تبدو الحالة الديمقراطية العالمية على المحك في اللحظة الراهنة، جراء الأزمات الكبيرة التي تواجه القوى الكبرى، وهو ما يبدو في العديد من المشاهد المتواترة، بدءً من فيروس كورونا، والذي ساهم بصورة كبيرة في انطلاق زمن المخاض للمفهوم بصورته التقليدية، ذات الطبيعة الخشنة، مع نجاح دول وصمها رعاة الديمقراطية بـ"الديكتاتورية" في احتواء الوباء بصورة أسرع من نظيراتها في الغرب، على غرار الصين، مما دفع نحو ظهور موجات شعبوية حملت تمردا على الصيغة التقليدية لأدوات الحكم في دول العالم الأول، بدت في صورة احتجاجات تارة، وإسقاط الحكومات عبر الصناديق الانتخابية تارة أخرى، وهو ما خلق حالة من عدم الاستقرار، ربما تجلت بوضوح في المشهد الأمريكي، عندما خرج أنصار الرئيس السابق دونالد ترامب، لرفض النتائج التي آلت إليها الصناديق، إلى حد اقتحام الكونجرس، لمنع الإعلان عن فوز غريمه جو بايدن.
ومفهوم الديمقراطية الخشنة، يتجسد ليس في تطبيق الدول للمفهوم، الذي يقوم في الأساس على حق الشعوب في اختيار حكامهم، وإنما في محاولة فرض نمطية بعينها، على العالم، ليتحول من كونه مبدأ يهدف في الأساس إلى تحقيق الاستقرار، إلى أحد أدوات الهيمنة للدول التي نصبت نفسها كـ"رعاة" لتلك الحالة، ومدافعة عن حقوق الشعوب.
والحديث عن محاولات فرض النمطية الغربية على مفهوم الديمقراطية، تجلى عبر العديد من الصور، التي حملت تسييسا صريحا، يعكس أهدافا تتجاوز حماية الشعوب وحقوقهم في الاختيار، ربما أبرزها خلال الحروب التي خاضتها واشنطن وحلفائها في العديد من دول العالم، كالعراق، والتي انتهت بفشل ذريع، بينما كررت المحاولة بصورة أخرى، عبر رعاية حفنة من "النشطاء" في دول العالم المستهدفة، من خلال تصدير ما يسمى بـ"الفوضى الخلاقة" في منطقة الشرق الأوسط، والتي آلت في نهاية المطاف إلى المصير نفسه، وهو الفشل، بل تحولت الأمور إلى حالة من الصراعات الداخلية، والتي وضعت العديد من الدول على حافة الحرب الأهلية، بينما تراجعت الديمقراطية، ولم تجد لها مكانا في ظل الفوضى.
وفي الواقع، يبدو أن التجارب السابقة أثبتت بما لا يدع مجالا للشك أن ثمة ارتباطا مباشرا بين الاستقرار الأمني والاقتصادي، من جانب، ونجاعة تطبيق المفهوم من جانب آخر، وهو ما يبدو في النجاح الكبير الذي تحقق في دول المعسكر الغربي، خلال عقود طويلة من الزمن، عبر ما شهدته من تداول سلس للسلطة، وغياب الصراعات، إلا أن الأمور شهدت تغييرا حادا مع تواتر الأزمات في السنوات الأخيرة، عبر زيادة ملحوظة في نسبة الاحتجاجات، بل وطبيعة المطالب التي يرفعها المحتجين، والتي تجاوزت مجرد الاحتياجات المعيشية أو العامة، إلى المطالبة بالإطاحة بالأنظمة، على غرار حركة السترات الصفراء التي تفشت في أوروبا مع أواخر العقد الثاني من الألفية، سواء بسبب الأوضاع الاقتصادية المتراجعة، أو بعد ذلك عبر الخروج في مسيرات مناهضة لما أسفرت عنه صناديق الانتخاب، وهو ما بدا في النموذج الأمريكي، في 2021، وهو المشهد الذي يمثل انقلابا صريحا على قواعد الديمقراطية المتعارف عليها، والتي تعد بمثابة المصدر الرئيسي لشرعية الأنظمة الحاكمة.
وهنا شهدت الديمقراطية الخشنة وجها آخر للسقوط، في عقر دارها، مع تواتر الأزمات، عبر الخروج عليها من قبل الشعوب التي طالما آمنت بها، بعدما فشلت أولا في محاولات فرضها على الخارج، والذهاب بها إلى مناطق تبتعد جغرافيا عن مركزها، بحكم اختلاف الظروف السياسية والاقتصادية والثقافات المختلفة، والتي لا يمكن غض النظر عنها عند مناقشة هذا المفهوم، وهو ما يكشف حقيقة مفادها أن الاستقرار هو الطريق إلى الديمقراطية، وليس العكس.
وفي الواقع، يتجسد الوجه الأخر للديمقراطية، في تحقيق قدر من المرونة، التي من شأنها تطبيق المفهوم في كل دولة بحسب ما يحيط بها من ظروف أمنية وسياسية واقتصادية، لتتحقق حالة من التوافق المجتمعي حول الكيفية التي يمكن بها مجابهة الأزمات بعيدا عن أية حسابات أيديولوجية أو حزبية، ليكون هذا التوافق بمثابة نقطة الانطلاق نحو تطبيق الديمقراطية القائمة على الحوار، وليس الصراع السياسي على السلطة، بعيدا عن معارك تكسير العظام التي يخوضها الساسة من هنا أو هناك، ما تؤول إليه من تشكيك في نزاهة العملية برمتها، وهو الأمر الذي ربما اقتصر لسنوات ماضية على منطقتنا، ولكن بدأت إرهاصاته تتجلى بقوة في الغرب، خلال السنوات الأخيرة، جراء الغياب التدريجي لحالة الاستقرار المعهودة التي نعمت بها تلك المنطقة منذ عقود، بسبب الأزمات المتراكمة.
وهنا يمكننا القول بأن واقع الديمقراطية في العالم، بات في حاجة إلى مراجعة، في ظل النمطية التي سعى الغرب إلى فرضها لسنوات، عبر وسائل متعددة، بين التدخل العسكري المباشر، تارة، وتصدير الفوضى تارة أخرى، وهى الأدوات التي انتهت بالفشل الذريع، بل وباتت النمطية نفسها في حاجة إلى المراجعة داخل دولهم، في ظل اختلاف الظروف في اللحظة الراهنة، مقارنة بالماضي، بسبب الطبيعة التراكمية للأزمات، والحاجة إلى معالجتها بعيدا عن الأيديولوجيات والرؤى الضيقة التي تتبناها الأحزاب، وهو ما يعكس الحاجة إلى تبنى صيغة أكثر مرونة للمفهوم، من شأنها استعادة التوازن