على خلاف الشائع، لم ينقطع الحوار إطلاقًا فى مسألة غزّة؛ لكنه يُدار مع الأطراف الخطأ طوال الوقت.. إسرائيل فى ورشة مفتوحة لا تسمع فيها إلا أصوات الحُلفاء ومخابيل اليمين، وفصائل القطاع تسدّ آذانها فى الداخل وتُرهف السمع فى بيئاتٍ بديلة. يتسبَّب ذلك فى ترقية منسوب الجنون داخل تل أبيب، وتعميق مأساة الغزِّيين، كما يخلق تحدِّيًا حقيقيًّا للضامنين والوسطاء الذين يُقاربون الأزمة من زاويةٍ نزيهة ومُتجرِّدة. الكلام سيَّار بقدر كثافة القصف وبحور الدم، واللغة مُعطَّلةٌ لأنها ليست من قاموسٍ واحد، وكأنّ طرفى الصراع يتّفقان على أن يظلَّ الانسداد سيّد الموقف، ليس فى المساحة المشتركة فقط؛ إنما داخل كلّ جبهةٍ وفى نطاقها الحيوى.
استعار الواقعُ عباءة الستينيّات، وصار الجميعُ مُقتنعًا بأنّ «لا صوت يعلو فوق صوت المعركة»؛ بينما تحترق الرسائل الهادئة، وتُقمَع الدعوات لترتيب الصفوف؛ حتى ما يُصاغ منها على شرط الحرب. يمضى «نتنياهو» وائتلافه التوراتى فى برنامج الإبادة مُتجاهلاً بعض الانتقادات الداخلية على قِلَّتها، ولا تتوقَّف «حماس» لإعادة قراءة المشهد واستكشاف الثغرات. بدأ الأول من ذُروة الانحياز الغربى، وما زال قابضًا على «البطاقة البيضاء» وقد تغيَّرت خطابات الداعمين قليلاً، وانطلقت الثانية من الانقسام ولم تُغادره، وتُحاور القريبين بلُغة الإشارة بينما تُوفِّر لسانها للبعيدين. لو كان الخرسُ قائمًا فعلاً؛ لقُلنا إنها طبيعة الأزمات والامتحانات الوجودية الصعبة؛ لكنّهما يمضيان فى محاوراتٍ بيزنطية تُؤكِّد أنّ المُشكلة ليست فى افتقاد القُدرة على الجدل؛ بل فى كثافته، والاعتصام بأن يكون مُلتهبًا وعاطفيًّا وبلا طائل.
كلُّ ما يُمكن أن يُقال عن «طوفان الأقصى» لا يُبرِّر ما تلاه. فلولا انحراف واشنطن والأُوروبيِّين ما تجرَّأت إسرائيل على كَسْر كلِّ الخطوط الإنسانية الحمراء، ولولا أجندة القطيعة مع الأسرة الوطنية والالتحاق بجبهةٍ أوسع من فلسطين؛ ما أدارت «حماس» الهجمةَ ومشهدها التالى بالصورة الراهنة. كشفت رصاصات «غلاف غزّة» عن التناقضات ولم تُنشئها؛ لناحية أنَّ المُعضلة فى الاحتلال؛ ثمّ المُساندة العمياء، بما يتجاهل تاريخ الصراع، وأخيرًا أنَّ طيفًا من أهل القضية يختصمون بقيَّة الأطياف، ويرون إمكانية أن يُديروا السياسة والسلاح بالكفاءة نفسها، وأن يُحرزوا السلطة والنصر معًا، ومن دون تكاليف باهظة. يُدار الحوار هناك على مُرتكز الهيمنة والإلغاء، وهنا يُدار بمنطقٍ مُركَّبٍ من الوصاية: الاستقلال عن شركاء الأرض، والتبعية لأوصياء الأيديولوجيا، ويمضى القائد والمُقاتل كأنَّ لا تناقض فى الغاية، ولا فساد فى تحصيل الوسائل.
الحوارُ بالعبريّة أنشأ مجالاً من الإجماع فى أوَّل الأمر، سمح بأن يلتحق الغربيِّون بمجلس الحرب، وأن ينخرط الجنرالات والسياسيّون فى جلساتٍ لقراءة التلمود ونبوءة إشعياء، ويسير الشارع بتلاوينه وراء نتنياهو وحليفيه النازيّين «بن جفير وسموتريتش». لاحقًا بدأت القوافل رحلة العودة: استشعرت واشنطن حجمَ الخسارة الأخلاقية، واكتشف بعضُ المعارضين من اليمين والوسط أنهم ماضون نحو هزيمةٍ استراتيجية، واستعاد الجمهور عاطفته تجاه الأمن والأسرى، ونشط المُحلِّلون وقادةُ الرأى فى تعرية السرديَّة الشخصانية لليكود وزعيمه. هكذا توسَّعت الطاولة واتَّخذ المنطوقُ هيئةً مُغايرة فى اللهجة والمُفردات، وبدا ذلك واضحًا فى رسائل واشنطن، وفى خلاف الميزانيّة الطارئة، وتخطئة الأهداف المُعلنة عن تصفية «حماس» واحتلال القطاع، وبدء البحث عن بدائل نتنياهو وسيناريوهات إنتاجها؛ لكن ضوضاء المرحلة السابقة ما تزال أعلى صوتًا، وتحبس النقاش بين جُدران البيت المُشتعل، وتُفقِده فُرصَ التطوُّر والانفتاح على وجهاته الصائبة. يصعب فى هذا المناخ أن تتخيَّل قناةً بين تل أبيب وغزّة، ويرفض المُتطرّفون أن تكون مع السلطة، ويُقاومون الوساطة لأنها تسلبهم غطاءَ الدعاية الدينية؛ وربما لشكِّهم فى طبيعة المُحاورة الدائرة على الجانب الآخر.
لنحو عشرة أسابيع تقريبًا، انفتحت «حماس» على قائمةٍ طويلة من العواصم؛ ولم تُطوِّح بصرَها ناحية رام الله. الحركةُ حاضرةٌ فى الضفَّة، ومُلاحظاتها على «أبو مازن» وفريقه تتردَّد داخل مُنظّمة التحرير نفسها، ولا مُبرِّر إطلاقًا للذهاب إلى قتل المريض بدلاً من علاجه. ناهيك عن أن المشهد الراهن أصاب الفصائل الغزِّية فى القلب، وجعلَ فُرصَ نجاة السلطة الوطنية أكبر وأقرب للواقع.. صفاءُ النيَّة كان يقتضى أن تُتبَع الرصاصة على العدو بوصالٍ مع الشقيق؛ حتى لو آمن الطامعون فى الناحيتين بأنه لن يُفضى إلى شىء. ما حدث فى الهُدنة الإنسانية كان حوارًا مع إسرائيل، والحمساويون جاهزون لتجديده وقتما يُلوِّح نتنياهو؛ ولا منطقَ فى أن تُجيد لُغةَ الخصم بينما تتعالى على الذين يُشاركونك اللسان والوجيعة. الردُّ الجاهز دومًا من صقور الصهيونية أنهم يفتقدون الشريك، وأن فلسطين مشروخة الإرادة بين مكاتب المُقاطعة باهتة الأنوار، والأنفاق المُظلمة وامتداداتها فى الإقليم.
شاخت السلطةُ، ولا عاقل سيُنكر أنها صارت أضعفَ ممَّا يُناطُ بها؛ لكنها فى الحقيقة أُضعِفَت عمدًا.. تتلاقى الفصائل والاحتلال، رغم كلِّ تناقضاتهما، على غاية تصفية مُنظَّمة التحرير والخلاص من تركة عرفات. الأولى تطمع فى وراثة الحُكم انفرادًا، والثانى يهرب من الشرعية والتزامات أوسلو؛ لا سيّما أنها الشريك المُعترف به، وفى مقدورها الوصول للعالم ومُخاطبة الحكومات والمُؤسَّسات والمحكمة الجنائية الدولية. التعقُّل فى تل أبيب سيخدم رام الله، وفى غزَّة قد يُفقِد حماس ورقة الولاية على القضية، وحوارهما إن تيسَّر إنجازُه سيصبّ فى صالح المُنظَّمة حتمًا؛ لهذا يتحاورون فى كلِّ الوجهات، ولا يُجرِّبون الاتجاه الوحيد الذى قد يقود إلى حلّ.
بدأت «فتح» فصيلاً مُسلَّحًا على ركيزةٍ أُصولية؛ ثمّ تطوّرت بالتفاعل مع القضية وتعدُّد الضربات على رأسها؛ حتى صارت نواةً لمشروعٍ وطنى ناضج، وقف على منصَّة الأُمم المتحدة، وعاد إلى تراب فلسطين بالكوفيّة والعَلَم ومُقدِّمات الدولة. كأنّ «حماس» اليوم تسعى إلى البدء من نقطة الصفر؛ إذ تشطبُ عقودَ النضال الماضية، وتُقدِّم نفسها بديلاً يلبس السلاح ويخلع الشرعيّة، وغاية المكاسب أن تقتسم طاولة التفاوض لتصير سلطةً جديدة، وعندما تأكلها السياسة ستُنبت الأرض «ميليشيا» أشدّ راديكالية وكُفرًا بالحلول الجزئيّة، وتدخل القضية دورةً إضافية من المُزايدة والتنطُّع وبلاغة الشعارات واتهامات التخوين والتفريط. وهذه الرؤية فى جوهرها إنما تنسفُ التراكُمَ القديم، وتُعيد إنتاج التجربة بأخطائها الأولى، داخل دوَّامة مُغلقةٍ وشديدة الهياج.
يتأكَّد ذلك بالنظر إلى المسار الذى تنتهجه «حماس».. إنّ محنة الداخل بما يُغلِّفها من أحاديث عن الاحتلال والتهجير، لم تدفعها لدراسة الشروط الداخلية للبقاء، وترميم الجغرافيا، ووَصْل الجُزر البشرية المقطوعة ببعضها؛ إنما قادتها إلى البحث عن بيئاتٍ بديلة بما ينسجمُ مع مُخطَّط العدوّ، أكثر من مُراعاته لصالح القضية ونهائية الوجود الفلسطينى فى أرضه. أحدثُ الحلقات أنها أعلنت مُؤخَّرًا عن تأسيس ما أسمته «طلائع طوفان الأقصى» فى لبنان، وقالت إن هدفها دعم المقاومة، والاستفادة بكل الخبرات العلميّة والفنية؛ ثمَّ تراجعت أمام كثافة الرفض والانتقاد من أغلب المُكوّنات اللبنانية؛ لتقول إنها لا تقصد من كيانها الجديد أن يكون قاعدةً مُسلحةً ولا تحرُّكًا عسكريًّا. ما كان الإعلان مُوفَّقًا، ولا كان التبرير مُقنعًا؛ لكن الذى لا يُمكن تجاهلُه أنها عودةٌ للماضى بكل ضياعه وخِفَّته، وليست خطوةً نحو المستقبل، ولا حتى وفق تصوُّرٍ ناضج عن الحاضر.
أغلبُ الفصائل الفلسطينية حاضرةٌ فى لبنان بالفعل. «حماس» هناك منذ تأسيسها، وتُسيطر اليوم على بعض المُخيّمات، ولها وجودٌ عسكرىّ ظاهر منذ سنوات؛ وقد شنَّت هجماتٍ من هناك خلال حرب غزّة 2014، ومع الأيام الأولى للطوفان أطلقت صواريخ على الجليل الأعلى، واشتركت فى ورشةٍ مع الجهاد والجناح الميليشيّاتى لإخوان لبنان «قوات الفجر» تحت راية حزب الله. الإعلان الأخير لا يستحدث ظِلًّا غائبًا؛ إذ إن الجسد منصوبٌ على مُرتفعات الجنوب بالفعل. لكنه ينطوى على رسالةٍ مُزعجة، تنتقل فيها ملكيّة «طوفان الأقصى» من غزّة إلى الحاضنة الشيعية، وتضع الحركةُ رايةً بديلةً تحسُّبًا من الهزيمة فى القطاع. أى أنها تبحثُ عن إشارة البقاء بالعلامة التجارية الجديدة، ما يُشير إلى قبولها النفسى لانتصار الاحتلال، أو تجهيزها العملى للانتقال.
خرج «عرفات» قديمًا على أنقاض بيروت؛ ولعلّه لو كان حيًّا ما حاول تكرار التجربة. وإلى ذلك؛ هدّد رونين بار، رئيس «شين بيت»، بتعقُّب قادة حماس فى أى مكان، وأشار إلى لبنان والدوحة بين الوجهات المُحتملة. يسهُل أن نتفهَّم رغبة «نصر الله» فى إبقاء الجنوب مُشتعلاً؛ لأنه ممَّا يُسوّغ أيديولوجيا المحور الشيعى، ويُغذِّى فلسفةَ «وحدة الساحات»؛ كما أنّ التوتُّر يرفعُ الحاجةَ للحزب، ويردعُ واشنطن معنويًّا عن تَرك مجانين إسرائيل يُوسِّعون الحرب؛ لكنّه من غير المفهوم أن يلعب الحمساويّون دورًا فى مسرحية سُرَّاق الهويّة والتعايش وبقايا اتفاق الطائف؛ كما لا يُفهَم لماذا يبدو قادةُ الحركة مُنقسِمين، ولا يُوفّرون مُناسبةً للتلميح بذلك، أو الاقتراب ممَّا يُشبه التصريح، وتكشفه تضاربات هنيّة ومشعل وأبو مرزوق والعارورى وأسامة حمدان، وبقيّة مُنتدى الحناجر الزاعقة.
أُثيرت أقاويلُ عن ترتيب خروج قادة القسَّام ومجموعات من مُقاتليها لوجهاتٍ بديلة عن غزّة. الحركة كانت تنفى، والمنطق يجعل الخيار صعبًا؛ لكنّ التحرُّك فى لبنان ممَّا يُرجِّح الاستعداد لسيناريو من هذا النوع. وعمومًا فلاً أحد يتحرّك فى بيئة «حزب الله» دون إرادة حسن نصر الله، وليس بالتنسيق فقط؛ إنما بالوصاية الكاملة والأوامر المُباشرة. والمعنى أن «حماس» تخوض حوارًا مع الوكيل الأوَّل للمحور الشيعى، وتتحاور فى موسكو وطهران وأنقرة وغيرها؛ لكنّ رسائلها لا تصل إلى العنوان الأهم، هناك فى فلسطين.. ومن البديهة أنّ ذلك لن يُفضى إلى مخارج جادّةٍ ومُقنعة؛ لأنّ البرنامج الوطنى غائبٌ عن أُفق التداول، ناهيك عن الاتّفاق على ما يُرضى كلّ الأطراف، والشعب أوّلاً بالضرورة.. ولأنّ إسرائيل لن تمنح الفصائل نصرًا معنويًّا كبيرًا؛ فأقصى ما يُمكن الوصول إليه أن يبقى القطاع على قيد الحياة. صحيح أنه لن يموت أو يُبَاد؛ لكنّه قد لا يعود قادرًا على قيادة دفَّة النضال، ولا حتى تنشيط الملف، ومن دون ذلك فإن القضية قد تكون ارتدَّت للوراء أمام سيول الطوفان، بدلَ أن تُدفَع للأمام. الزخمُ الدعائىّ والإنسانى الراهن لا قيمةَ له إلا بقدر ما يصبُّ فى خزَّان السياسة، والحمساويّون سُرِقَت منهم رابطةُ العنق المُؤهِّلة لدخول قاعات الدبلوماسية؛ عندما اكتفوا بلثام «أبى عبيدة»، غير مُبالين بالبروباجندا الصهيونية والوَصْم بالإرهاب والداعشيّة.
توحَّشت آلةُ القتل ثأرًا؛ ومن أجل فَرض الأمر الواقع، وإجبار «حماس» على تقديم تنازلات.. يُمكن الجَزم بأنّ الخيار الصهيونى خاطئٌ تمامًا، وأن منطق الأمن واستعادة الرَّدع بتدمير غزّة؛ يُهدِّد بتفجير الأوضاع على تخوم لبنان وسوريا، وفى العراق، وعند مياه الحوثيِّين، وداخل فلسطين نفسها؛ لكنها رياضات ذهنيّة تمرَّست عليها تل أبيب، وتحتمى منها بالوجود الأمريكى الكثيف فى المنطقة. موجةُ الجنون عاليةٌ جدًّا؛ وإن تكفَّل الوقت بتخفيض السقوف وإعادة برمجة الأهداف؛ فإنه لا بديلَ عن الحوار: داخليًّا فى إسرائيل وفلسطين، وخارجيًّا فيما بينهما، ومع عواصم التعقُّل ومحور الميليشيّات؛ ولعلَّ الأخير لا يُقصِّر فى ذلك وقد يجنى مكاسبَه قريبًا من واشنطن. الضعيفُ أحوج من القوىِّ إلى الفطنة والهدوء وتَرك الأبواب مفتوحةً دائمًا؛ وأوّل المخارِج أن تُدار مُحاورةٌ عاجلةٌ بين الفلسطينيِّين، لا يصحُّ أن تتأجَّل بادّعاء المحنة، ولا بمنطق أولويّة المعركة وصوتها الأعلى.
الضغوطُ تُحاصر الجميع تقريبًا؛ لكنّ إسرائيل تعانى شطرَها الأكبر: الانقسام بالداخل، والانتقاد بالخارج، وتصدُّع جدار الدعم، مع تكاليف سياسية وأخلاقية باهظة؛ وسيكون مُهمًّا أن يُضاف إليها ضغطُ الالتئام الفلسطينى. كلَّما طالت الحربُ خسرت تل أبيب، وانهار اليمينُ المتطرِّف أمام بقاء غزَّة والفصائل؛ لكنّ وقفَها ضرورةٌ مُلحّة قبل أن يُزاح الناس، أو تصير الأرض غير صالحةٍ للحياة. ولئن كان التحوُّل بطيئًا فى صفوف العدوّ، فإنّ تنشيط حوارٍ فلسطينى ناضجٍ وموضوعى ممَّا يُمكن أن يُسرِّع الوتيرة؛ بين النهر والبحر، وفى الإقليم والعالم.. إن كان القاتلُ يُعطِّل التفاهُمَ للإجهاز على ضحيته؛ فليس مفهومًا أن يستجيب له القتيل، ويتلقَّى الرصاصَ بينما يزعقُ بكلامٍ فارغ ومكاسب وهميّة، لن يكون لها معنى، لو تحقَّقت؛ إن لم تجد مَنْ يصرفُها أو ينتفع بها؛ عندما يقفُ العدوُّ المهزوم بالعار والدم، على جُثَّة المُناضل المُنتصِر بالعاطفة والمعنويّات.