ذهب المصريون إلى صناديق الرئاسة ثلاث عشرة مرَّة فى قرابة سبعة عقود، كانت تسعًا منها للتصديق على رئيس اختِير سلفًا، وأربعًا للاختيار من مُتعدِّد. واليوم تبدأ الزيارة الرابعةُ عشرة؛ لتُتمِّم بنهاية الولاية رُبعَ القرن من التجربة التعدُّدية، عندما تكون الجمهورية قد أكملت سبعًا وسبعين سنة.
والمعنى أننا لا نزال إزاء تجربةٍ جديدة بالقياس لأعمار الأُمم والأنظمة السياسية، وهى تحتاج أن نتعهَّدها بالرعاية والدأب، وأن يستمدّ الجميع من فُرص الماضى الضائعة ما يُعِين على إنضاج ظروف الحاضر والمستقبل.. الاستحقاق مُهمّ لناحية الموقع على سُلَّم التطوُّر؛ وعظيم الأهمية بالنظر إلى السياق الذى يجرى فيه، وما آلت إليه أُمور الإقليم والعالم، مخلوطةً برُزمةِ تحدّياتٍ أنشأت التفاعلاتُ الخارجيةُ أغلبَها، وتكفَّل الداخل وما فيه من رواسب قديمةٍ بإنتاج الباقى. وإن كانت فى أيادينا من أوراق القوَّة ما يكفى للمُناورة والنجاة؛ فأهمُّها على الإطلاق هندسةُ البيئة الحزبية، وتنشيطُ المجال العام، وشدُّ عود الدولة ليصير صلبًا وقادرًا على الصمود أمام رياح الامتحانات العاصفة، المحلىِّ منها والمُستورَد.
درجَ العُرف فى كلِّ العالم على أن يُوصَف الاستحقاق الأحدثُ بأنه الأهمّ. ربّما من كَثرةِ التكرار صار الأُمر مُبتذَلاً فى نظر البعض؛ لكنّ الحقيقة أن انتخابات 2024 قد تكون لها من الأهمية ما يفوق كلَّ سوابقها. والأسباب لا تحتاج جهدًا لاستكشافها: طَوق النار يلفُّ المنطقةَ بكاملها، بأكثر ممّا كان فى 2011، والتوتُّر شرقًا وغربًا وجنوبًا يفرض ضغوطًا غير مسبوقة، والعالمُ ماضٍ إلى اختناقٍ سياسى واقتصادى قد لا يتركُ أوضاعَه القائمةَ على حالها. ثمّ إننا أنجزنا شرطَ الاستقرار فيما بعد الخلاص من الإخوان وإرهابهم، ولدى الجميع تطلُّعات مشروعة للانفتاح وتحفيز التشاركية فى منظومة الإدارة على قاعدةٍ ديمقراطية؛ وكانت تجربةُ الحوار الوطنى خطوةً أُولى مُهمَّة ومُلهمة، ورفعت منسوب الطموح فى أن تنفُض الأحزابُ غبارَ التراخى والخمول، وتتقدَّم نحو لعب أدوارٍ جادة فى مُخاطبة الشارع وتسييسه، وإحياء الورشة الوطنية الجامعة على قضايا الشأن العام. التدرُّج الطبيعى يقطع بأهمية الجولة، والآمال العالية تُضفى عليها قيمةً مُضاعَفة، والتحدِّيات تجعلها مسارَ الضرورة الذى لا يحقُّ التخلُّف عنه، وقد تضخَّمت الأسئلةُ وصارت فى حاجةٍ لأجوبة إجماعيّة كُبرى.
لم تُولَد التجاربُ السابقةُ ولاداتٍ طبيعية. انتهجت ثورة يوليو مسارًا بدا اضطراريًّا؛ إذ كانت التجربة الليبرالية ما قبل 1952 مُشوَّهةً، ومُرتهَنة لسطوة البرجوازية وتحكُّمات القصر وشبكات مصالحه؛ ولعلَّ الضبّاط الأحرار رأوا أنه يصعب إنجاز الديمقراطية والعدالة الاجتماعية بالأدوات القديمة؛ وقد فشلت فى الأمرين معًا. وعندما أراد مبارك أن يبتكر حالةً تعدُّدية بالعام 2005، قال البعض إنه يُمهِّد الأرض لاستخلاف نجله الأصغر، وسواء صحَّ ذلك أو كان يُجدِّد شرعيَّته الشائخة بوسيلةٍ أكثر شبابًا؛ فلم يأت المشهدُ مثاليًّا ولا تأسيسيًّا لما بعده، ورأينا عروضًا هزليّةً بدأت برئيسِ حزبٍ يحصل على «شيك الدعم» ثم ينفض يدَه من المُنافسة، وانتهت بآخرَ زوَّر أوراق الترشُّح، ويختمُ الآن حياته أجيرًا فى حظيرة الإخوان.. محطَّة 2012 تسلَّطت عليها سُخونة الشارع وتشاحُن السياسيِّين ومُزايدات العناوين الدينية الفجَّة؛ إلى أن سرقتها الجماعة، واصطدمت بالجمهور بعد سنةٍ واحدة، وفى 2014 كانت الفوضى وهجمات الإرهابيين سيّدةَ الموقف، وحتى 2018 لم يكن التعافى قد اكتمل.. أمَّا اليوم فالأجواء أكثر حيويّة: لا صراعات قديمة كما فى أزمنة الاستفتاء، ولا نوايا مُضمَرة كحال تجربتى التعدُّد الأُوليين، ولا ظروف قاهرة مثل الأخيرتين، وفى السباق ثلاثةُ رؤساء أحزاب؛ ما يجعله مُنطلَقًا لتنشيط مرافق السياسة، على مُرتكزٍ أيديولوجى مُؤسَّسى، وليس بنكهةٍ فردية كما فى كلّ السوابق الماضية.
إن كانت على الميزان كفَّة راجحة، بالنظر إلى حضور «السيسى» وشعبيته ورصيده مع قطاعٍ من الناخبين؛ فإن ذلك من طبائع الأمور عندما يتسابقُ رئيس فى السلطة. هذا ما يحدث فى الولايات المتّحدة وغيرها؛ لكنه لا يمنع الاجتهاد فى المنافسة، ولا الالتزام بالمُشاركة. كان مشهدُ الخارج جيّدًا، رغم بُعد المسافات وصعوبات الانتقال لمقرَّات التصويت، وبعضها كان بعيدًا جدًّا عن كثيرٍ من الناخبين. أمَّا الداخل فلا معوّقات فيه، وأهميَّة الإقبال أنه يُشير أوّلاً إلى الاستقراء السليم لطبيعة الظرف الراهن، واستشعار ما تخوضه الدولة من نزالٍ قاسٍ على محاور الأمن والاقتصاد والدبلوماسية، والحاجة لأن تتحصَّن المرحلة المُقبلة بشرعيّةٍ عريضة وراسخة. لكنّ الأهمَّ أن للبطاقات دلالات أعمق من اختيار الرئيس؛ فكأنها مظاريف فى صندوق بريد، للخارج قبل الداخل، وللدولة والمُعارضة على السواء.
فى الديمقراطية، لا فارقَ بين الأغلبية والإجماع. الشرعيَّة كاملةٌ وغير منقوصةٍ فى الحالين؛ إنما معنى الاصطفاف الوطنى والجبهة المُوحَّدة أمام التحدِّيات يتحقَّق فى أجلى صوره بالكثافة والحشد. ستكون المشاركةُ إشعارًا مُهمًّا للأصدقاء والخصوم، لا سيما فى البيئات المُلتهبة، وأهمّها أزمة «غزّة» وما ورائها من مُؤامرات التهجير وتصفية القضية الفلسطينية، كما ستكون عَونًا ضروريًّا فى مواجهة الضغوط ومحاولات الابتزاز. وفى الداخل فإنها تُخبر الدولة بعِلْم الوصول أن الشارع ليس سلبيًّا، ويتمسَّك بما تحقَّق ويتطلَّع لما فى مُتناول اليد، وتُخبر القوى السياسية بأن الملعب المفتوح يستوفى جمهورَه كاملاً، وعليهم الاجتهاد فى الخطاب والممارسة؛ بدلاً من الأداء البليد وبكائيَّات المظلومية الرثَّة. ستقرأُ الأغلبيةُ فى حالة الزحام إشارةً إلى وجوب التحضُّر لمُنافسةٍ أشرس مُستقبلاً، وستقرأ المعارضة أن حضورها سيتحدَّد بقدر ما تبذل من جهدٍ دائب ومُقنع؛ أى سيُؤسِّس الاقتراع الكبير لديناميكيَّةٍ أقوى فى الاقتراعات الصغرى، لتنعكس حيويّته على البرلمان والمحلِّيات والنقابات، وداخل الأحزاب نفسها.
سينتهى السباقُ بفائزٍ واحد؛ وسيخرج الجميع رابحين. كلُّ مُرشَّح سيعود إلى حزبه بحظٍّ من الذيوع والشعبية، يُكافئ ما حصَّله من قبول، ويسمح بأن تقرأ القوى السياسية حضورَها فى الساحة، وتضع الخطط وبرامج العمل لترقيته. ولعلَّ الفرصة مُضاعَفة بما فرضته المرحلة من ترتيبات؛ إذ تيسَّر لثلاثة مُرشَّحين أن ينطلقوا فى الإعلام وبين الجمهور، وغاب الرئيس بشخصه؛ ارتباطًا بأعباء المنصب واستثنائية اللحظة الإقليمية، وكانت إطلالته ستزيدُ الزخمَ، وتُصعِّب مهمَّة المُنافسين بأكثر ممّا هى الآن. هكذا تكون الغايةُ أن تُسجِّل الانتخابات نسبةَ مُشاركةٍ عالية، وفى القلب أن يسعى كلُّ تيَّارٍ لرفع حصَّة مُمثّله، وتبقى «الأصوات غير الصحيحة» معيارًا مُهمًّا؛ إذ كُلّما قلَّت كان ذلك دليلاً على كفاءة الحملات، وكلما زادت صار لِزامًا على القوى السياسية أن تُعيد مُراجعة أدائها. السلبيِّون لا يذهبون إلى اللجان؛ وصحَّةُ الأصوات معناها أنّ إيجابية المشاركة تمضى فى الوجهة السليمة، وأنّ عوام الناخبين تجاهلوا الدعايات المُلوَّنة والخطابات المُضادّة لدولة 30 يونيو، وصاروا أكثر وعيًا وجدّية؛ بما يكفى لحَملهم إلى الصناديق وتجنيبهم الأخطاء والإِبْطال.
المُعتاد أنَّ إقبال الناخبين على الرئاسة أقلّ من البرلمان؛ فالأخيرُ غابةٌ من المُتنافسين يُمثّلون كلَّ شبرٍ فى مصر، ويشتدّ الحشدُ فيه تحت عناوين حزبيّة أو جغرافية وعائلية. ومع ذلك فربّما تتغيَّر الصورةُ، وتتجاوز نسبة 2024 ما كان فى مجلسى النواب والشيوخ 2020، ومُتوسّطهما نحو 20 %.. الشارع غير الشارع، والأحزاب اليوم أنشطُ ممّا كانت عليه قبل ثلاث سنوات، وإن كانت الأوضاع الخارجية تُرخى ظلالَها على المشهد؛ فإنّ الفضل الأكبر فى الحيوية النسبية يعود لتجربة الحوار الوطنى؛ وكان الرئيس قد دعا إليه قبل ثمانية عشر شهرًا، من أجل فَتح المجال العام وتصفية رواسب السنوات القاسية، وشهد مُشاركةً حاشدة، وأثمرت مُداولاته أفكارًا ومُقترحاتٍ عملية ناضجة، شملها تعهُّد رئاسىّ بأن تأخذ طريقها للتنفيذ، وأن تكون الورشة الحواريةُ نفسها حالةً دائمة. ولا يُمكن الالتفات عن الإشارة الذكية والمُعبِّرة؛ باختيار رئيس الأمانة الفنية للحوار مسؤولاً عن حملة السيسى. والمعنى أن الشخص الذى توافقت عليه القوى السياسية أمينًا للطاولة الجامعة، ترتضيه القيادةُ جسرًا مع الشارع فى سباقٍ انتخابى، وإن كانت تتنافسُ مع الأحزاب؛ فإن المنافسةَ تجرى تحت سقف التوافق واللغة المُشتركة، والعمل الجاد لغايةٍ وطنية واحدة.
أبلت الحملاتُ الأربعُ بلاء حسنًا. وإن كانت إحداها تنطلقُ من تجربةٍ مادية ملموسة؛ فإنَّ البقيّة بدأت من الصفر، وكان عليها أن تُضاعِف الجهدَ لتقريب الفوارق الواسعة. ربّما انقضت مُهلةُ الملاحظات المُؤثِّرة، وما عاد بالإمكان تعويض الفاقد ولا تصويب الخاطئ؛ لكنّ الجولة الحالية مُقدّمةٌ لمُمارسةٍ سياسية طويلة، وفاعلية التراكم أن يكون على بصيرةٍ وبيِّنة. الملمحُ الأبرز أن النقدَ تغلَّب على اقتراح البدائل، فاحتُبِست أغلبُ الخطابات فى خندق رصد المشكلات وليس تسويق الحلول. وبدت بعضُ أحاديث المُؤتمرات والإطلالات الإعلامية ومُتون البرامج كما لو كانت شكاوى ناخب، لا وُعود مُرشَّح. إن كان الرهانُ على الجمهور فى تعديل أوزان البيئة السياسية، وإدماج الأحزاب بدرجةٍ أكبر داخل المُؤسَّسات التمثيلية؛ فالواجب أن يتطوَّر الأداء من نطاق العاطفةِ والشعبويَّة، إلى مُرتقى العقل والمنطق والمسارات التفصيلية القابلة للتطبيق. والرئاسةُ مجرَّد بداية، وبرلمان 2025 امتحانٌ مُهمّ يتعيَّن التحضير له من الآن.
أزمةُ النُّخَب الحزبية فى قِصَر النَّفَس. لقد انخرطت فى فَورة 2011 بحماسةٍ مُفرطة؛ ثم سلَّمت للإخوان بابتلاع المشهد: إنْ بتحالف بعضها مع الجماعة فى البرلمان، أو وُقوف آخرين خلفها فى مُؤتمر فيرمونت المشبوه. وفى 2014 خاض الناصريِّون سباقَ الرئاسة ثم أحجموا بعده، وحاول الماركسيِّون فى 2018 وأخفقوا فى تأمين العتبة الانتخابية. واليوم يُزايدُ اليسار والقوميِّون والليبراليِّون على فريد زهران، وهو شريكهم وابن حاضنتهم؛ لأنه وصلَ للمُنافسة بينما فشل شابٌ هَاوٍ كانوا يراهنون عليه. التراكم الذى ضيَّعوه قديمًا لا يصحّ أن يضيع الآن، والخطوة التى تقطعها الأحزاب، على تنوُّعها واختلافاتها، فى صناديق 2024 يجب أن تكون تأسيسًا جديدًا، وأن يُبنَى عليها مُقتضاها من الفكر والعلم والعمل؛ حتى لا تظلَّ القوى السياسية عاطلةً عن الحضور والتأثير، ولا تضطر للبدء من الصفر فى كلِّ مُعتركٍ جديد.
التطوُّر بطىءٌ بطبعه، والإصلاح صعبٌ ومُكلِّف. وكلُّ الإشارات المُتواترة تُشير لجديّة الدولة فى دفع الحياة السياسية إلى الأمام. اللجان فى عُهدة 15 ألف قاضٍ؛ بعدما طالب «الحوار الوطنى» بتمديد الإشراف القضائى، والهيئة العامة للاستعلامات أعلنت أنها اعتمدت نحو 80 منظمة وجمعية محلية ودولية، و186 وسيلة إعلام من مصر و33 دولة، ومُمثّلين عن 24 سفارة أجنبية، بأكثر من 23 ألف مُتابع ومُراسل ودبلوماسى.. يمتلئ المُرشَّحون بالمُنافسة والأمل، ويطمئنّ آخرون إلى تفوُّق الرئيس؛ لكنَّ الطرح الأخير نفسه لا يخلو من فُرصةٍ عظيمة، لأن من معانيه أن الجولة خاليةٌ من الشحن والاستقطاب، وبالإمكان أن تصير تُربةً صالحة لزراعة المحصول الذى نُحبّ أن نجنيه فى الجولات التالية.
أى مع انفتاحٍ آمن وقَدرٍ محدود من الضغوط، يسهُل أن تُجرِّب الأحزاب أدواتها وتتمرُّس على نزول الشارع والاستعداد للسباقات الكبرى.
ثلاثةُ أيّامٍ سترسمُ ملامح ما بعدها. وسواء حُسِمَت المنافسةُ فيها أو انتقلنا لجولةٍ إضافية؛ فإنَّ مُؤشِّراتها ستظلّ الأهم والأكثر تعبيرًا عن استيعاب مُقتضيات اللحظة. الطبيعىُّ فى كلّ انتخابات أنَّ فريقًا ينصرف عنها، وفريقًا يشتغل على صرف الراغبين فيها. ثمّة تيَّار عاجزٌ لا يكفُّ عن تعجيز غيره، وماكينةُ الإخوان ما توقَّفت ولا ستتوقَّف عن اختصام «30 يونيو» وكلّ ما تلاها. والواقع أن عجلة الوطن دوّارةٌ ولن تتعطَّل؛ إنما الدعوة الرشيدة غايتها أن يدورَ الجميعُ معها، فيتسارع دورانها وتنشط الدماء فى أوردتهم.. ستُنجَزُ 2024 مثلما أُنجِزَت 2018 و2014، وسنرتقى درجةً أو درجات فى 2030. المُؤمنون بالتطوُّر وصيرورة الحياة، وبأن الإصلاح جدليّةٌ دائمةٌ لا تنطفئ ولا تُحرق المراحل؛ سيقفون فى الطوابير اليوم وعيونهم على الغد. إنَّ كل خطوة نقطعها معًا أثبتُ وأقوى؛ لكن الزمن سيَّار فى كل الأحوال، لا يُبطئ خُطاه ولا ينتظر الكسالى والنائمين، أو الباحثين عن بطولاتٍ سهلةٍ وغير مُكلِّفة.