لم تعُد إسرائيل تعرف كيف تفلت من فخّ غزَّة؛ كما لا تعرف حماس أيضًا. تسلَّطت الأرضُ وفرضت منطقها على المحتل والمقاوم؛ فصارا يمضيان مُغمضى العيون، على أمل أن ينتبه الآخرون فلا يقع الصدام.. انقشع الضبابُ العالمى الذى غطَّى العدوان فى أوَّله، وليس محلَّ خلافٍ اليوم أن يُوصَف سلوك الاحتلال بالوحشية والإبادة وجريمة الحرب؛ لكنّ الضبابية على حالها فى النظر للفصائل، ومن منظارِها، واليوم التالى، وعلاقتها بالبيئة الدولية ومُكوِّنات المشهد الفلسطينى. أى أن العدوَّ يفقدُ شرعيَّته ويختنق بالإدانة، والمُقاومة لم تُغادِر ارتباكها الأوَّل بما يُحرز المكاسب، أو فى القليل يُجنِّبها النزيفَ المفتوح بلا نهاية.
آلتْ العُقدة إلى انسدادٍ أشدّ إقلاقًا ممَّا فات؛ إذ كان الجدلُ فى تقويم المعركة ومعيار الفوز؛ وصار فى أنه لا ميقات ولا أُفق للنصر، كما لا مُنتصر ليُلاقيه على منصَّة التتويج. بات الوضعُ محكومًا باستنزافٍ طويلٍ، دون قانونٍ يُديره أو مخارج.
التركيبُ القديم للصراع كانت فى قلبه الولايات المُتّحدة. منذ قرار التقسيم وما بعده، وإلى مدريد وأوسلو. تلبَّست واشنطن عباءةَ الوسيط والضامن، وحافظت على انضباط المقادير بين سلوك الانحياز لإسرائيل، وإيحاء الحياد على مُرتكَزٍ أخلاقى، ووظَّفت فى ذلك علاقاتها بالمنطقة وتغوُّلَها على المنظومة الأُمميَّة والقانون الدولى. ولكن منذ اندلاع «طوفان الأقصى» تغلَّب هواها على ضميرها، وصدمت الضحايا بأنها استبدلت بنجومِ العَلَم الأمريكى نجمة داود؛ ثمّ اضطرَّت لتعديل لُغتها جزئيًّا على وقع المذابح؛ فانزعج الحليفُ الصهيونى من اهتزاز «الدعم غير المشروط».. ويقف «بايدن» اليوم، مثل ساحرٍ عجوز غادرته المهارةُ القديمة؛ مُحاولاً إخراج النار والماء من قُبّعةٍ واحدة. لا رسائله المُتضاربة تُرضى مخابيل تل أبيب، ولا مواقفه الجارحة تُطمئن الغزِّيين أو تقنع عواصم الإقليم. كما لا يُمكن التوفيق بين أقوالٍ تُنادى بالهُدنة وترشيد الدم، وتنشيط السلطة ورفض الاحتلال الدائم، وأفعالٍ تضخُّ الذخيرة وتُغذِّى المقتلَة وترفع «الفيتو» فى مجلس الأمن.
تُطلّ واشنطن على الساحة بوجهين مُتناقضين: تُؤكِّد الدعمَ المفتوح لإسرائيل، وتُلمِّح لإيمانها بالحقّ الفلسطينى. والنتيجةُ أن اليمين الصهيونى المُتطرّف يفرز من أجندتها ما يُوافق هواه، والفصائل المأزومة لا تثق فى الرسائل المكتوبة بالإنجليزية. رغبتها فى سرقة الوقت بالهُدَن الإنسانية يخشاها الطرفان: الغزِّيون يُقلقهم أن ينفدَ مخزونُ الأسرى وتسقُط ورقتهم الوحيدة للمساومة، والصهاينة يتحسَّبون من تبريد الجبهة لحدِّ ألّا تكون العودةُ للحرب مُمكنةً. وكذلك ما أثارته عن تسليم القطاع لسُلطةٍ فلسطينية مُنشَّطةٍ أو مُتجدِّدة، ورفضته حماس وعصابة نتنياهو، وما تقوله عن وجوب إعادة «حلّ الدولتين» للطاولة ويرفضانه أيضًا. تُمسِك الإدارةُ الأمريكية بالمشرط كالجرَّاحين؛ لكنها تكتفى بمُراقبة شاشات العناية الفائقة؛ لضمان أن يظلَّ المريض حيًّا دون وعى. ثمّ تُوزِّع التطمينات: السمّ للقاتل، والمُسكِّن للضحيّة، والأمل للحاضنة العربية العاقلة، وصفقة التعويض لرأس المحور الشيعى. ومهما كُنت ماهرًا؛ لا يُمكن أن تُدير كل التباينات بكفاءةٍ وإقناع.
على ما فات. يصعبُ الرهان على الضامن الأمريكى؛ وإن سحبَ بعضَ الغطاءِ الذى يُرخيه على الوحشيّة الإسرائيلية. ستتوقَّف الحربُ حتمًا؛ لكنه سيكونُ وقوفَ الاضطرار أو نفاد الخيارات، وعلى وَعد العودة المُؤجَّلة.
والضامن الوحيد للتهدئة الطويلة أن نفهم أصلاً لماذا كان الإشعال الطارئ! إذ رغم ضخامة الهجمة الحمساوية فى غلاف غزّة؛ لم يكن الردُّ مُتناسبًا، كما لم يكن عشوائيًّا بالكامل كما يتصوَّر البعض. تُوحى تل أبيب بأنها أُخِذَت على غِرّة، وأنها ترتجلُ الردودَ الظرفيّة بدافع الأمن فقط. لكنها بدت منذ اللحظة الأولى كمن يسيرُ لخطّةٍ مُجهَّزةٍ سَلفًا، ورفعت ورقةَ التهجير عاليًا ومضت فى إنفاذها؛ ثمّ استدارت ناحية الضفَّة الغربية دون سببٍ مُباشر، ولعلَّ خيارَها فى جنوب لبنان حُسِم أيضًا. كان وزير دفاعها «يوآف جالانت» مُنحازًا لضربةٍ استباقيّة ضد حزب الله، عارضها نتنياهو ثمّ تحدَّث عن حربٍ وشيكة على السلطة. كأنهم يقرأون من كتابٍ واحد؛ لكنهم يختلفون فى الصفحات أو مقدار ما يخرُج للعَلَن، وميقات خروجه. وبهذا الفهم؛ قد لا تكون إسرائيل فُوجئت بالطوفان؛ إنما كانت تنتظره، أو على الأقل تتمنَّاه.
فى المقابل، ليس مفهومًا للآن لماذا ضربت «حماس» لطوفانِها هذا الموعد. الأسبابُ التى قِيلت عن استحلال الدم واقتحام الأقصى وإهانة المُقدَّسات رُوتينٌ يومىّ منذ سنوات، وحصار «غزّة» قائم لستَّةِ عشر عامًا، والحرب عليها لم تتوقَّف منذ 2008، والحركة نفسُها اتَّخذت مقعدَ المُتفرِّج فى ثلاث هجماتٍ سابقة على القطاع، وتركت عناصر «الجهاد الإسلامى» وحدَها. كما أنّ حجم العملية فى 7 أكتوبر يُشير لجاهزيةٍ مُسبَقة، وقِيل صراحةً إنّها محلُّ إعدادٍ منذ شهورٍ طويلة. والمقصود أن كلَّ عوامل الانفجار كانت مُتوافرةً ولا تحتملُ التأجيل؛ وتأجَّل. كما أنه لا مُتغيّر على المشهد يفرض إذابة جليد الصبر والتعجيل بالثأر؛ وجاء مُتعجِّلاً، حتى أنها لم تدرس احتمالات الجنون وكيف تتوقَّاه. كأنّ أمرًا مُباغتًا حدَّد ساعة الصفر، أو غرضًا مكتومًا استدعاها، فى ضوء تحوُّلات إقليمية أو أهداف «فوق فلسطينية».
الفرضيّة السابقة تتفرَّع عنها قائمةُ احتمالاتٍ. أهمّها أنَّ اتّفاق التهدئة بين السعودية وإيران برعاية بكين فى مارس الماضى، تبعه تسارعُ إيقاع الحديث عن تطبيعٍ سعودى إسرائيلى، قال عنه ولىّ العهد محمد بن سلمان فى حوارٍ مع «فوكس نيوز» أواخر سبتمبر، إنه يُحرِز تقدُّمًا ملموسًا. وكان ذلك تاليًا لمُقترَح الممرِّ التجارى الهندى عبر الخليج وإسرائيل، الذى طُرِح عَلنًا فى قمَّة العشرين بالشهر نفسه. تُضاف لذلك عودةُ سوريا للجامعة العربية، وانخراط العراق فى تحالفات ومشاريع مع مصر والأردن وغيرهما، والتقارب التركى مع العواصم الكبرى وأهمّها القاهرة. ثم انطلاق سباق الرئاسة المصرية قبل أسبوعين فقط من طوفان الأقصى. قد لا تكون العملية مُوجَّهةً ضد كل هذا دفعةً واحدة؛ إنما لا يُمكن بالكُلِّية إنكار أن الذى أصدر الأمر ربما وضع واحدًا أو أكثر من العوامل فى ذهنه قبل ضَغط الزناد.. المقاومةُ وطنيّةٌ دون شكّ، ويحقُّ لها أن تُنشِّط قضيَّتها متى أرادت؛ لكن يُحتَمَل أن يكون من بواعث التنشيط، أنها رغبت فى توسعة الميدان وإشراك الآخرين فى الجولة الدامية، أو رأت أن تعطيل بعض القوافل السائرة فى المنطقة؛ ربّما يُجبر الجميع على المُشاركة فى دفع العربة الفلسطينية المُعطَّلة.
بدأ الربيع العربى فى 2011 انفجارًا شعبيًّا؛ ثم انتهى بهيمنةٍ إسلاميّة واضحة. وصل «الإخوان» للسلطة فى مصر وتونس بالثورة، وفى المغرب بالسياسة، وأحرقوا ليبيا وسوريا واليمن كما كانوا يُحرقون السودان لثلاثة عقود. وبعيدًا من صفة «حماس» الإخوانية؛ فقد استفادت بعض الفصائل الفلسطينية من سرقة الجماعة للمشهد المصرى تحديدًا. وبالمنطق؛ فإن التصحيح فى «30 يونيو» لم يكن على هواهم، ولديهم خصومة مع الدولة الجديدة وإن أنكروا. كما أن تحرُّك دمشق ناحية العرب يُهدِّد الوصايةَ الشيعية، وموجة التطبيع تُطفئ زخمَ القضية وتزيحها من الواجهة، وإن أُعِيد ترتيبُ المنطقة بخَصْم التناقضات القديمة؛ فقد يسقطُ الحوثيون وحزب الله من مُعادلة البقاء الآمن، ويسير العراق لاستقلالٍ أكبر عن الملالى. أمَّا فلول الإخوان فقد تآكلت معاقلُهم البديلةُ مع مناخات التهدئة، وقد يطالُ الأمرُ امتدادات «حماس» فى بيروت والدوحة وغيرهما. وهكذا يبدو التسخين الأخير خيارَ الضرورة، لإحراز مكاسب مُعجَّلة، أو تأخير الخسائر التى يخشاها الأُصوليِّون.
دلالةُ الاسم فى «طوفان الأقصى» تكشف الكثير. لقد خرجت من غزَّة، وعلى شرط حماس؛ لكنها استعارت الهالةَ الدينيّة للقدس ومسجدها، لتبدو جولةً إسلامية تخصُّ الجميع لا الفلسطينيِّين وحدهم، بينما الطوفان الهادرُ بطبعه لا يفرز ولا ينتقى، ويُغرق العدو والصديق بالعماء نفسه. وعمليًّا فقد حقَّقت العملية هدفها الأول، وأعادت القضية للواجهة بعدما أُرِيدَ لها أن تتوارَى أو تنطفئ. وفوق ذلك عطّلت التطبيع، وجمّدت «الممرّ الهندى» وصفقاتٍ إضافيّة، وهيَّجت المحاور الساخنة ورهنت العراق وسوريا ولبنان للشيعة بأكثر ممّا كانت؛ لكنها أخفقت فى ناحيةٍ أخرى. صارت جبهة مصر أقوى، واستعاد تحالف «30 يونيو» بريقَه الأول، وأُنجِز الاستحقاقُ الرئاسى بحضورٍ قياسى ونتيجةٍ شِبه إجماعية، وما عادت جُملة الإخوان مطروحةً فى حديث الحاضر والمستقبل. وإلى ذلك، آمنت أنقرةُ بأهمّية التقرُّب للعرب بوتيرةٍ أسرع، وتَظهَّر ذلك فى قمَّة القاهرة وتاليتها «العربية الإسلامية» والقمَّة الخليجية، كما حضرت طهران للرياض ووافقت على ما يُخالِف دعاياتها الأيديولوجية، حتى لو أبدت تحفُّظًا دبلوماسيًّا لاحقًا على المُبادرة العربية وحلِّ الدولتين. والأخطرُ أن حضور الفصائل فى لبنان صار محلَّ انتقادٍ، وأُثِيرت مسألةُ إخراج قادتها من العواصم الحاضنة، وهو ما بات مطروحًا بقوَّة وليس بعيدًا من التنفيذ. لقد ربحت جانبًا وخسرت غيره؛ لكنها تتضرَّر من الخسائر ولا تعرف كيف تصرف الأرباح.
يبدو المشهدُ محاولةً لإعادة إنتاج مناخ «الربيع العربى»؛ فى جشع الداخل أو سوء نِيَّة الخارج. دعمَ الغربُ الإسلاميين؛ وتكفَّل غباءُ الرجعيّة وإرهابها بإفساد المُخطَّط. ولا يُمكن القفز على أن نتنياهو استثمرَ فى الانقسام، وساند «حماس» على حساب السلطة، ولا أن الحركة ضيَّعت فُرصةَ الانخراط فى المشروع الوطنى، لصالح مشاريع مذهبية أو سياسية، ترهن الدولة الضائعة لإرادة أطرافٍ أكثر ضياعًا. ومع الشهر الثالث للأزمة تتَّخذ الحربُ وضعيّة «التوريط المُتبادَل»: قدَّمت الفصائلُ للغُولِ الصهيونى ما يُبرِّر له الجنونَ ويُسرِّع التطهير؛ ثم قدَّم بدوره لها ما يغسلُ الشبهات ويُنقّى المظلومية، وصار الصراع وجوديًّا للطرفين بعدما ذهبا لمداه الأقصى، ورفع كلُّ طرفٍ سقفَ أحلامه فصار فى العراء. والسؤال اليوم ليس عن إيقاف النار الآن، بل المسؤولية اللاحقة عن الكارثة المُتحقِّقة بالفعل.
كأنهما يشتركان فى إنتاج المِحنة، ويتّفقان على تصديرها. الصهاينةُ افتتحوا أهدافَهم بإفناء حماس، ثمّ صاروا يتحدثون عن تصفية قادتها وصياغة ترتيباتٍ أمنيّة خاصة، تنفتح احتمالاتها على استدعاء العرب للتأمين والإعمار. و»حماس» لا يعنيها إلّا أن تظلَّ رايتُها مرفوعةً، وتتركُ مهمَّة إنقاذ المدنيِّين، وإفشال التهجير، وتأهيل القطاع، للمُزايدات العاطفيّة على الدول الشقيقة أو لحماسةِ شعوبها، وقد راهنت أصلاً على أن تشتعل الشوارع فتُجبر الحكومات.. ومن وراء ذلك تتضرَّر المنطقةُ أمنيًّا واقتصاديًّا، وتزداد الأعباءُ على الأكثر اتّصالاً بالقضيّة وإخلاصًا لها؛ خصوصًا مصر والأردن. كانت الحربُ عبئًا بجرحها الأخلاقى، والضغط الشعبى والمخاطر الأمنية والاستراتيجية، وستكون التهدئةُ عبئًا أيضًا، وقد لا يخسرُ طرفاها بقدر الذين أُجبِروا عليها من الخارج. فبَدلَ إشعال المجتمعات من داخلها كما فى الربيع العربى، أو قَضمها بالقوَّة كما فى احتلالات إسرائيل السابقة؛ تُوقَدُ الشرارةُ فى غزّة، وتستنزفُ الصهيونيةُ مُحيطَها الوازنَ بدون تكاليف الصدام المُباشر والخصومة المُعلَنة.
تُريدها تل أبيب معركةً صفريّة؛ وليس فى صالح الفلسطينيين أن يلعبوا بشروطها. كانت أنضجُ مواقف «حماس» مُؤخّرًا ما قاله موسى أبو مرزوق، عن رغبتهم فى عضوية مُنظّمة التحرير بما يعنيه ذلك من اعترافٍ بأوسلو وإسرائيل؛ لكنها سارعت للنفى. تكرَّر ذلك بعد تصريحاتٍ سابقة لـ«هنيّة»، وبعدما أعلن «مشعل» ورقة سياسات مُحدَّثة فى 2017، وتشعر كما لو أنها بالونات اختبار؛ يُفلِتون خيوطَها دون رغبةٍ فى استعادتها. يقولون إنهم يقبلون بدولةٍ على حدود يونيو 1967؛ لكنهم يتمسَّكون بسرديَّة الوَقْف الإسلامى من النهر للبحر؛ وهما خياران مُتعارضان بالمنطق والمُمارسة. كأنّ وُجوهًا عدَّة تتلبّسها الحركة، وأكثر من قلبٍ يتصارعون فى صدرها. وخُلاصةُ تصريحات قادتها أنها تُشرِف على الغرق وتبحث عن طوق نجاة؛ لكنها تُواجه الأمواج بخطابٍ مُرتبكٍ ومُتلوّن: تُريد السياسة بمنطق السلاح، وتسعى لوراثة السلطة والفارق الوحيد بينهما الاعتراف بإسرائيل، والأخيرةُ يبتلعها اليمينُ لغير رَجعة، ولن تُرحِّب مُستقبلاً بشريكٍ من غزّة أو رام الله.. والحلّ ولو كان بعيدًا؛ فإنه ليس من تفضيلات صقور الجانبين.
إنّه صراعُ اعتقادٍ؛ على ما يُريده الفاعلون من داخله. صراعُ وجودٍ لا حدود؛ لذا يُدَار فى الكَنيس وعلى المنبر قبل أن يخرُجَ للميدان. كانت السلطةُ نتاجَ انتفاضتين: الحجارة والأقصى، وعلى هذا المعنى كانت «حماس» إفرازًا لتنشيط الشارع لا احتكاره وتأميمه؛ وينبغى أن يُعادَ الاعتبارُ للقضية من قاعدةِ الهَرم لا قمّته. أى أن يصير الإنسان أوّلاً، قبل السلطة والفصائل والسلاح والرطانات الدينية. الفكرى قبل الحركى، والخطاب أهمّ من الفِعل. ولا يُمكن أن تنضبط المقاومةُ بالقوّة ما لم تنشأ مُقاومةٌ أخلاقية، رديفة لها وسابقة عليها. العدوُّ جارحٌ ومُجرم ومُتسلِّط على الجغرافيا والرقاب، وقُل ما شِئت؛ إنّما يربح الفائزُ بأخلاقه ثمّ بانحطاط الخصم. وشَرطُ الخُلق الحَسِن ألَّا يقول الناس ما لا يفعلون، وأن تصير فلسطين بمجموعها، قبل كياناتها بفرديَّتها، ولا تُتَّخذ منصَّةَ تصويبٍ لطَرفٍ ضدّ طرف. لا حياةَ للقضية إلّا بقُدرتها على التجميع؛ ويا لَسُوء حظِّها لو ضيَّعت حليفًا أو سلَّمت رقبتَها لحليف، وبعضُ الفصائل للأسف ترتكبُ الحماقتين معًا.