصر على اليوم التالي في قطاع غزة، بل يجب أن يشمل القضية الفلسطينية، باعتبار أن الضفة الغربية والقدس الشرقية وغزة وحدة سياسية واحدة تشكل معًا الدولة الفلسطينية، وأن مصر بذلت الكثير من الجهود من أجل إبقاء عملية السلام أو التسوية السياسية للصراع على قيد الحياة، رغم العقبات التي شهدتها من إسرائيل أولًا، ثم من جانب بعض الفصائل الفلسطينية.
وأردفت :"في إطار تلك الجهود، عملت مصر على دعم السلطة الوطنية الفلسطينية، وسعت منذ اليوم الأول لسيطرة حماس على السلطة في قطاع غزة في يونيو 2007 لإنجاز المصالحة الوطنية الفلسطينية، إدراكًا منها أولًا لخطورة ذلك الانقسام على الموقف الفلسطيني، بيد أن مسيرة عقد ونصف من الجهود المصرية قد تعثرت بسبب عدم التزام الفصائل بالاتفاقات الموقعة في القاهرة، وثانيًا لخطورة استغلال ذلك الانقسام من جانب إسرائيل كمبرر لعدم الاستمرار في عملية التسوية السياسية، على اعتبار أنه "لا يوجد شريك فلسطيني". ولعل عدم الاستمرار في التسوية السياسية شكّل البيئة التي فجرت المواجهات الإسرائيلية–الفلسطينية المتعاقبة في قطاع غزة، وأنهكت بنيته التحتية، وجعلت حياة الفلسطينيين صعبة في ظل حصار سلطة الاحتلال".
ونوهت الى أنه في ظل هذا الحصار الإسرائيلي لقطاع غزة، بدت مصر اللاعب المحوري في تقديم العون للقطاع عبر معبر رفح، وهو الشريان الوحيد الذي يربط القطاع بالعالم، والتزمت مصر بأن يبقى المعبر مفتوحًا أمام الفلسطينيين رغم أن اتفاقية المعابر الموقّعة في عام 2005 تنصّ على أن المعبر يعمل بوجود أطراف ثلاثة على الجانب الفلسطيني: أولهم السلطة الوطنية الفلسطينية، وثانيهم إسرائيل، وثالثهم الاتحاد الأوروبي، موضحة أنه مع سيطرة حماس على قطاع غزة، انسحب موظفو السلطة الفلسطينية، ومعهم مسئولو الاتحاد الأوروبي، بما يعني طبقًا للاتفاقية أن يغلق المعبر، وهو الأمر الذي عملت مصر خلال سنوات عدة على تجنبه ومع اشتعال المواجهة الإسرائيلية-الفلسطينية الجارية لم يعد المعبر مقتصرًا على خروج الأفراد، بل باتت الحاجة ملحة لاستخدامه في إدخال شاحنات المساعدات، وهو الأمر الذي نجحت فيه مصر أيضًا رغم كل العقبات التي وضعتها إسرائيل.
وأشارت الى أنه مع هذه الأهمية لمعبر رفح، فإنه يحتاج هو الآخر لطرح سيناريوهات بشأن اليوم التالي لوضعيته، ولكن في إطار مقاربة شاملة للقضية الفلسطينية، فالتصورات الغربية التي تحاول إعفاء إسرائيل من مسئوليتها تجاه الفلسطينيين، تعني بشكل أو بآخر إنهاء اتفاق المعابر 2005، وأن إسرائيل لن تبقى على صلة بعمل الملف، وأن المعبر سيصبح فلسطينيًا مصريًا خالصًا، بكل ما يعنيه ذلك من سيادة كاملة للفلسطينيين على الجزء الفلسطيني من المعبر، أيًا كان السيناريو المتوقع لليوم التالي في القطاع.
وأكد الدكتور خالد عكاشة مدير المركز المصري للفكر والدراسات الاستراتيجية أن الدراسة تهدف إلي تقديم اسهاما عاجلا من مؤسسة بحثية تضع نصب أعينها توفير بدائل متنوعة أمام صانع القرار واثراء النقاش في قضية تمثل هاجسا كبيرا لدي الرأي العام المصري والعربي.
وأشار إلي أن ما يتم التسويق له من مشروعات وخطط بشأن مستقبل غزة يتطلب نظرة مصرية فاحصة لتلك المشروعات والخطط بغية تحديد ما يصلح منها للتطبيق وما يناسب تضمين قطاع غزة في اطار الحل الشامل للوضع الفلسطيني وليس التعامل معها بصيغة منفردة عن حل القضية الفلسطينية بشكل عام.
وتجدر الإشارة إلى أن هناك أوراق بحثية عديدة خرجت من مراكز الفكر والأبحاث في الأوساط الغربية والإسرائيلية حول مستقبل قطاع غزة بعد الحرب وهو ما استدعي اسهاما مصريا خالصا في هذا الاتجاه.
يذكر أن المركز المصري للفكر والدراسات الاستراتيجية مؤسسة بحثية مستقلة تأسس عام 2018 لتقديم مساهمات بحثية في مختلف جوانب السياسات العامة وقضايا الدفاع والأمن القومي والعلاقات الدولية ويضم نخبة من كبار الخبراء في كل المجالات السياسية والاقتصادية والاجتماعية.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة