منذ بدء عام 2020 وحتى بزوغ فجر عام 2024، أى ما يقرب من 4 سنوات كاملة، جرت فى نهر السياسة العالمى مياه كثيرة، تبدلت وتغيرت فيها المواقف وسقطت قيم أخلاقية، وتشوهت الإنسانية، وتكلس الضمير، وتعرَّى زيف شعارات «العولمة» والحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان، فمع بدء سنة 2020 كان البشر على كوكب الأرض فى اختبار حقيقى يهدد وجودهم، مع ظهور وباء كورونا، ويمكن لأى متابع ومحلل سياسى مبتدئ ومراقب لا يتمتع بقريحة العباقرة، تأكيد أن فيروس كورونا - بجانب ضربه بعنف لأجهزة التنفس للإنسان - ضرب وبعنف أكبر عنق النظام العالمى القائم على «العولمة»، عندما انكبت كل دولة على نفسها، وبدأت تُعلى من شأن «الأنا» على حساب «المجموع».
والبداية من عند الولايات المتحدة الأمريكية، والدول الأوروبية، التى سارعت فى الاستحواذ على الأمصال والتطعيمات ضد فيروس كورونا، لحماية شعوبها، وتركت بقية دول العالم - خاصة الفقيرة منها فى قارات أفريقيا وآسيا والأمريكيتين - يهددهم الفناء بفعل انتشار الوباء، واختفى هنا الضمير، وسقط شعار العولمة فى قاع المصلحة الفردية، وإعلاء مبدأ «أنا ومن بعدى الطوفان»، وكان ذلك مسمارا قويا دقه فيروس كورونا فى نعش منظومة النظام العالمى، بعد عقود من محاولات القوى الكبرى فى تدشينه والترويج له، والترنم بعظمة منظومته القيمية والإنسانية!
ولم يكد أن ينتهى العالم من لملمة شتات نفسه متشبثًا بطوق النجاة من فيروس كورونا، صحيًا واقتصاديًا وقيميًا وما رسخته من العودة لإعلاء شأن المصلحة الوطنية لكل دولة، والاستفاقة من سُكر خمر العولمة، حتى فوجئنا باندلاع الحرب الروسية الأوكرانية، التى زادت من أوجاع الدول الفقيرة، تلك الحرب التى زادت من تعقيد الموقف الدولى، ووضعت ما تبقى من منظومته الأخلاقية على المحك، من خلال الاستقطاب الواضح الجلى، والتكتلات المنذرة بحرب عالمية، وتهديدات نووية لها تأثير خطير - بغبارها - على حياة الملايين من البشر، خطر سيمتد ويتسع دوائره.
ووسط التهديدات بحرب عالمية، اندلعت حرب داخلية فى السودان، راح ضحيتها وفق الأرقام التقديرية حتى الآن 10 آلاف قتيل، وتوقفت الحياة فى البلد الشقيق المكلوم، وهنا اشتعلت نيران على حدود مصر الجنوبية، ما كان لها أن تشتعل، لأن تأثيراتها السلبية سيئة على أمننا القومى، وكلفتها كبيرة.
وما كاد عام 2023 يلملم أيامه الثقيلة تلك، مؤذنا بالرحيل، حتى هبت عواصف وفيضانات تسونامى عسكرى فى غزة، لم ترحم براءة الأطفال، ولا دموع النساء، ولا استجداء العجائز، ولا تدمير المستشفيات والمدارس، وفوجئ الجميع بأكبر قوى على وجه الأرض - الولايات المتحدة الأمريكية ومن خلفها أوروبا - تحول اتجاه بوصلة الدعم المطلق لأوكرانيا، باعتبارها البلد «المعتدَى عليه» إلى دعم وتأييد ومساندة مطلقة لإسرائيل البلد «المعتدى»، والتى استخرجت كل ما فى قاموس الوحشية وكل مخزون الهمجية والبربرية لإنسان الغاب، بأدوات العصر الحديث الفتاكة، فى شن حرب قذرة على غزة، دون رحمة أو وازع من ضمير أو أخلاق أو قوانين وأعراف!
الحرب الإسرائيلية الوحشية البربرية على غزة، هشمت البقية الباقية من وجه النظام العالمى الذى تأسس سنة 1945 وملحقاته من العولمة وخلافه، ولم يتبقّ منه شىءٌ؛ فالمواقف تعرت فى زمن صار فيه التوثيق - صوتا وصورة - هو البطل، وأن جرائم قتل الأطفال صار يتابعها كل من على قيد الحياة على كوكب الأرض، وأن القوى الكبرى التى ارتدت أقنعة رسل الأنسانية والحرية والديمقراطية، مزقت أقنعتها وأسقطتها بأيديها لتكشف عن الوجه الشيطانى الحقيقى، الباحث عن مصالحه المقيتة، بتدمير وتخريب البلاد وقتل العباد!
ومن هذا المنطلق، يتبين أن عام 2024 عام مختلف، فما قبله شىء، وما بعده أشياء أخرى، وإن إعادة هيكلة النظام العالمى، وزيادة التكتلات، والقضاء على ظاهرة القطب الأوحد، ستحتل صدارة المشهد دون منازع أو ريب، وسيشهد صعودا لتكتلات، وتواريًا لأخرى، ويبزغ نجم دول مع خفوت بريق غيرها، بجانب أيضا أن عام 2024 سيشهد انتخابات بأشكال مختلفة، فيما يقرب من نصف دول العالم - أكثر من 70 دولة - من بينها على سبيل المثال لا الحصر، «أمريكا، وروسيا، وبريطانيا، وإسرائيل، والهند، وإيران، وكوريا الجنوبية، وباكستان، والنمسا، والبرتغال، وجورجيا، وبيلاروسيا، وتايوان، والمكسيك، وبنجلاديش، وإندونيسيا، وفنزويلا، وأوروجواى، وجنوب أفريقيا، وتونس»، إلى أخر قائمة السبعين دولة!
ومن المتوقع أن تأثير نتائج هذه الانتخابات على القرار السياسى الدولى، وكثير من الرؤى الاستراتيجية، سيكون كبيرا، وسيرسم ملامح النظام الدولى فى 2024 لا محالة!
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة