حكومة بنيامين نتنياهو ليست على قلب سفاحٍ واحد. كلّها تعتنق عقيدة الدم؛ إنما بمذاهب شتَّى، وقد بدأت خلافاتها تُطلّ برأسها علنًا بعدما كانت مكتومةً، أو هكذا حاولت الإيحاء. أحدث الحلقات أن وزير دفاعها أدار مُؤتمرًا فى غياب رئيسه، وخرج الأخير على الجمهور مُنفردًا ليقول إن «جالانت» رفض الظهور المشترك. لم تختلف رسالة الاثنين؛ إذ حملا الحرب شمعدانًا مُقدَّسًا، وظلَّ إفناء «حماس» الغاية التى لا نقاش فيها؛ لكن ما وراء التطابق الظاهر أنّ صراعًا عميقًا يتصاعد بوتيرةٍ مُتسارعة، وتشقُّقات حادة تضرب تحالف السياسيين والجنرالات، والذى يُحفِّز ذلك سباقٌ شخصى على غسل الأيدى من الفشل أوّلاً، ثم على احتكار صورة النصر؛ حال اكتمالها رغم العوائق والتحدّيات.
منذ اللحظة الأولى لعملية الغلاف، وقبل أن تتكشَّف حدود الهجمة وتكاليفها، استبق تيَّار اليمين (بشقّيه الدينى والقومى) الأحداثَ ليُعلن براءته، ويُحمِّل المُؤسَّسة العسكرية وأجنحتها الاستخباريَّة مسؤولية التقصير الفادح. بادر بعضُ الضبَّاط إلى الإقرار والاعتذار؛ ربّما على أمل أن يلتحق السياسيِّون بهم ليحملوا نصيبهم من فطيرة العار. ما حدث أن نتنياهو قاوم كلَّ دعاوى الاعتراف، وزاد عليها بأن أدان قادته علنًا فى المُؤتمرات، وفى تدوينات على المنصَّات الاجتماعية، واضطر لاحقًا إلى حذفها وإبداء الأسف عنها، دون أن يأسف على إخفاقه. ويبدو أن الكأس التى يصبُّ فيها ملامتَه قد امتلأت، وفاضت حوافّها حتى بلَّلت حذاءه وأغرقت بلاطَ الحُكم.
طوال الأسابيع الماضية نشط مُقرَّبون منه فى حملةٍ دعائية ضد العسكريِّين، وكُتِبت عشرات التقارير الصحفية عن تحذيراتٍ مُبكِّرة جرى تجاهلها، وعن معلوماتٍ توقَّفت فى أروقة الجيش ولم تصل إلى القيادة السياسية. صحيحٌ أن الوجه الغالب على التحليلات كان يُدينه؛ إلَّا أن المشهد لم يخلُ من مُناصرين سعوا لتبرئته وإلقاء العبء على الآخرين؛ كما لو أنها حملةُ علاقاتٍ عامَّة لتحسين الصورة والاستثمار فى أجواء الضباب. وقد لا يبعد من ذلك ما نشرته «نيويورك تايمز» مُؤخّرًا، ويكاد يُطابق سرديَّة زعيم الليكود وعصابته من الأحزاب التلمودية، وخُلاصته أن الجيش سجَّل حالة مُشينة من التراخى فى كلّ مستوياته، وتعامى عن المصابيح الحمراء التى لمعت فى غلاف غزَّة، وما كانت تحتاج بصرًا حادًّا ولا بصيرةً شوّافة؛ إنما يكفيها الحدُّ الأدنى من اليقظة الطبيعية.
رواية الصحيفة عن الكواليس، أن خطَّةً كاملة من أربعين ورقة وقعت فى أيدى أجهزة المعلومات. حملت اسم «جدار أريحا»، وكانت توطئتُها بآيةٍ قرآنيّة عن صدام موسى واليهود مع القوم الجبَّارين فى أرض فلسطين؛ ثم تُورِد تصوُّرًا شاملاً لعملية اقتحام بالكيفية التى جرت بها «طوفان الأقصى»، عبر كثافةٍ صاروخية؛ لإرباك القبَّة الحديدية ودفع الجنود إلى المخابئ، تليها هجماتٌ بالمُسيَّرات لتدمير الكاميرات وأنظمة المراقبة والإنذار وأسلحة الدفاع الأوتوماتيكية، ومن بعدها هجمات بالطائرات المظلِّية، واقتحام السياج، وتدفُّق المُقاتلين على الأقدام وبالدرَّاجات النارية، أمَّا بنك الأهداف فيشمل اقتحام مقراتّ قيادة الجنوب وعدد من القواعد والمُستوطنات، والعودة بأسرى من المدنيِّين والعسكريين. المكتوب نسخة طبق الأصل من الواقع؛ حتى لكأنّه سيناريو عكسى جرى إعداده لاحقًا، من حصيلة التسلسل الحدثى وحكايات شهود العيان وتفاصيل المواد البصرية المُتاحة.
تعيشُ إسرائيل على وَهم التفوّق، ويضرُّها أن تصير «المُغفَّل» فى قصة حماس. هكذا يُحتمَل أن يكون التسريبُ بغرض ترميم الصورة؛ بمعنى أن الذى زيَّف الورقة يُريد تعديل التهمةِ من «الجهل الكامل» إلى «التقصير العارض»؛ لكن ذلك أيضًا يقعُ فى قُرعة الجيش، باعتباره مسؤولاً عن التحوُّط وامتلاك المُبادأة؛ خصوصًا وعمود الدولةِ أنها تعيش فى مُحيطٍ عدائى، وذراعها الحروب الاستباقية وفلسفة الأمن الوقائى. كما يصعُب التغافل عن إمكانية أن يكون إخراج الخُطَّة للعَلَن جزءًا من صراعات الحكومة وتصفية حساباتها. ليس من السهل أن يصل تقريرٌ بتلك الأهمية إلى صحيفة أجنبية؛ ولو كانت المنبر الأبرز بين إعلام الحليف الأكبر.. إن بلدًا نشأ عن عصابةٍ عسكرية بالأساس، ثم صار جيشًا بقُبَّعة مدنيَّة لاحقًا، لا يتيسَّر اختراق غُرَفه المُظلمة فى وقت المحنة، ولا من صحفىٍّ مهما كانت كفاءته. وإذا وضعنا باقةَ الاحتمالات على الطاولة: نحن إزاء ورقةٍ عالية القيمة وشديدة السرّية، والأرجحُ أنها محصورةٌ فى نطاق الدائرة العليا من الحكومة والجيش، وربما لم تصل ليد الصحافة الإسرائيلية؛ تجنُّبًا لسطوة الرقيب العسكرى وقدرته على مصادرة نشرها. أمَّا الصياغة فتُفصِح عن المُستفيد؛ إذ تقصُّ دقائق فنيَّة عن الهجمة، وتقول إنها فى عُهدة القادة منذ سنة، وخضعت لتقييمٍ من الخبراء فقالوا إنها «خيالٌ» تتطلَّع إليه حماس ولا تملك إنجازه، والأهم أنها شكَّكت فى احتمالية وصولها إلى نتنياهو أو اطّلاعه على ما فيها من معلومات وتفاصيل.
دقَّةُ الورقة تُثير شكوكًا فى أصالتها.. واقعُ الميدان أنك مهما اجتهدت فى بناء مُخطَّطٍ مُحكَم؛ فإن ظروف الأرض تفرض شيئًا من التغيير فى وقت التنفيذ. التطابق معناه أن عناصر القسام صُنَّاع ألعاب فيديو أكثر من كونهم مُحاربين، أو أنّ طرفًا يُعيد تكييف الفشل بما يُلائم مُتَّهمًا بعينه. باختصار؛ يُحتمَل أنها كُتِبَت بعد العملية فى إطار لعبة «الروليت الروسى» وتبادل الرصاصات بين أجنحة الحكومة، وحتى لو كانت حقيقيةً فإن إخراجها ليس عفويًّا ولا معزولاً عن التوظيف الدعائى. ويقضى المنطقُ بأن الجنرالات آخر طرفٍ يُحبُّ أن تُتاح وثيقةٌ مثلها للجمهور، وعليه فربّما يقف «نتنياهو» وفريقه وراء التسريب؛ سواء كان مصنوعًا أو أصيلاً؛ ولهذا كان رد يوآف جالانت سريعًا بالقطيعة واجتناب الظهور معه، لا سيَّما أنهما حتى وقتٍ قريب كانا يتقاسمان المُؤتمرات دون تحفُّظٍ؛ رغم عُمق التناقضات وخلافاتهما الحادة على عناوين أساسية فى معركة السلاح ومعارك السياسة.
حالةُ الإجماع التالية للطوفان أخفت كثيرًا من الرواسب القديمة، وذوَّبت بعضَها على حساب البقيَّة.. «جالانت» المحسوب على الليكود اصطدم بزعيمه فى خلاف الانقلاب القضائى، وأُقِيل قبل أن يضطر نتنياهو لإعادته تحت ضغط الجيش والشارع. وكان الرجل ضحيّة «جانتس» قبل اثنتى عشرة سنة، عندما تخطَّاه وزير الدفاع إيهود باراك لصالح الأخير فى سباق رئاسة الأركان. اليوم يتقارب الجنرالان فى مُقابل الجفاء مع رئيس الحكومة، ويتقدَّم المُعارض المتصدِّر ليمين الوسط فى تفضيلات الناخبين، بينما يردّ «بيبى» بأنه يحكمُ بتفويضٍ شعبى واسع وليس باستطلاعات الرأى. أن يُطرَح «جدار أريحا» على الشارع فى تلك الأجواء؛ فإنه يستهدف المساس بتحالف العسكريِّين، وتسويق خلافات الحكومة كما لو أنها مبدئيّة لا نفعية.
دائرةُ الصراع أوسع ممّا سبق. قبل أسابيع كتب توماس فريدمان أنه فُوجئ فى زيارته لإسرائيل بأن الجنرالات صاروا صقورًا، وأنهم يدّقون طبول الحرب بحماسةٍ تفوق السياسيِّين، على غير العادة. شهدت الحكومة شِقاقًا فى مسألة الهُدنة، تلاقى فيه بعض التلموديِّين والضبَّاط، ثم فى الموازنة الاستثنائية وكان قادة الحرب على طرف نقيضٍ مع حاخامات الائتلاف. ولأنّ مساحات «بن جفير وسموتريتش» تتآكل لدى الرأى العام، والحرب تفقد بريقَها وإن ظلَّت محلَّ إجماعٍ فى خطابات اللوثة والتشدُّد؛ فإن المَخرج الذى يُمكن أن يتسرَّب منه «نتنياهو»، حسب تصوُّره المُغرق فى المُناورة والتلوّن، أن يستفيد من نزاعات السلطة فى ضرب الخصوم ببعضهم، وأن يُحرِق السترةَ العسكرية بالإدانة والوَصم، على أمل أن يخصم ذلك من حظوظ الموصولين بالجيش، ويُعطِّل مسارهم لصرف مفاعيل الحرب رصيدًا فى صناديق الانتخاب، على الموعد أو قبله إن اضطر للذهاب إلى سباق مُبكِّر، على ما لوَّح مُؤخّرًا.
تقع «حماس» بعيدًا من كل ذلك. إنَّ اتفاق الجميع على تصفية الحركة لا يتجاوز تصعيد الأهداف؛ لتغطية حالة الجنون المُتسلِّطة على تل أبيب، مع يقين كلِّ طرفٍ بأنه سينجو من الحساب. يكتفى الجنرالات بالقراءة الأولى لمآل «نتنياهو» مسؤولاً وحيدًا عن الفشل، ويُراهن الأخير على أن يحترق العسكريِّون فى نار الميدان وحساباته غير الواقعية؛ وربما لهذا استدعى «جانتس» لمجلس الحرب.. لا ينفى ذلك أن ثمَّة أهدافًا بعيدة المدى يُرادُ إنجازها فى غزَّة، قد تبدأ من إعادة رسم ديموغرافيتها واقتطاع أحوازٍ أمنيّة واقتصادية، وربما يمتدُ إلى عشمٍ بعيد فى الإزاحة الكُليَّة أو الجزئية لكُتلةٍ من السكان. هذا من صميم العقيدة الصهيونية التى لا تُبدِّلها الحكومات، ولا تتأثّر بالتنافس على المجد والعار. أى أنهم فى الوقت الذى يُبيدون فيه القطاع؛ يقع كلٌّ منهم فى مرمى النيران الصديقة؛ ولا ضمانةَ لأن تنتهى المعركة مع الفصائل قبل أن يسقط أحدُهم، وربما يُطاحون جميعًا ولا يرون القسَّاميين يخرجون من الأنفاق أو يُدفَنون فيها.
لطالما كان الجيشُ عِجلَ إسرائيل المُقدَّس؛ واليوم صار هدفًا للتصويب.. نجلُ نتنياهو بدأها من مقرِّ إقامته بالولايات المُتَّحدة قادحًا فى رئيس الأركان وبقيَّة الجنرالات، وتلاه أبوه فى عديد المواقف، ثمّ جاء تسريب «جدار أريحا». يُتمِّم ذلك ما تردَّد عن تحذيرات مُجنَّدات المُراقبة فى الغلاف، وقد تجاهلها القادةُ وقمعوا مَن تطوَّعن بها، وكذلك ما نُشِر بشأن تحليل استخباراتى قبل الهجمة بثلاثة أشهر، والردّ عليها من «فرقة غزَّة» بأنها طموحٌ حمساوى لم تتوافر عناصر تنفيذه. وأخيرًا خطَّة الخداع من «السنوار» ورجاله، وأهم مفاعيلها التفاوض على تصاريح العمال وراء الخط الأخضر؛ حتى تخيَّل الاحتلال أن الحركة ترفع الاقتصاد فوق المقاومة. حصيلةُ كلِّ ذلك تُدين رئيس الحكومة؛ لكنها تنزعُ النياشين عن صدور الضبَّاط أوَّلاً؛ لأنهم مسمارُ الجبهة وخطُّ التماس والمُوكلون الأُصلاء بحماية صورة الردع.
قد يتعاظمُ الانقسام فى الحكومة أو يدفنه رمادُ الحرب؛ إنّما الثابتُ أن السلطة الإسرائيلية لم تكن فى أىِّ وقتٍ سابق ضعيفةً كما هى الآن. وما يخدمها أن الخصوم فى غزَّة أغلقوا الأبواب خلفهم وهم عائدون من الغلاف، وأفلتوا أوراق السياسة التى كان بإمكانها أن تستثمر فى خلافات نتنياهو وعصابته.. لو وُضِعَت السلطةُ الوطنية على هشاشتها فى قلب المشهد، أو أُزيحت اليدُ الشيعية السوداء خارج الصورة تمامًا؛ ربما لم يكن بوسع المخابيل فى تل أبيب أن يتلاقوا على أرضيّةٍ تجبُر شروخَهم وتُغطِّى عداواتهم المُضمَرة، ولا أن يصمد بناؤهم المختل إلى الآن. صحيح أن ذلك من قَبيل الرياضة الذهنية، وقد يقول قائلٌ إن المُحتلَّ لا يُفتّش عن الشرعية ولا يطلب إذنًا بالقتل؛ لكن السياسة تقتضى اللعب بكل البطاقات مهما بدت خاسرة. وما حدث أنهم أُخِذوا بنشوة النجاح الساحق السريع، ولم يُرتِّبوا ما بعد إيقاظ الغول النائم. لكن حتى لو أخفقت عملية «الطوفان» فى إغراق التطرُّف اليمينى على تخوم القطاع؛ فلعلَّه يتكفَّل بالإجهاز على نفسه عندما يتهدَّم «جدار أريحا» فوق رُؤوس الجميع، مَن يَعتمر الخوذةَ فيهم ومن يضعُ القلنسوة.