ليست «غزّة» أشدَّ المُتضرّرين من العدوان الإسرائيلى الراهن؛ إنما يختبر العالم جُرحًا أخلاقيًّا قد لا يُطبّبه الزمن، ناهيك عن احتمال أن يتطوَّر إلى قُرحٍ وندوب ظاهرة فى وجهه، وما خطر الانزلاق لخشونةٍ واسعة المدى ببعيد.. الصقور فى تل أبيب يُقدّمون ورقة «حماس»، ويُضمرون رغبتهم العميقة فى تكسيح القطاع؛ حتى لا يكون صالحًا للحياة، وإن أفلت من الموت يظل أُمثولةً دائمةً على عواقب التمرّد، أمَّا الغرب فقد أطفأ شُعلةَ الحضارة وتفرّغ للنفخ فى نار التوحُّش. ذبحُ المدنيين لم يعد أثرًا عارضًا للحرب، يُساقُ ضمن باقة البلاغة الكلاسيكية عن التزام شرط الإنسانية فى التصويب والقتل؛ بل إنه صار مقصودًا لذاته، ضمن مبدأ راديكالى لاستعادة صورة الردع، وتخويف «ضحايا المحتل» من السعى لتحصيل الاستقلال بوسائل النضال كافةً.
لم يتحرّج «بلينكن» من صياغة رسالته على وجهٍ شديد الوقاحة؛ فالرجل الذى زار مجلس الحرب الصهيونى ثلاث مرَّاتٍ فى أقل من شهر، وكان يحضر بصفته يهوديًّا لا وزير خارجية «شُرطىّ البيئة الدولية»، قال لخمسة دبلوماسيين عربٍ فى عمّان إن بلده يسعى لهُدنةٍ إنسانية، ويرفض وقف إطلاق النار، وقد طالب إسرائيل بالعمل على تقليص عدد الضحايا المدنيِّين. واشنطن التى تتولَّى تذخير آلة الموت فى «غزّة» تتشدّد فى إبقائها نشطة، وتقبل إزهاق الأرواح لكنها تتفاوض على العدد. الموقف نفسه يتكرَّر فى كل العواصم الكبرى، من لندن إلى برلين وباريس، والأخيرة تُفتّش عن إطعام الواقفين فى طابور القنص بدلاً من إنقاذهم؛ كأنها راعٍ يقوم على تسمين الحظيرة حتى يمتلئ المسلخ باللحم.
دعا «ماكرون» إلى مؤتمرٍ دولى، قيل إنه سيبحث مسألة المساعدات وإجلاء الجرحى، وقد تُطرَح فيه أفكارٌ عن تنشيط المسار البحرى المُمتدّ لنحو 40 كيلو مترًا بطول القطاع؛ ويقع بكامله بين مخالب البحرية الصهيونية.. لا معنى وراء المواقف المُتواترة؛ إلّا أن إرادات الفاعلين الكبار تتلاقى على التنكيل بالغزِّيين، وليس بحركة «حماس» ولا بمجموع الفصائل، وكما أزاح اليمين القومى والتوراتى أُفقَ التسوية السياسية، لصالح بديلٍ أرخص لا يتجاوز تحسين شروط الاحتلال، يبدو أن الفلسفة «الأورو-أمريكية» سقفُها تعديل قواعد المقتلة، وليس تصفيتها أو نقل اللعبة بعيدًا عن كنسِ غزّة: إمَّا بتسطيح الجغرافيا بما عليها، أو بإزاحة البشر جنوبًا.
تُعانى حكومة نتنياهو من استعصاءٍ عسكرى واضح. عندما صرَّح وزيرها للتراث باحتمال الذهاب إلى تصعيدٍ نووىّ ضد الغزّيين العُزَّل؛ كان يُعبّر فى واقع الأمر عن اختناق تحالف الجنرالات والحاخامات، وعن نموٍّ واضح فى منسوب اللوثة بحثًا عن مخارج باتت بعيدة بأكثر من أىّ وقتٍ مضى. مُناورة «بيبى» بإعلان تجميد الوزير المُتطرِّف ثمّ مُطالبة قائده الحزبى إيتمار بن غفير باستبداله، قد لا تتجاوز لُعبةَ تقاسُم الأدوار المعتادة فى دولاب الإدارة بالشدّ والإرخاء. قطعت المُواجهة شوطًا طويلاً ولم تُحرز شيئًا، ولا تحتمل إسرائيل التوغُّلَ فى قنواتٍ مسدودة لأجلٍ غير معلوم، وباتت المحنة فى قلب تل أبيب السائرة فى حياتها شبه الطبيعية، أضعاف ما فى «غزّة» التى تختبر جحيمًا غير مسبوقٍ، وتخوض شجارًا يوميًّا مع الموت العاجل والمُؤجَّل.
يقول الرعاةُ الغربيّون إن أيّة تهدئة تصبُّ فى صالح حماس؛ إذ تسمح لها بترتيب الأوراق ورصّ الصفوف وتعويض ما فقدته من قوّة. ولهذا يستعيضون عن وجوبيّة وقف النار بعنوان الهدنة الإنسانية؛ لكن النازيِّين الصهاينة يرفضون ذلك أيضًا دون تحرير الأسرى، وهم يعلمون أن الفصائل لن تُفرِّط فى بطاقة المُساومة الوحيدة التى تقبض عليها. الرفض لا يستهدف استخلاص 242 أسيرًا تقريبًا دون كُلفةٍ مُباشرة، وقد أبدى وزير القنبلة النووية قبولَه لنحرهم مع الغزِّيين؛ لأنهم ليسوا أغلى من الجنود بحسب قوله؛ لكنهم يتهرّبون من فتح قنوات السياسة ولو جزئيًّا، تحسُّبًا من أنَّ المُؤقَّت قد يجلب الدائم، وأن تصويب «طفّاية الحريق» قد يمتص حرارة الثأر والغضب، ولو لم يُطفئ النار.
لا تُقدِّم الورقةُ الغربية ما يسترها أخلاقيًّا؛ فالحديث عن تأمين الضمادات شديد السخافة طالما السكاكين مُوغلة فى أبدان الناس دون هوادة. السيّد الأبيض يتعمَّد التهوين من وجيعة العبيد الفلسطينيين؛ كلَّما تحدَّث عن المحنة المُزرية كأنها نتاج وباءٍ طارئ أو كارثةٍ مناخية، وليست حصيلة عدوانٍ عسكرى شديد البطش والهمجيّة. وفوق ذلك؛ يبتذل ميراثه الحضارى وهو يلوك تخليقة «الدفاع عن النفس» إزاء احتلالٍ يهضم أرض الآخرين وحقوقَهم، ويُساوى جيشًا نظاميًّا يجب أن ينضبط بالشرعية والقانون، مع مدنيِّين يبحثون عن أوراقٍ ثبوتيّة لدولتهم الضائعة، ويتلقَّون الضربات بصدورٍ عارية.. لا يُبشِّر ذلك بفناء القضيّة التى لا يتوقَّف نزيفها؛ إنما يُفنِى ما تبقَّى من سُلافة الصدقيّة والعدالة فى قَعر الكأس الدولية المشروخة.
انكسرت مُعادلة «توازن الرعب» التى طالما سهرت الصهيونيّةُ ورُعاتُها على سَبكها وحراسة مرافقها. يتجلّى ذلك ناصعًا بين أطلال «غزّة» بينما تلتقط أنفاسها بصعوبةٍ من سحابة الغبار، ولا تتوقَّف عن المُقاومة بالصمود والصواريخ؛ لكنه أكثر وضوحًا فى جبهة الشمال، وقد تحرّكت قواعد الاشتباك مع «حزب الله» نحو نطاقٍ جديد، صحيحٌ أنه لم يتجاوز الأسقف المقبولة على الناحيتين، إلى فضاء المُواجهة الشاملة بانفلاتٍ عارم؛ إلا أنه يُوطِّن عقيدة الضاحية على استشراف مروحة خياراتٍ أوسع، حتى أنها تدفن فى المناوشات ثُلثَ ما دفنته فى حربها المُوسَّعة بالعام 2006، وتعرف أن الجولة لم تبدأ بعد، وتُصعِّد خطاباتها إلى رابيةٍ مُلتهبةٍ لم تختبرها سابقًا؛ حتى فى ميدان القتال المُباشر. وبعيدًا من دعائيّة «نصر الله» وهو يقول إنهم بجنوب لبنان يشغلون شطرًا كبيرًا من جيش الاحتلال عن غزّة؛ فإنّ فى تلك الرسالة على التحديد أخطرَ ما يُزعج إسرائيل ويُربك حِسبتَها السائلة.
تعهَّد وزير الدفاع يوآف جالانت، بالنصر ولو بعد سنة، وأعدَّت وزارة المالية تصوُّرا عن فاتورة الحرب، مداه بين ثمانية واثنى عشر شهرًا وكُلفته 200 مليار شيكل «نحو 51 مليار دولار». الظاهر أن الدولة العبرية لا تحتمل أن تحشدَ كامل الاحتياط طوال المُدّة، وهم يُشكِّلون 10 % من قوّة العمل الإجمالية، وأغلب الفئة النوعيّة من المهنيين والتقنيِّين ومُوظّفى الشركات الدولية؛ ما يعنى أن السير إلى معركة الفصول الأربعة ضد القطاع رهينُ تبريد بقيّة الجبهات، وتسريح كُتلةٍ وازنةٍ من المُجنَّدين لتُعاود عجلةُ الاقتصاد دورانها، وتنتظم الحياة الطبيعية مع العدوان الاستثنائى. أشرسُ الهدايا التى يُمكن إرسالها إلى صندوق بريد نتنياهو، أن تُجبره بقيّة الساحات على مُواصلة الحشد، وإغلاق السوق لتترقَّى الخسارة من 10 % إلى 20 أو 30 أو أكثر من الناتج الإجمالى. وقتها لن تكون حصيلةُ العمليات على محور غزّة فارقةً فى جَردةِ الحساب الأخيرة؛ فقد يكسب «الكابينت» فى ميدان القتال؛ لكنه سيخسر فى ميادين المال والأعمال وجاذبية الاستثمارات، وفيما يخصّ قناعة الإسرائيليين أنفسهم بصلاحية الدولة للرهانات المُستقبليّة بعيدة المدى.
على معنى الإبادة المُضمَر؛ يكون كلُّ خَرقٍ إنسانى ضربةً للأجندة الإسرائيلية. إنزال الأردن مُساعدات جوّية عاجلة لمُستشفاه الميدانى ولو بالتنسيق مع الاحتلال، واستعِار الضغوط المصرية لتمرير مزيدٍ من الشاحنات عبر رفح، وارتقاء منسوب النقد والإدانة لجرائم الحرب والتجويع، لكن يتعيَّن ألّا نظلّ محصورين فى خندق الإغاثة.
تقديم المسألة الإنسانية مُهمّ؛ لكن الأهم ألا تكون زاوية النظر الوحيدة، فالتهدئة أهمّ من تحسين شروط الموت. تُحيط إسرائيل بأزمتها الراهنة، وتعرف أن أخطر ما فيها العناوين الأخلاقية؛ لذا لا تتوقَّف عن تنشيط «الهاسبرا» الدعائية بكل سُبل التضليل المُمكنة: حملة علاقات عامة واسعة، وإعلانات مُوجّهة عبر المنصَّات الرقمية وألعاب الأطفال، وضغوط على الإعلاميّين والقنوات، وابتزاز السياسيين والفنانين وقادة الرأى، ومن ذلك أيضًا جولة السبت الماضى لعدّة مُراسلين أجانب فى ميدان غزّة، والهدف تصدير انطباع بالسيطرة عبر مسرحٍ مُعقّم، ثم المرور بهم من مساراتٍ تسمح بمُعاينة هجمات الفصائل، وتجلّى الأثر فى رسالة «نيويورك تايمز» مثلاً، بين أنسنة الاحتلال وإبراز مرح الجنود على الشاطئ، وقدح المُقاومة بادّعاء أن مخاطرها لا تستثنى المدنيّين وإن جاءوا بسترات الصحافة.
يتقدّم العدوان ليحجز الفصل الأكثر دموية فى تاريخ إسرائيل: لقد كسر حاجز الوقت فى حرب «حزب الله» 2006، وبإيقاعه الراهن سيتخطّى غزوة غزّة 2014 بأيامها الخمسين، وفوق ذلك يُسجّل أكبر عددٍ من المدنيين الغزّيين، كما أنه الأكثر ألمًا لدولة الاحتلال فى المال والأرواح. لهذا تُفتِّش واشنطن عن منافذ الخروج بأكثر ممّا تُجفّف جُرحَها الأخلاقى. فيُطرَح مستقبل القطاع تحت سقف «القوّة الضامنة»؛ إمّا بترتيبات أُمميّة أو بضمانات إقليمية وعربية، ومن خلال السلطة الوطنية أو بترقية قيادةٍ جديدة بدل «حماس»، وكلها لن تصمد طالما لم تُعاد المعاييرُ الحاكمة لصوابها، وأوّلها ضبط التعاريف وقوننة الصراع: فالاحتلال جريمة، والمقاومة حق، والغربيّون شركاء حربٍ لا وسطاء تسوية، والبيئة الدولية مُسمَّمةٌ بانحرافها الطويل وتلتمس علاجًا عاجلاً. تُباد غزّة ويُقتَل الغزّيون؛ لكنهم أقوى من عدوّهم، وجارحون لذهنية الاستبداد والبلطجة بأكثر من آلة القتل، ولن يبتلعهم البحر أو يدفنهم نازيّو تل أبيب وعنصريّو الحلف الأطلسى؛ العالم أكبر الخاسرين وقد أصابته الرصاصات كلها؛ وكل الجُروح تُشفَى إلّا سقطات الضمير، وانتكاسات القِيَم، وتلبُّس المُتحضّرين بالوحشية والافتراس.