حازم حسين

النضال على طريقة شمشون.. لعبة المحاور عندما تسرق فلسطين وتختصم القضية

الأحد، 24 ديسمبر 2023 02:00 م

مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
لا يُمكن أن تشعل النار على ضفَّتى النهر وتنجو؛ فإمَّا أن تغرق أو تحترق. والمُعضلة فى ساحة الحرب المُرتَّبة على شرف غزَّة، أن أطرافها يضربون فى كلّ الاتجاهات، ولا يُخلّون بابًا مُشرعًا للعودة. وبينما يمضون فى عضّ الأصابع ومُراكمة الخسائر؛ يستمسكون باستنزاف الذين لم يُطلقوا الرصاص ولا يُحبّون أن يظلَّ مُتطايرًا فى الأجواء؛ كأنَّ من غاياتهم أن تُضرَب الأعناقُ فى فلسطين، وتنزف الخرائط كلّها. ولأن ما حدث كان كبيرًا، ولا يزال، ولأنه تدرَّج صعودًا ولم ينفجر دفعةً واحدة؛ يصعب افتراض أن الواقعَ على أكتاف المنطقة قد وقع عفوَ الخاطر، ولا أنه ليس مدفوعًا من جهاتٍ مُعلنةٍ ومُستتِرَة، أو لا يُحقِّق مصلحةً يتلاقى فيها العدوّ والصديق. فضيلةُ الفهم لا تستنكف إثارةَ الأسئلة؛ مهما بدت جارحة، والحفر فى النوايا أوَّله إمساكُ المُعلَن من الأقوال والأفعال. أمَّا الخطيئةُ كلُّها فأن يُختزَل الصراع فى القاتل والقتيل، ويُنحَّى الذين يدفعون أثمانًا باهظةً دون اختيارٍ ولا جريرة.
 
عندما أطلقت «حماس» عمليتها فى غلاف غزّة كانت تُمارس مُقاومةً مشروعة، مهما تحامقت، أو انزلقت فى مآخذ على الإعداد والتنفيذ وجاهزيّة استقبال الصفعة التالية. لكنها عندما زايدت على بعض عواصم المنطقة، أو ناشدت شُركاءها فى «محور المُمانعة» بإرخاء عباءتهم الشيعية على جبهةٍ أوسع؛ كانت تُعبّئ فلسطين، بجراحها القديمة وخارطتها الواسعة، فى قُمقمٍ أيديولوجى مُظلِم وسيِّئ الرائحة. وإلى الآن يطيبُ الحديث للذين حوَّلوا الإنسانى إلى دينىّ عن فواتير تُسدِّدها الفصائلُ وحدها، ويكنسون أكوامَ الجُثث وفيضان الدماء تحت سجاجيد فارسيّة فاخرة، يُمكن أن تراها فى الفنادق التى تحتضن القادة؛ لكنها ليست فى غزّة ولا بين أطلالها. وفوق ذلك، يتجاهلون عمدًا ما يتكبَّده الآخرون؛ كأنه من طبائع الأمور أن يُقامروا من مال غيرهم، أو كأنه كان مطلوبًا أن تبدأ الجولةُ بالنار فى القطاع، ولا تنتهى عند الاقتصاد والأمن والمصالح الوطنية، فى دُولٍ قدَّمت للقضية أصفى ما تلقّته، ولم تفعل بها ما فعله بعض أبنائها المغاوير.
 
كان الانقسامُ فاتحةَ كلِّ شَرّ، والاستبداد بالقرار خصمَ من فلسطين أثمن ما تملكه: المظلوميّة الصافية، والجسد الواحد الذى لا يسهُل قضمه أو ابتلاعه. وتحت عنوان الجدارة بتمثيل القضية؛ تخاصَمَ أهلُها فى السياسة والسلاح، وتقاتلوا بأحرّ ممَّا يُقاتلون المُحتلّ. ليس تفصيلاً عارضًا أن نُذكِّر بعشرات الفتحاويين ألقتهم «حماس» من أعالى البنايات، أو صوّبت عليهم بنادقَها. وإن كانت فلسفةُ التحرُّر تحتملُ أن يتساوى الشقيق مع العدو؛ فليس بعيدًا من التصوُّر أن يكون الجار والصديق هدفًا لحساباتٍ لا يعلمها إلّا أصحابها.. وهنا يحقّ التساؤل عن كُلفة «طوفان الأقصى»، والتمرُّد على اختزالها فى قذائف القسام أو حسابات قادة المهجر. وإذا كانت الأعباء مُوزَّعةً منذ البداية على طيفٍ أوسع من أنفاق الحركة وحدود تحالفاتها؛ فإنّ الإصرار على تصعيد المشهد، بالأصالة أو الوكالة، يحمل ضمن معانيه رسالةً باقتسام الغُرْم، بل وتضخيم حصَّة الآخرين منه؛ إمَّا لإلهائهم فيما تتشكَّلُ صورةٌ مُغايرة حولهم، أو للاستثمار فى الفوضى الشاملة على أمل الخروج بأقلّ الأضرار، أو إضعافهم لفائدة طرفٍ ثالث.. وكلّها احتمالات أسوأ من بعضها؛ إذ فى جوهرها أن القضية صارت ورقةً للابتزاز أو المُقايضة أو تعميم الخراب.
 
يخسر الغزِّيون من أرواحهم ومستقبلهم ما لا يُطيقه غيرهم؛ وحسابهم على القاتل والذين رتَّبوا له مسرح المقتلة. لكن الحرب من بدايتها فتحت قوسًا وتفنَّنت فى حشد الضحايا: تكبّدت مصر عبئًا إنسانيًّا واقتصاديًّا قاسيًا، واستدعت إسرائيل مُخطَّط التهجير من أوراقها القديمة لتُزعِج القاهرة وعمّان، ووضِعت بيروت على فوَّهة بركان يُزمجر، ولا يعرف أحدٌ متى ينفجر. وعندما أعلنت حماس من أحضان حزب الله عمَّا أسمته «طلائع طوفان الأقصى»؛ كانت تزج بلبنان كله فى المُغامرة، وليس بعيدًا من ذلك نشاط حركة التهريب على الحدود الأُردنية السورية، ما دفع المملكة للاحتجاج رسميًّا فى وجه قيادة المحور. لكن أخطر ما حملته الأيام أن تُمهَر «ورقة الحوثيين» باسم غزّة زورًا، وتُرفَع فى وجوه الجميع ظاهرًا، وضد الواقفين فى صفّ فلسطين على الحقيقة.. إذا كانت الخيوط كلها تنتهى لقبضةٍ واحدة؛ فإن إشعال زاوية وإطفاء غيرها يُفصِح عمّا يُراد من الحرب، ويُوزِّع الأنصبة بالتساوى على المُقرِّر والمُنفِّذ والمُستفيد.
 
لم يُضبَط الحوثيّون مُتلبّسين بأى دورٍ عادل وإنسانى. إنها ملهاةٌ سوداء أن يتصدَّى الذين أضاعوا اليمن لمهمَّة استعادة فلسطين، وأن يأسفوا لأرواح الغزِّيين بينما أهدروا أضعاف قتلاهم فى البلد الذى كان سعيدًا وصار بائسًا. القصة كلّها أن المحور الشيعى اختار أخفَّ الأوراق وأقلَّها قيمةً؛ إذ عندما جلس يُعدِّد أذرعَه، تكشَّف له أن العراق لا يصلح ساحةً بديلة، وليس فى مقدوره أن يُحقِّق الإزعاج المطلوب، كما أن سوريا ميدانُ التقاءٍ بين إراداتٍ شتَّى مُتصارعة، وقد تنفلت سخونتها فى لحظةٍ خارج الحسابات، ولم يكن مرغوبًا أن تُضحِّى بدُرَّة التاج «حزب الله» فى جولةٍ استكشافية لترتيب طاولة التفاوض. هكذا وقع الاختيار على أبعد ذراعٍ عن ساحة الصراع؛ لكنّها الأقرب إلى الإضرار بكل الأطراف دفعةً واحدة. فكان القرار الأهوج بتضييق باب المندب عمّا هو عليه ورفع حرارة البحر الأحمر.
 
التوتّر الجارى منذ أسابيع يُحقِّق غرض المحور فى الضغط على الجميع، ويخدم الميليشيا الحوثية فى سرقة الوقت والتهرُّب من التزاماتها تجاه السياسة والبيئة الدولية ومُحادثات السلام، وفى الخلفية إحراج القوى الداعمة لإسرائيل؛ عندما تغتسل فى البحر فيظهر وجهها الحقيقى. لسنواتٍ طويلة اختُطف اليمن من أهله، واتُّخذ قاعدةً لتهديد الإقليم؛ لكن واشنطن وحلفاءها رأوا فى ذلك ما يضغط على بعض دول المنطقة، فقدّموا غطاءً أُمميًّا باهتا لاستمرار الفوضى، وعطّلوا محاولات تمكين الشرعية. واليوم صار السلوك الذى كانوا يُحبّونه مُهدِّدًا لمصالحهم، فاستُجِدّ حديثٌ عن تخليق تحالفٍ دولى لتحييد آلاف المُقاتلين وترسانة من الصواريخ والمُسيَّرات والألغام. لكنّ الأمر تكتنفه مصاعب عدَّة، وقيادة المحور هدَّدت، ونُصرة غزة المزعومة صارت وسيلةً لخَنق أصدقاء غزّة الحقيقيين، فضلاً على استعداء الدول المُحايدة أو القابلة لتطوير مواقف عادلة وإنسانية.
 
الغربُ وقحٌ فى انحيازه لإسرائيل؛ والآفةُ اليوم أن امتناعَه عن ضَبط الصراع أو إنقاذ المدنيِّين، يُوفِّر المُبرِّرات العاطفية المطلوبة لتغطية أيّة مُغامرة مُزعجة، ولا يجعل خطاباتها عن الأمن والقانون الدولى مُقنعةً أو جديرةً بالاحترام. أصلُ الأزمة أن الاحتلال يسحق غزّة بدمٍ بارد، وأن دول «الرصيد الحضارى والأخلاقى» تُشرِف على الميدان، وتتبدُّل بين المُشاركة والتشجيع والصمت المُستحسِن. وما يتفرّع عن ذلك من توتُّرٍ راهن، أو مُحتمَل، وفى جغرافيا فلسطين أو خارجها؛ إنما تتحمّله الدائرةُ الغربية أوّلاً وقبل أىّ طرفٍ آخر، خصوصًا أن تحرُّكها اليوم يُعقِّد المشهد ولا يُفكِّكه؛ لكن لا يمنع ذلك من إثارة الأسئلة الواجبة عن جدوى التصعيد فى ناحيةٍ والتبريد فى غيرها، ومقدار ما ينعكس منه على القضية سلبًا وإيجابًا.
 
رأسُ المحور لديها أوراقٌ شماليّة أكثر فاعليّةً؛ لو أرادت إسنادة غزّة فعلاً، كما أنها حاضرةٌ بالأصالة فى سوريا.. الاستعاضة بالذهاب جنوبًا، وإلى أبعد نقطة من ساحة الحرب؛ ربما تُشيرُ إلى أهدافٍ خلاف المُعلَن. التحرُّك ليس مُوجَّهًا ناحية إسرائيل وحدها؛ فإحماء المياه يضرّ دُولاً إقليمية عديدة بأكثر ممَّا يصيب الاحتلال وحلفاءه. نحو 12% من النفط و8% من الغاز تعبر المنطقة، وأضعاف قيمتها من حركة التجارة السلعية وأنشطة السياحة واللوجستيات. وقد أعلنت قائمة من شركات الشحن الكبرى تقليص أعمالها أو تحويلها لطرقٍ بديلة، وتوقّف الصغار تمامًا. صحيح أن التأثير على قناة السويس ما زال محدودًا للغاية؛ وبحسب الفريق أسامة ربيع قبل أيّام فإن نحو 55 سفينة فقط غيَّرت مسارها من قُرابة 2200؛ إلّا أن الأعباء الزهيدة حاليًا مُرشَّحة للزيادة لو طالت المُغامرة، والضغوط تُلاحق الأردن بإطلالته الوحيدة على خليج العقبة، ولبنان غير بعيدٍ بينما كثيرٌ من حاجاته تتدفَّق من شرق آسيا للبحر المتوسط عبر القناة.
 
تحدَّثت تقارير سابقة عن خسائر بنحو 10 مليارات دولار من الناتج القومى لمصر والأردن ولبنان، مع احتمال تضاعفها إن تمدَّدت الحرب لثلاثة شهورٍ إضافية. وتوقَّعت «ستاندرد آند بورز» أضرارًا لقطاع السياحة فى المنطقة. ويُضاف لذلك تأثُّر حركة الصادرات والواردات، بما يُلقى عبئًا إضافيًّا على تدبير كفاية السوق، وعلى الميزان التجارى وميزان المدفوعات، وحركة الاستثمار فى عموم المنطقة. وعمليًّا لا يبدو الأمر مُفيدًا لغزّة، بقدر ما يستهدف الضغط من أجل إنجاز تفاهمات تصبُّ فى صالح المحور الشيعى وقيادته، وقد لا يتجاوز غرضها التوصُّل لاتفاقٍ نووى جديد أو الإفراج عن بعض الأرصدة المُجمَّدة.
توتُّر الملاحة يُهدِّد برفع تكاليف التأمين على الرحلات، ومُضاعفة فواتير الشحن؛ نتاج المخاطر أو نموّ أعباء التشغيل حال اتخاذ طرق بديلة؛ لا سيما أن الدوران حول أفريقيا يزيد الرحلة بأسبوعين أو ثلاثة فى المتوسط. والمُحصِّلة أن حركة التجارة الدولية ستتأثّر سلبيًّا، وسيزداد الضغط على مُؤشِّرات التضخُّم بعد تحميل الكُلفة الإضافية لأسعار المُستهلكين. أمَّا ارتدادات ذلك فقد لا ينجو منها أحدٌ، فى المنطقة أو خارجها، باستثناء البلد الذى يُواجه عقوبات تعزله عن السوق العالمية، وتُرهق مُوازنته فى الهدوء كما فى الاشتعال. وحتى «غزّة» ليست بعيدة من المتاعب؛ إذ قد يُقلِّص ذلك من تدفُّق المساعدات الدولية الآن، ومن جهود الإعمار مُستقبلاً، ويضغط على اقتصادها المُرهَق حالما تنتهى الحرب ويكون مطلوبًا تنشيطه؛ فضلاً على إرهاق الحواضن العربية اللصيقة، وهى الملاذ الدائم والأكثر دعمًا وإسنادًا للفلسطينيين.
 
ليست الحربُ فى القطاع حصرًا. فصائلُه اختارت ونفّذت ولم تستشر أحدًا فى السابق أو الآن؛ لكنها لا تخسر وحدها. الدول الأصدقُ مع القضية تتكبَّد خسائر تفوق القاتلَ والمُغامر. وإن كان لدى إسرائيل ما يُعوِّضها، من مُساعدات واشنطن أو تبرُّعات جماعات الضغط، وخطوط الإمداد جوًّا وبرًّا وعبر المتوسِّط؛ فليس لدى غزّة سوى أصدقائها فقط. والمحور الذى يدَّعى المُمانعة ما قدَّم لها سوى السلاح والخراب؛ لكن عندما يبدأ امتحان الإعمار واستعادة الحياة الطبيعية، سيكون أوَّل المُتخلِّفين عنه. والحقيقة أن على المجتمع الدولى أن يُعوِّض الدول المُتضرِّرة من نزوة الغول الصهيونى، بقدر ما يدرس الدفاع عن مصالحه فى المياه الدافئة جنوبًا. ليس من مصلحة فلسطين والمنطقة ولا تل أبيب نفسها أن ترتبك العواصم الوازنة، أو تُوضَع فى عين العاصفة بجنونٍ من المُحتل أو سذاجةٍ من المُقاوم. الاستفاقةُ الأمريكية فى وجه الحوثيين بعد صمت طويل، تُشبه استفاقة نتنياهو ضد «حماس» بعدما استثمر فيها لتعزيز الانقسام وشَطب الخيارات السياسية، وإن خسر الطرفان اليوم فإنهما يتحمّلان نتيجة سلوكهما؛ لكنّ أسوأ الاختيارات أن تُدفَع الدول العاقلة إلى مساراتٍ مُغلقة أو حلول صفرية.
 
تُدمِن إسرائيل سرديَّة الحَمَل المحبوس فى دائرةٍ من الذئاب، وتُحبّ أن ترى جيرانَها جميعًا ضعفاء وتحت ظروفٍ قاهرة. والتيَّار الشيعى وهو يمضى لابتلاع المنطقة، يُريدها مَخليّةً من العِظام وسهلة الهَضم. هكذا يتلاقى الخصمان على هدفٍ واحد ضد المنطقة، كما يتلاقيان على تقطيع الجسد الفلسطينى وتفخيخ حلِّ الدولتين. والغريب أن ينساقَ بعضُ أبناء القضيّة فى المُؤامرة الفاضحة، ويُطبِّبوا مواجع الآخرين بينما نزيفُ جراحهم ساخنٌ ولا يتوقَّف. إنه نضالٌ أعمى على طريقة «شمشون الجبار»، كما يحكيها سِفر القضاة بالعَهد القديم. كان الضبع اليهودى الشرس عُقدةً مُوجعةً لأهل غزّة؛ فاستدرجوه بالفتاة المليحة «دليلة»، وعندما عرفوا سرَّه وأهدروا قوَّته، ناموا على حرير الاحتفال بالنصر الخادع، فكان أن هدم المعبد على رؤوس الجميع. والفارق بين البطولة والحماقة أن تخرج من الحرب سليمًا، أو تستبقى من الحُلفاء ما يُعينك على الخروج.
 
تناضلُ مصر بثباتٍ فى أمورها وأمر فلسطين، وكذلك الأردن. ويرحمُ اللهُ لبنانَ من خناجره التى صارت عليه بدل أن تصير له. وليس فى أىّ ميزانٍ للعقل أن يُراهِن الفلسطينيون على من يُريدون الضعف للثلاثة، أو يُشاركون فى إضعافهم. الأولى ظهيرٌ راسخٌ لثمانية عقود، ودفعت كثيرًا ولا تزال، وهى الجدار الذى تتكسَّر عليه مُحاولات التهجير والتصفية. والثانية أقالت الفلسطينيِّين من عثراتٍ كثيرة، وتحتضن مليونين ونيِّفَ منهم، والثالثة أعارت عاصمتها يومًا ما للمُقاومة، وما زالت تكتوى بالنار من وقتها، ولم تُفرِّط فى أمانة المُخيَّمات رغم انفلاتها. أمَّا الذين بشَّروا بالتحرير الكامل وَهْمًا؛ فلم يُقدِّموا إلَّا الاستتباع والوصاية وإغراء القيادات. وإن كانت الفصائل تعلمُ تبعات مُغامراتها على الدول الشقيقة فتلك مُصيبة، وإن جهلتها فالمصيبةُ أفدح وأعظم.
 
لا مُزايدةَ على الدم، والذين أراقوه معروفون بعناوينهم وأجنداتهم؛ لكنّ الدول التى تتعاطى القضية من زاويةٍ صافية ومُتجرِّدة، تنزفُ من اقتصادها وأمنها ومعاش مواطنيها؛ إنْ انحرف المقاومُ أو توحَّش المُحتلّ، ثمّ لا يخلو الأمر من مُزايدةِ الأوَّل ووقاحات الثانى. والدور الذى يلعبه الحوثيّون فى الجنوب يضر الصديق بأكثر ممّا يغيظ العدو، ويجب أن يكون ذلك واضحًا ومردودًا عليه من الفصائل، بما يغسل يدها من استهداف المحيط العربى، ولا يجعلها شريكًا فى مُؤامرةٍ ضد الإقليم. لا سيّما أنها مُرشَّحة للتكرار بحسب الأحوال، سواء ضد لبنان والأردن من سوريا، أو ضد الخليج والمنطقة كلها من لبنان نفسه أو من العراق، بل لا تغيب احتمالات أن تتورَّط الفصائلُ الفلسطينية حال تعقُّد الحسابات، وفى ذلك سابقةُ أعمالٍ طالت مصر من أنفاق حماس. ولا أشكُّ فى أنّ دُولَ الاعتدال لن تُقصِّر فى دورها تجاه الجغرافيا السليبة؛ مهما بلغت تكاليفه، إنّما المُهمّ ألا يُقصِّر ساكنوها تجاه ذواتهم، وألّا تُوظَّف المسألةُ العادلةُ خنجرًا فى خاصرة العرب بعِلْم بعض أبنائها، سواء أشهره عدوٌّ صهيونى أو غريمٌ شيعىّ. النضالُ على طريقة شمشون هدمَ المعبدَ سابقًا؛ واليوم صارت غزّة بكاملها ركامًا، وقبورًا فوق قبور، وقد لا تُبشِّر الشمشونية العمياء، حال تكرارها، إلّا بتسليم فلسطين أرضًا وبشرًا وواقعًا وحلمًا للأعداء، وتَركْ ضحاياها يلعقون جراحَهم الدامية، ويندمون على الأشقاء الذين ضيّعوهم فى زحام التحالُفات السوداء، وقتَ أن تنسدَّ الأبوابُ ولا ينفعُ الندم.






مشاركة






الرجوع الى أعلى الصفحة