يبدو الارتباط وثيقا بين المشاركة الكبيرة وغير المسبوقة من قبل ملايين المصريين، في الانتخابات الرئاسية، والعديد من الأحداث الإقليمية، والتي طغت على المشهد الدولي، في الأسابيع الأخيرة، وعلى رأسها العدوان الإسرائيلي الوحشي على قطاع غزة، وهو ما أضفى المزيد من الزخم على المشهد الانتخابي، في ظل إحساس المصريين بالخطر، خاصة بعد الدعوات المشبوهة بتهجير الفلسطينيين من أراضيهم، وهو ما يمثل تهديدا صريحا للأراضي المصرية، في ظل تدفق ملايين البشر إلى سيناء، وهو ما يعنى عودة عقارب الساعة إلى الوراء مجددا، في ظل احتمالات اندلاع فوضى عارمة قد تطيح بالبلاد والعباد، بعد سنوات من الاستقرار والتنمية، من جانب، بالإضافة إلى ما تشكله مثل هذه الدعوات من خطورة على مستقبل الدولة الفلسطينية، والتي دفع المصريين من أجلها الغالي والنفيس على مدار عقود طويلة من الزمن.
والحديث عن العدوان الإسرائيلي على غزة، جنبا إلى جنب مع محاولات الدولة العبرية لـ"إعادة تدوير الفوضى" في منطقة الشرق الأوسط، يشكلان إعادة للمشهد الذي سبق وأن عاشه المصريون قبل عقد من الزمان، عندما كانت نفس الرقعة الجغرافية "سيناء"، تحت طائلة الميليشيات الإرهابية، بدعم من تلك الجماعة التي صعدت إلى السلطة في غفلة من الزمان، ليكونوا بمثابة "عصا" في أيديهم، يمكنهم استخدامها لمواجهة الغضب الشعبي، حال اندلاعه، وهو ما بدا في تهديدات صريحة وعلنية، على مرأى ومسمع الجميع من قبل قادتها، والتي زادت وتيرتها في أعقاب صدور بيان 3 يوليو التاريخي، ليخرج المصريون عن بكرة أبيهم لـ"تفويض" القوات المسلحة، والرئيس عبد الفتاح السيسي، والذي كان يشغل وقتها منصب وزير الدفاع، للحرب على الإرهاب في 26 يوليو 2013.
وهنا تبدو العديد من المشتركات بين "تفويضين"، أولهما تخويل الرئيس عبد الفتاح السيسي لقيادة الحرب على الإرهاب، وإن كان ذو طبيعة مختلفة، فالأول "ميليشياتي" يعتمد على التنظيمات الإرهابية، في محاولة لإرهاب ملايين المصريين ومنعهم من الخروج على الجماعة الحاكمة، بينما الثاني ذو طبيعة "نظامية"، يمارسه جيش الاحتلال، عبر قصفه الوحشي لغزة، وقتله آلاف المدنيين العزل، بينما تصبح دعوات تهجير السكان التي تبنتها الدولة العبرية بمثابة الوجه المكمل للصورة، بعيدا عن التذرع بـ"الدفاع عن النفس"، أو الادعاء بالرغبة الملحة في القضاء على المقاومة المسلحة، ليصبح العالم في مواجهة جريمة إبادة جماعية مكتملة الأركان.
ومن بين المشتركات الجديرة بالملاحظة بين الحالتين المذكورتين، تبدو المواقف الدولية، التي اتسمت بانحيازها في بداية الأمر، وهو ما بدا، في الحالة الأولى، في محاولات القوى الدولية الكبرى للالتفاف على إرادة المصريين في 2013، وممارسة أقصى درجات الضغوط، خاصة بعدما نجحت مصر، ليس فقط في حماية مستقبلها وإحياء دولتها، بعد سنوات من الضياع، وإنما حماية الإقليم بأسره، في ظل استلهام ثورة المصريين في كافة دول الإقليم لتصحيح الأوضاع، لتقود مصر تغييرا شاملا يبدأ من مناطقها الجغرافية، عبر استعادة الاستقرار النسبي في الإقليم، لتنطلق منه نحو تغيير المواقف الدولية، عبر الفوز بثقة كافة القوى الدولية، في ظل قدرتها على تحقيق انتصارات متتالية على الإرهاب، إلى حد استلهام تجربتها في هذا الإطار من قوى دولية كبيرة، على غرار فرنسا، ثم التحول نحو تحقيق طفرات تنموية عملاقة، كانت محلا للاستلهام الإقليمي والدولي.
بينما ينطبق الوضع نفسه، في حالة غزة، عندما تبنى الغرب دعاية مؤيدة للاحتلال الإسرائيلي، تحت ذريعة الدفاع عن النفس، في أعقاب "طوفان الأقصى"، ولكن لم يستغرق الأمر كثيرا حتى تحولت تلك المواقف إلى الاعتدال النسبي، بقيادة مصرية، بدأت مع الدعوة لقمة القاهرة للسلام، واللقاءات المتواترة التي عقدها الرئيس السيسي مع قادة العالم، للتأكيد على مواقف مصر الحاسمة فيما يتعلق بالقضية الفلسطينية، عبر استعادة الزخم لحل الدولتين، ورفض التهجير، باعتباره تقويضا للدولة الفلسطينية المنشودة، ناهيك عن دعم قطاع غزة إنسانيا، بينما ارتكزت مواقفها كذلك على حماية ما تحقق من مكتسبات إقليمية، في ظل التداعيات المتوقعة للتهجير من فوضى إقليمية شاملة، وهي المواقف التي لاقت تماهيا دوليا معها، يعكس قدرات كبيرة للدبلوماسية المصرية وهو ما يمثل صفعات قوية للاحتلال الإسرائيلي
ولو نظرنا إلى خروج ملايين المصريين في الانتخابات الرئاسية، والمشاركة غير المسبوقة بها، نجد أنه تزامن في حقيقة الأمر مع احتجاجات شهدتها العديد من دول الغرب، احتجاجا على مواقف حكوماتهم المتقاعس تجاه ما يرتكب من جرائم في قطاع غزة، ليتحول المشهد الانتخابي إلى ما يمكننا اعتباره "ترجمة" حقيقية لموقف رسمي مصري معتبر يحظى بالدعم الشعبي، في مواجهة مواقف دولية متخاذلة، يغيب عنها تأييد الشارع.
وهنا يمكننا القول بأن تفويض المصريين للرئيس السيسي يمثل انعكاسا صريحا لحقيقة الإحساس العام بالخطر، وإدراكا لحقيقة قيادته للرأي العام العالمي فيما يتعلق بأزمة غزة، باعتبارها القضية الرئيسية في اللحظة الراهنة، أو قبل ذلك عبر إعادة إدماج الدولة المصرية في البوتقة الدولية في زمن قياسي، بعد محاولات عزلها في أعقاب ثورة المصريين في 30 يونيو، ومن ورائها الإقليم بأسره عبر إعادته إلى الاستقرار النسبي بعد سنوات الفوضى.