رقبةُ نتنياهو ممسوكةٌ على كل الاتجاهات، وعند لحظةٍ مُعيّنة ستكون القربانَ المرغوب من الجميع. مخبولُ تل أبيب أكثر الأطراف هشاشةً فى مفرمة «طوفان الأقصى» وما بعدها؛ إذ يسير مُضطرًّا لتحالفاتٍ لا يأمن عواقبها، ويسنُّ مُنافسوه سكاكينهم، وتسعى المقاومة لاستنزاف أوراق اللعب معه؛ بينما تُعلِّق بصرها على مرحلة ما بعد إزاحته. ولعلَّ التعقيد ناشئٌ من أنّ الأصدقاء والأعداء لا يُريدون له أن يبقى، كما لا يُريدون أن يمضى قبل إحراز غاياتهم كاملة: «حماس» تستفيد من كلِّ ساعةٍ إضافية له فى خلخلة الإجماع داخل إسرائيل، وخصومه يُوكِلون إليه مهمَّة ترقية حظوظهم فى الوصول للسلطة، أمَّا ائتلافه التلمودى المُتطرِّف فيضعه فى مُعادلةٍ حارقة، بين أن يُقِرّ رؤيتهم لتغييب السياسة تحت ظلِّ السلاح، أو يتكفَّل بالفاتورة كاملة على أمل أن يتيسَّر لهم حصار الصاعدين من أحزاب الوسط. أى أن تتَّصل الحرب بتعديلاتٍ على الليكود، أو تُقذَف كُرةُ النار فى حِجر أىِّ بديلٍ آخر.
قد لا يكون الماضى حاكمًا فى قراءة ديناميكية الميدان؛ إنما فى ظُروف الاستقطاب والكباش السياسى يحدث أن تُفتَح أقدمُ الملفّات لتصفية أحدث الصراعات. لن ينسى خصوم نتنياهو أنه كان العقل المُدبِّر لصفقة شاليط بالعام 2011، وتبادل فيها 1027 سجينًا فلسطينيًّا منهم يحيى السنوار، صانع المأساة الصهيونية الراهنة والمُشرِف على سَحق كرامة الاحتلال. تلك الذاكرةُ تقف وراء إثارة مسألة اللُطف والمُهادنة بين رئيس الحكومة وقادة حماس، وآخرها الحديث عن رفضه ستّ خطط لاغتيال «السنوار» رفعها إليه ثلاثةٌ من قادة الشباك عبر اثنتى عشرة سنة تقريبًا. وإن جرى تنشيطُ الورشة النقدية فلن يسقط من حساباتها أنه اعتبر الحركة «ذُخرًا استراتيجيًّا»، وكان راعيًا لتدبير حاجاتها المالية من الرُّعاة الإقليميِّين بعدما انقلبت على السلطة واستقلَّت بالقطاع، وإلى آخر لحظة قبل السابع من أكتوبر كانت تقاريرُ جنرالاته ومُساعديه تزعم أنها «مُرتدِعة وغير معنيَّة بالحرب، ولن تكون جزءًا من نزاعٍ مُتعدِّد الجبهات».
وقتما طُرِحَت مسألةُ التصفية الجسدية، كان قائد المكتب السياسى فى غزَّة يعيشُ حياةً عادية، ويُمارس طقوسَه اليومية بعيدًا من الأنفاق وآليَّات الاحتجاب والتخفِّى. وييدو أن ذلك كان تفصيلاً ضمن خطَّة الخداع، كِمالتُه أن «حماس» نأت بنفسها تمامًا عن مُناكفات الاحتلال مع حركة الجهاد، وظلَّت فى مقعد المُتفرِّج خلال ثلاث جولاتٍ سابقة من القصف والمعارك الجزئية. واليوم لا يجد «نتنياهو» تبريرًا للتراخى القديم؛ حتى لو نفى مكتبُه مسألةَ رفض الاغتيال، ولعلَّه يهربُ للأمام بوضع «رقبة السنوار» على رأس أولوياته، بعدما صار الرجل شبحًا يستحيل الإمساك به، وتطوَّرت أدواته لإذلال مَلك تل أبيب الذى طالت إقامته فى الحُكم؛ حتى تخيَّل أنه داود الألفيَّة العبريّة الجديدة.
ذهب «بيبى» إلى شمال القطاع فى ثالث أيام الهُدنة؛ قاصدًا أن يُلوِّح بعلامة النصر من أبعد نقطةٍ تُرضى حُلفاءه ولا تطالها سهامُ المُنافسين. فى المكان والميقات نفسيهما ردَّ «السنوار»؛ فأخرج الرهائن الإسرائيليِّين من بطن «مدينة غزة» وسط استعراض للقسَّاميين بسيّاراتهم رباعيّة الدفع وعدَّة تسليحهم الكاملة. ينطوى المشهد على رغبةٍ مُتبادَلة فى تزييف صورة الانتصار؛ إذ لا تُغيِّر الجولةُ طبيعةَ الصفقة ولا محنةَ الغزو البرِّى، كما لا تنفى الدعائيّة الحمساوية مأزقَ الحركة وغياب الأُفق السياسى؛ لكن فى الأخير تصعُب مُساواة دولةٍ مُسلَّحة حتى أسنانها، بفصيلٍ تحرُّرىٍ تقول السرديَّة الصهيونية نفسها إنه «ميليشيا إرهابية». المُهمّ أنهما تبادلا الرسائل وعادا لمواقعهما؛ ولم يتبدَّل شىءٌ فى التركيب شديد التعقيد.
اندلعت الشرارةُ فى غلاف غزَّة؛ لكنّ محرقة الحكومة تتأجَّج فى تل أبيب. أراد سفاح الليكود من توسعة مجلس الحرب أن يشى بالتئام الصفوف، وأن يبدو كما لو كان قائدا إجماعيًّا يرتضيه الخصوم فى وقت الأزمة، وتجاهل أنه أدخل الذئاب والضباع معًا إلى قنّ الدجاج، وربما يكون الضحية الوحيدة بينهما. رفض «بن جفير» مُقترح الهُدنة ووافق عليها شريكه فى التطرّف «سموتريتش»، وغرض الأخير أن يفوز بصفقةٍ مالية من المخصَّصات الطارئة، رفضها «جانتس» رغم إقراره لرُزمة الأهداف الدامية. كأنهم يتسابقون فى لعبة الكراسى الموسيقية؛ ويصعب أن يجتمع اثنان على مقعدٍ واحد.
فريقٌ عريض فى إسرائيل صاروا يرون «قسمة الغرماء» من منظورٍ مُغاير. إن الحريديم أشرس المُتمسِّكين بالحرب؛ لكنّ العلمانيين وحدهم يُسدِّدون فاتورة الاقتصاد والدم: الاحتياط صُلب الجيش، وقوَّة العمل أيضًا، والمُتديِّنون لا يُحاربون ولا يُنتجون؛ لكنهم عندما جلسوا إلى الطاولة استقطعوا مبلغًا عظيمًا لبرنامجهم المشغول بالاستيطان والمدارس اليهودية ونفقات الائتلاف الحاكم. وكانوا أكثر غطرسةً عندما سنَّ وزيرا المالية والأمن القومى «شديدا التطرَّف» قانونًا صارمًا: وقف الحرب يُساوى إسقاط الحكومة.
لو نظرت من الخارج قد تستشعر أن «نتنياهو» يتلاعب بالجميع؛ أمَّا فى الجوهر فإنه ألعوبة الكُلِّ؛ حتى الفصائل المُسلَّحة فى غزّة. إن التهدئة الفاعلة مرهونةٌ بامتلاك برنامجٍ سياسى، ولا يتوافر ذلك لدى الطرفين؛ ومن ثمَّ فالعودة للحرب كانت ضرورةً ظرفيّة للاحتلال والمقاومة على السواء. أمَّا المُعارضة فإنها تُحكِم الخناق على عنق الحكومة، وكلَّما تأخَّر الحسم فإن الرأى العام يتزحزح بعيدًا عن الائتلاف، والشركاء التلموديّون فيه يقتنصون المكاسب المُمكنة الآن؛ لأنهم لا يأمنون من تصاريف الميدان والصناديق غدًا. وإن كان الجنون حلًّا مُؤقّتًا لإطالة عُمر زعيم الليكود فى السُّلطة؛ فإنه لا يضمن أن يتلقَّى الضربة من داخل البيت، ولهذا لوَّح فى زحام المواقف الديماجوجية باللجوء لانتخاباتٍ مُبكرة.
صارت الخيارات أكثر وضوحًا: أن يمضى فى الحرب مُستهدِفًا تصحيح الأوضاع قبل موعد الاستحقاق، أو يقلب الطاولة بالذهاب إلى الاقتراع دون أن تنضج حسابات السياسة والسلاح. والثالث الذى يخشاه أن ينقلب عليه رجاله، ليس من الأحزاب الدينية فقط وهو يُوقن بانتهازيَّتها، إنما من داخل الليكود نفسه، وقد طُرِحَت مُقترحات لاستبقاء التوازنات القائمة من دون راعيها وأبيها الروحى، أى أن يبقى الائتلاف ويذهب «بيبى» لصالح بديلٍ ليكودى آخر، ويبدو أنه استشرف الأمر؛ فسار إلى ورشةٍ مُمتّدة مع الفاعلين من نوَّاب الحزب آمِلاً أن يسدَّ هذا الباب. وتظلّ المُعضلةُ فى غياب الحَسم بالقوّة، وفى افتقاد جَرأة التسوية على قاعدةٍ براجماتية ناضجة؛ ما يعنى أن السؤال خارج تل أبيب، ولا وجاهة للبحث عن أجوبة فى الكابينت أو الكنيست أو من الناخبين، فأيّة حكومة تحت هذا الشرط لا مفرّ من انزلاقها إلى المُستنقع.
التغيير المطلوب يتوجَّب أن يكون جوهريًّا، وفى الفلسفة لا الخطاب، وفاعليّته الكاملةُ تفرض أن يحدث على الناحيتين؛ لكنّ المشهد فى «غزّة» مُجمَّد ولا يبدو أن «حماس» بصدد المُراجعة الذاتية، ولا إخلاء مواقعها جبرًا أو اختيارًا، كما أن عقل تل أبيب مُغيَّب تحت القلنسوة وبرج الدبّابة. وهكذا تبدو مسألة إنهاء الانسداد بإطاحة نتنياهو أو تصفية السنوار محضَ وَهمٍ؛ إذ تظلّ محكومةً بالشخصنة لا الموضوعية، وبإحلال الوجوه بدلاً من الأفكار والسياسات. ربما لهذا ما زالت الدائرة مُغلقةً باتّفاقٍ ضمنى من الجميع: كراهية مُشتعلة وحَسم مُؤجَّل، وغاية الفوز تُقوِّضها الرغبةُ فى إطالة المباراة، لا فارقَ فى ذلك بين الفصائل والاحتلال، والحكومة ومُعارضيها، وربّما بعض الرُّعاة الدوليِّين.
تُريد واشنطن تهدئةً على شرط الحرب، وما زال خطابها مُتناقضًا بين القول بالإنسانية والتشدُّد فى رفض إطلاق النار. كأنها تُخاصم نتنياهو فى جانبٍ وتُلاقيه فى الآخر، وكانت ترفضه أصلاً بعد خطَّة الإصلاح القضائى لولا أن «حماس» أنقذته ورمَّمت تحالفه مع إدارة بايدن. إنه مشهدُ التناقضات الفجَّة والدراما الهزليّة بامتياز؛ إذ يختلف الجميع على كلِّ شىء، ويتّفقون فى إطالة أعمار خُصومهم. ولا يغيب عن السخرية أن «محور المُمانعة» لم يلتزم بشعاراته عن «وحدة الساحات» قدر التزامه بالهُدنة السابقة فى غزّة، بما أتاحت من مزايا لإسرائيل أكثر ممّا لحزب الله وبقيَّة الميليشيات الشيعية، ورغم أنه لم يُقاسِم الغزِّيين محنتهم بالثبات الذى يتحضَّر به لاقتسام المكاسب؛ لو كان فى الأُفق غير الدمار. كأنها مُطاردةٌ فى غابةٍ شاسعة، وليست فى العقل خريطة للخروج، ولا فى السلاح رصاصة قاتلة.
المعركة على جبهة غزّة؛ لكن كلَّما أُطلِقت قذيفةٌ تتوجَّع جبهاتٌ أخرى. الظاهر أنها مُواجهةٌ خطِّية واضحة، والباطن رُزمةٌ من الحروب المٌتدرِّجة، تبدأ بالنار وتنتهى إلى عَضّ الأصابع والمُناورة: واحدة داخل إسرائيل وطبقتها السياسة، والثانية فلسطينية بين الضفَّة والقطاع، ثم نسخة أشرس يتسابق فيها الإسرائيليون والفلسطينيون نحو المستقبل الغامض، تليها نُسَخٌ مُتداخلة يشتبك فيها تيَّار الميليشيات الشيعيّة مع أمريكا وحُلفائها تارة، ومع دول الاعتدال العربى تارات. بعضها تُدَار بالقوَّة وبقيّتها على الأيديولوجيا والمفاهيم، وبينما ينشغل كلُّ طرفٍ بواحدةٍ أو اثنتين على الأكثر؛ يقع نتنياهو فى قلبها جميعًا. لقد جعل النجاةَ بالبراءة والسُّلطة غايتَه العُليا، ويتعيَّن عليه أن يحسم المنافسة فى تل أبيب ورام الله، ومع حماس وحزب الله، وفى عواصم التعقُّل التى خَسر ثقتَها تمامًا، والأهم واشنطن أوّلاً وقبل كل ذلك. أقلّ من النصر الكامل لا يضمن الإنقاذ، وإخفاقٌ وحيد يكفى لتشييعه إلى مثواه الأخير، والمُؤلم له أن بعض خصومه قد يربحون معًا؛ بمجرد أن تكتمل خسارته مُنفردًا.
الرجلُ الذى صار سفَّاحًا كاملاً، خسر مهاراته القديمة فى التلوُّن والخداع وقَفز الموانع. يرى اليوم أنه يستفيد من التوراتيِّين، ويتعامى عن أنهم يستغلّونه، وقد كَبَش النار عندما استدعى «جانتس» لغُرفة الحرب، فصار يتلقَّى الضربات من المدى القاتل؛ لكنه كان مُضطرًّا لإبداء الإعجاب بكل أحصنة طروادة، الحىّ منها والخشبى؛ وما زال قابضًا على قُبّعة الساحر حتى بعدما انكشفت حيلته للجمهور. صحيح أن بقاءه يُلطِّخ سماء الميدان بالضباب؛ لكن الحقيقة أن المتاهة لن تنجلى بانصرافه من بابها، وهنا الفخ الذى قد يدوسه كثيرون، فى دُويلة المقاومة أو دولة الاحتلال.
انقلبت الساعة الرمليّة؛ وصارت تلويحة الوداع أقرب لأصابع نتنياهو من علامة النصر، وربما عندها تلبسُ المحنةُ قناعًا جديدًا؛ لكنها لن تُسفِر عن وجهٍ تعلوه ابتسامة.. الفصائل فى حُفرةٍ سياسية أعمق من الأنفاق، وبدائل تل أبيب أشدّ جنونًا؛ وقد صار الجنرالات صُقورًا على غير العادة، وسيحكمون المشهد القريب بالسترات العسكرية أو بالقمصان السوداء. مثلما كان «بيبى» استثنائيًّا فى دهائه وفساده ومُدَّة حُكمه القياسية؛ سيكون استثنائيًّا فى الرحيل الذى يُمهِّد لحقبةٍ أشدّ ارتباكًا من الصراع: سقط الردعُ وتوحَّشت الأُصوليَّة وأُزِيح «حلُّ الدولتين» بعيدًا لسنوات، ولا سبيل لاستعادة «رابين» الذى كان بنيامين شريكًا فى نحره والرقص فوق دمه، ولا أُفق لإحياء «عرفات» وقد شاخت المُقاطعة وتضخَّمت طموحات أبناء أحمد ياسين. المُرجَّح أن يمضى نتنياهو، وتبقى الجغرافيا أسيرةً لذهنيّته الانتهازية وخياراته الحارقة؛ وقد يتخلَّد اسمه فى التاريخ مُرادفًا للمُفردات التى تُشين الصهيونيةَ وتهين كبرياءها، كالنكبة والمذابح والتهجير وحرب يوم الغفران وطوفان الأقصى؛ لكنها الذكرى التى ستُؤلم الجميع بقدر ما أهدروا من فُرص العقل، وانجرفوا وراء أطماع الهيمنة وأوهام الأيديولوجيا، ولم يعتبروا من مصير داهية الليكود الذى كان وحشًا كاسرًا، وانتهى كسيرًا وعاريًا من كلِّ شىء؛ إلّا الخسارة الكاملة والعار الكامل.