ربما كان الإقبال الكبير على صناديق الاقتراع خلال الانتخابات الرئاسية الأخيرة، أهم المشاهد المرئية في العرس الديمقراطي، والذي أسفر عن ولاية جديدة للرئيس عبد الفتاح السيسي، بما يعكس إدراكا عاما لدى قطاع كبير من المجتمع بما تحقق من إنجازات، ومكتسبات، وعلى رأسها صيانة الأمن بعد سنوات الفوضى، وكذلك تدشين مسيرة تنموية من شأنها تحقيق طفرة كبيرة في حياة ملايين المواطنين، ناهيك عن تحقيق قدر كبير من الاستقرار الإقليمي، عبر تهدئة الصراعات وتحويل بوصلتها، نحو الشراكة، في ضوء الحالة "الفيروسية" التي تتسم بها الفوضى، في ظل انتقالها السريع من دولة لأخرى، على غرار ما شهدته حقبة "الربيع العربي"، والتي اندلعت مع مطلع العقد الماضي، لتضع العديد من دول الشرق الأوسط على حافة الهاوية.
إلا أن ثمة مشاهد أخرى كانت متوارية خلف حالة الانبهار بالعرس الديمقراطي، والمشاركة غير المسبوقة، وتعددية الفئات المشاركة، بين المرأة المصرية والشباب وذوى الهمم، وغيرهم، أبرزها التحول الكبير في العلاقة بين الدولة ومختلف أطراف المعادلة السياسية، وكذلك بين السلطة والمعارضة السياسية، وهو ما يبدو في المظهر الحضاري للمرشحين، والخطاب المتزن الذي تبناه الجميع، منذ لحظة الترشح، وحتى إعلان النتيجة، والذي توج باللقاء الذي عقده الرئيس عبد الفتاح السيسي مع المرشحين الثلاثة بقصر الاتحادية، وهو ما يمثل انعكاسا صريحا لحالة من التكاتف، لتقديم صورة حضارية للدولة المصرية، بعيدا عن معارك تكسير العظام، في إطار ما يمكننا تسميته بـ"الديمقراطية الخشنة" والتي تحمل طابعا تشويهيا في الكثير من مراحل الصراع السياسي خلال الأحداث الانتخابية في بعض الدول حول العالم، سواء عبر التشكيك في عمليات التصويت، أو الفرز، وصولا إلى النتائج النهائية، ناهيك عن التلسين بين المرشحين خلال مراحل الدعاية المختلفة، وهي الأمور التي غابت تماما عن المشهد المصري في الانتخابات الأخيرة.
وللإنصاف، ربما لا تكون حملات التشويه والتلسين التي يخوضها المرشحين في مواجهة منافسيهم ليست حكرا على الصراعات السياسية في دول العالم الثالث، وإنما في واقع الأمر تتجلى بوضوح في العديد من الدول المتقدمة، ربما أبرزها في الولايات المتحدة نفسها، والتي تصنف نفسها باعتبارها "مركز الديمقراطية" في العالم، وهو ما يبدو في المناظرات بين المرشحين تارة، بل ووصلت مؤخرا إلى التشكيك في النتائج، على غرار الانتخابات الأمريكية الأخيرة في 2020، عندما أكد الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب أنها مزورة، مما دفع أنصاره إلى الخروج في احتجاجات حاشدة، واقتحام الكونجرس لمنع الإعلان عن فوز غريمه جو بايدن.
ولعل المشهد الأمريكي المشار إليه، وإن كان في جوهره صدمة لكل المبشرين بالنموذج الغربي للديمقراطية، إلا أنه في واقع الأمر يتماهى مع حالة من المخاض التي يشهدها العالم، في ظل فشل المنظومة التي دشنتها واشنطن قبل عقود على التعامل مع الأزمات التي تهدد الداخل في العديد من دول الغرب، وأقربها إلى الذهن أزمة الوباء، وأزمات الاقتصاد المتتالية، وغيرهما، في الوقت الذي نجحت فيه دولا أخرى موصومة بـ"الديكتاتورية" في احتوائها، مما أثار امتعاضا شعبويا تجاه دعاة الديمقراطية الغربية.
وبالطبع، ربما لا يليق أن تكون الديكتاتورية هي النهج السائد في أنظمة الحكم، ولكن تبقى الديمقراطية في مفاهيمها في حاجة إلى إضفاء طابعا مرنا لها، يمكنه التماهي مع كافة الدول في مختلف مناطق العالم، ليتواكب مع الثقافات والأفكار والتقاليد، التي تهيمن على المجتمع، وهو ما يبدو في المشهد المصري الأخير، بعيدا عن فرض أفكار نمطية بعينها، خاصة وأن تجربة استنساخ النموذج الغربي سبق لها وأن فشلت في العديد من الدول، وعلى رأسها العراق والتي عانت لسنوات جراء المقامرة الأمريكية على أراضيها قبل عقدين من الزمان.
فلو نظرنا إلى الإقبال الكبير على صناديق الاقتراع في الانتخابات المصرية، نجد أن ثمة تغيير ملهما في المشهد السياسي المصري، مدفوعة بالعديد من المستجدات الإقليمية، والتهديدات المرتبطة بها، في حين نجد أن مشاركة 3 مرشحين كممثلين لأحزاب سياسية، بعدا آخر من التغيير، والتي تحولت في دورها من مجرد القيام بـ"شو" إعلامي، إلى الفاعلية عبر السعي الحثيث إلى الوصول إلى السلطة، مع مراعاة معايير المجتمع والثقافة، والعمل على الحفاظ على حالة الحوار، لتكون العملية الديمقراطية دافعا لاستمرارها، مع المشاركة في صيانة الأمن والاستقرار خاصة في اللحظات الحاسمة في تاريخ الوطن، على غرار اللحظة الراهنة.
والشراكة تجلت بين المتنافسين على مقعد الرئيس تجلت في المشهد المصري في ظل إجماع المرشحين على الإشادة بالعملية الانتخابية، والتأكيد على حرصهم على تقديم رؤيتهم للرئيس المنتخب، للاستفادة منها، فيما هو قادم، وهو ما يمثل جانبا آخر لاستدامة الحوار، باعتباره الأساس الحاكم للعملية الديمقراطية، في مصر، في إطار ما أسميته في مقال سابق بـ"الديمقراطية الحوارية".
وهنا يمكننا القول بأن المشهد الانتخابي حلقة مهمة في تاريخ الدولة المصرية، في إطار عملها الجاد وسعيها الحثيث نحو التعددية السياسية، في إطار من "الشراكة التنافسية"، والتي من شأنها التحول بالسياسة من الصراع إلى الحوار، وهو ما بدأ في العديد من المراحل السابقة، منها توسيع دوائر التمكين، عبر تعزيز دور القطاعات المهمشة، مرورا باقتحام المناطق المهمشة بالتنمية، وحتى تعزيز دور الأحزاب عبر الحوار الوطني، والذي سيحظى بمزيد من الزخم في المرحلة المقبلة، بفضل المشهد الانتخابي الراقي.