ناهد صلاح

نـاهـد فـريـد شـوقـي

الثلاثاء، 05 ديسمبر 2023 05:22 م

مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
"باختياري قررت أن أكون منتجة، لأنها مهنة فيها قدر كبير من المتعة والحياة"، هكذا اختصرت ناهد فريد شوقي شغفها بمهنتها عندما التقيتها قبل أن يكرمها مهرجان أسوان الدولي لسينما المرأة منذ نحو ثلاث سنوات، حينها تحدثت معي طويلًا عن أفلامها وعلاقتها بوالديها النجمين الكبيرين وعن منعطف جديد مرت به في حياتها الفنية.. لم أسمع ولا مرة في لقائي بها جملة مثل:" أبي دفعني إلى العمل في السينما"، لكن في الغرفة الفسيحة التي حملت جدرانها صور الأب والابنة تتجاور مع أفيشات الأفلام، كشف حديثها الحميمي عن البدايات والنقلة النوعية من العمل في النيابة إلى الاستوديوهات ومواقع التصوير. ما لا يمكن أن يختلف اثنان هو تأثرها الكبير بالعالم الذي نشأت فيه، إنها ابنة عائلة فنية بامتياز، الأب فريد شوقي والأم هدى سلطان والخال محمد فوزي، فكان هذا كافيًا كي تبدأ تلك الرحلة الطويلة من الاشتغال في السينما والفنون، وأن تجابه تحدّيات المهنة.
 
 اليوم رحلت ناهد فريد شوقي تاركة خلفها مشوارًا حافلًا بخطوات بارزة، نحو 36 عملًا فنيًا يمكن رصدها في قائمة أعمالها كمنتجة، ما بين أفلام ومسلسلات وسهرات تليفزيونية، تجربة مترعة بالجهد والدأب بدأتها مبكرًا بإيقاع هاديء ومنظم في كنف والدها النجم الكبير، حتى لمع اسمها وأصبحت بصورة أو بأخرى تتمرس في اصطفاء موضوعاتها هيئة وباطنًا، كامرأة واثقة، حرة، منحازة إلى اختياراتها وتجيد الإصغاء لأحلامها المشاكسة.
 
  من هذه الزاوية دخلت ناهد فريد شوقي إلى عالم الإنتاج السينمائي، إنسجامًا مع حياتها المشحونة بالحماس والطموح، لا يمكن التغاضي عن أهمية الجذور وعلاقتها الأولية بالمهنة من خلال أبيها، وهو أمر لا تنكره، لاريب أن الاقتراب منه علمها أشياء كثيرة، فهذه المسافة بينها وبين والدها نستطيع الاهتداء إلى حدّها، أو إلى مداها وطولها، وندرك كيف تناغمت مع هاجسها السينمائي في صناعة أفلام تعكس وعيها ودرايتها بالصناعة وتشعباتها الإبداعية والإنتاجية، حيث السينما بالنسبة لها إنتــاج واقتصــاد وثقافة.
 
 إذن توجهها إلى الإنتاج كان أيضًا استجابة للبيئة المحيطة، حيث تضافرت عوامل كثيرة جعل لحضورها أهمية راسخة، لأنه "ليس هناك أقوى من فكرة آن أوانها، ومن شخص مناسب إحتل مكانه المناسب".. كانت ناهد الشخص المناسب الذي أتيحت له الفرصة واستطاعت أن تتلقفها وتنجز أعمالًا مميزة وتتمكن من شجاعة الاستمرار في الصناعة.
 
  سيرتها الحياتية والفنية كشفت أنها عصية على الإحباط والاستسلام، لذا فإنه عند ذكر اسمها  لابد من وقفة نقدية تُفسر نتاجها السينمائي المتنوّع لتبيان معالم تمايزها في الصناعة، وحالتها الخاصة وإلى أي مدى طرحت أفلامها جدية واختلافًا.
 
   لما بدأت العمل مع والدها، كانت حقبة السبعينيات ترحل بكل تحولاتها الاجتماعية ونسقها الاستهلاكي المرتبط بالانفتاح الاقتصادي وتوابعه، وكان فريد شوقي يثابر بمهارة شديدة ليظل بطلًا على الشاشة، حاضرًا بأشكال وأنماط مغايرة للصورة القديمة؛ محاولاته تتوافق مع نضوجه وخبرته ودأبه الذي جعله بطلًا للنهاية، على الرغم من تعاقب الزمن وتغيُّر الأمزجة، سواء في أفلام من إنتاجه أو إنتاج غيره، تحررت طاقته من وحش الشاشة إلى أدوار لافتة في "السقا مات" (1977) إخراج صلاح أبو سيف، "اسكندرية ليه" (1979) إخراج يوسف شاهين، أو دور من رحم الأدب كما في "البؤساء" (1978) إخراج عاطف سالم وإنتاجه، المأخوذ عن واحدة من أشهر روايات القرن التاسع عشر للفرنسي فيكتور هوجو بنفس الاسم، وهو الفيلم الذي باشرت ناهد فيه العمل السينمائي كمنتج منفذ، ما يعني أنها احترفت العمل السينمائي من باب الروايات الأدبية التي تفضلها، وتوالت بعده أفلام والدها التي شاركت فيها إنتاجًا أو توزيعًا مثل "لا تبكي يا حبيب العمر" (1979) إخراج أحمد يحيي، وهو امتداد للميلودراما بوجهها السبعيني كتبها فريد شوقي وهو الذي سبق وأن قدم "وبالوالدين إحساناً" (1975) إخراج حسن الإمام، فيلمًا أخر استطاع انتزاع البكاء أيضًا.
 
 كل شيء طبيعي وكل خطوة تسلم للأخرى، وناهد فريد شوقي كانت مفتونة بمهنة الإنتاج، عالم الخيال الذي نشأت في كواليسه وأدركت تفاصيله منذ طفولتها، دون أن تدري أنها ستصبح يومًا جزءً من الكتلة السينمائية، ومن هذه الرؤية إمتثلت لإيقاع العمل، مضت في رحلة صعودها وعملت في فيلم "حكمت المحكمة" (1981) من إنتاج نيو ستار، الشركة التي جمعتها بأبيها وشقيقاتها الأربع، بينما كان الفيلم الذي قام ببطولته فريد شوقي، ليلى طاهر، ماجدة الخطيب، يوسف شعبان، نسخة معاصرة من مسرحية "الملك لير" لوليم شكسبير، وقامت بتوزيع أفلام تنوعت بين النفسي والبوليسي والاجتماعي لمخرجين من مدارس وأجيال مختلفة، ومنها أفلام إنتمت للنقلة النوعية التي شهدتها السينما المصرية في الثمانينيات وعرفت بـ"الواقعية الجديدة"، فنجدها قامت بتوزيع "الطاووس" (1982) إخراج كمال الشيخ، العذراء والشعر الأبيض" (1983) إخراج حسين كمال، "حتى لا يطير الدخان" (1984) إخراج أحمد يحيي، "الصعاليك" (1985) إخراج داوود عبد السيد، "الجريح" (1985)، "من خاف سلم" (1987)، "إحنا إللي سرقنا الحرامية" (1989).
 
  الأفلام الثلاثة من إخراج مدحت السباعي الذي قام بإخراج وتأليف باكورة إنتاجها الخاص "امرأة آيلة للسقوط" (1992)، المقتبس عن الأمريكي "أريد أن أعيش" (1959) إخراج روبرت وايز، الفيلم الحائز على جائزة أوسكار أفضل ممثلة لـ"سوزان هيوارد"، مدحت السباعي بحرفية ربط الفيلم المصري بالواقع الاجتماعي، غير الملمح الإنساني الموجود في القصة الأصلية، وجعل "يسرا" بطلة الفيلم في دور"أحلام"، تنتقل إلى مرحلة جديدة في أدائها التمثيلي أكثر نضجًا واستيعابًا لتقمص الشخصيات والعمل على محاكاتها، بينما قدم على نحو أخر صورة من صور الضياع الاجتماعي في "فرسان أخر زمن" (1993)، فيلمه الثاني من إنتاج ناهد فريد شوقي، وهكذا دخلت مرحلة التسعينيات بفيلمين انتظرت بعدهما ست سنوات تقريبًا لتقدم فيلمها الثالث "هيستيريا" (1998) إخراج عادل أديب، وتشتبك أكثر مع مرحلة صعبة في تاريخ السينما المصرية وتاريخنا، حيث كانت تنتهي التسعينيات وتبدأ الألفية الجديدة بأعنف موجة من التبدلات القيمية والتغيرات السياسية والاقتصادية العاصفة، في السينما سادت مسميات "موجة أفلام الشباب"، أو "الكوميديا الشبابية الجديدة"، أو "المضحكون الجدد"، وصار من البديهيات السهلة التي يرتكن إليها الجميع إعتبار فيلم "اسماعيلية رايح جاي" هو كلمة السر في انطلاق موجة الأفلام الكوميدية الجديدة، ولم يقل لنا هؤلاء المروجين للأحكام السهلة: ولماذا كان هذا الفيلم بالذات هو كلمة "افتح يا سمسم" التي فتحت المغارة أمام جيل من صغار الممثلين المحبطين، كما فتحت شهية المنتجين لضخ أموالهم في تقديم العديد من الأسماء الصغيرة، وأدت إلى جرأة تجاهل النجوم لصالح الوافدين الجدد، وهي ظاهرة ربما حدثت بهذا العنف للمرة الأولى في تاريخنا السينمائي الذي سار منذ نشأته على أسلوب "سيطرة النجم" كما تعلمناه من هوليوود؟
 
"اسماعيلية رايح جاي" ظهر رسميًا في العام 1997 بعد فترة من التعثر الإنتاجي، أدت إلى تنفيذه بشكل تجاري بطريقة "تقفيل الفيلم" بأرخص التكاليف تجنباً للخسائر، لكن الفيلم سيئ الإعداد والحظ، تحول إلى "تميمة حظ" للمشاركين فيه، ثم لأعداد كبيرة من المنبوذين سينمائيًا بحكم الطبخة التقليدية السائدة في الإنتاج والتوزيع، وكذلك الذوق السينمائي السائد حينذاك.. إذن "اسماعيلية رايح جاي" كان مجرد ذريعة أكثر منه إنجاز سينمائي، وسواء ظهر هذا الفيلم أو لم يظهر فإن السينما المصرية كانت في طريقها إلى ما ذهبت إليه، لأن شيئاً لا يأتي من الفراغ ولا يذهب إليه.
 
 كانت السينما المصرية كعادتها تعاني من قلق عنيف واضطرابات في السوق لأسباب متعددة ومركبة يمكن أن نركز على ثلاثة مستويات منها: الأول خارجي ويتعلق بظروف حرب الخليج الثانية مع مطلع التسعينيات وما تلاها من متغيرات سياسية واقتصادية ومزاجية عاصفة، والثاني ظروف الصناعة في الداخل والتي كانت قد وصلت إلى درجة من البؤس والتخلف في الاستوديوهات ومعدات التصوير، ودور العرض وتجهيزاتها، بالإضافة إلى تشظي شركات الإنتاج وبروز سينما المقاولات الرخيصة على المستويين الفني والإنتاجي والتي كانت تسد جوع جمهور الفيديو، وهذا يقودنا إلى المستوى الثالث المتعلق بـ"صراع الأنواع"، حيث استطاعت ثورة الفضائيات الصاعدة بقوة حينذاك أن تستولي سريعاً على ميراث الفيديو، وتعيد صياغة تطلعات المنتج والفنان والمتلقي وفق أسلوب جديد أزعم أنه لا يزال يسيطر حتى الآن.
 
  في هذه الأجواء أنتجت ناهد فريد شوقي فيلم "هيستيريا" (1998) أول أفلام المخرج عادل أديب والتجربة الثانية لمؤلفه محمد حلمي هلال، تلتقي خبرة ودراية وتجربة وشغف منتجة بالمغاير الخلاّق، مع جموح مخرج ومؤلف يتطلعان من جهتهما بكل الحرية والبراعة والجنون لتحقيق فيلمًا له هويته وخصوصيته، فيعتمد الفيلم أسلوبًا فنيًا فيه الكثير من التجديد، عماده كسر السرد، وكسر الإيهام. فعلى مستوى السرد، يتناثر هنا وهناك، وينتقل من شخصية إلى أخرى، اختيار غير تقليدي وشجاع لأسلوب العمل الفني فيه، نهض بالفيلم إلى درجة كبيرة، فبدا أن ثمة حساسية جديدة تعلن عن نفسها، نزعة التجديد في الصورة والكتابة، دم جديد يتم ضخه للسينما ليس في الإخراج والتأليف فقط ولكن في التمثيل أيضًا، النجم أحمد زكي نراه مطربًا وخريجًا في معهد الموسيقى، يظهر بجواره عبلة كامل وشريف منير وعلاء مرسي وألفت إمام ومحمد لطفي، يجسدون شخصيات تبدو بسيطة، لكنها تواجه عنف الحياة وغرابتها الجنونية، ممثلون من أجيال مختلفة يتشاركون البطولة ويتسلل أدائهم بوعي وإدراك لطبيعة الشخصيات وأبعادها النفسية، كل شخص منهم يعاني بدرجات متفاوتة من الهيستريا في فيلم يناقش محاولات الحياة والبحث عن السعادة لدى البسطاء، ويقدم صنيعًا بصريًا جيدًا، توازيه الموسيقى واختيار الأغاني لأم كلثوم وعبدالحليم حافظ ومحمد عبدالوهاب، هذا غير موسيقى هشام نزيه الرائعة التي ترد على الجميع.
 
  الموسيقى والأغاني كانت مدخلًا آخر لعالم مغاير في فيلم "من نظرة عين" (2003) إخراج إيهاب لمعي، عنوانه هو عنوان أغنية لخالها المطرب والموسيقار محمد فوزي قدمها في فيلمه "نهاية قصة" (1951) إخراج حلمي رفلة، يحكي قصة كاتب شاب، يؤلف قصة عن فتاة تحب ابن عمها وتسعى للزواج منه، لكن والدها يعارض تلك الزيجة، لتقوم بالزواج بشاب آخر زواج صوري، لإرضاء والدها، يُعتبر من أوائل الأفلام الملونة، وإن احترقت النسخة بعد نقلها من باريس للطبع والتحميض، وبقيت نسخة الأبيض والأسود، القصة بسيطة وناعمة كما في "من نظرة عين"، كوميديا اجتماعية لها طابع رومانسي تحفيزي؛ مصور فيديو أفراح تفاجئه العروس التي ذهب لتصويرها بأنها هي ذاتها التي رسمها عن طريق برنامج في الكمبيوتر، كنموذج لفتاة أحلامه، فيخبرها أنه يحبها ويريد الزواج بها، ويسعى لغرضه حتى ينجح في النهاية، هكذا يبدو أنه ببساطة يحدث الأمر، لكن هناك عينًا مختلفة وراء الكاميرا، دقة في ضبط الإيقاع وتحريك الحدث، دهشة وصدمة وعمق إنساني، يرد على أسئلة المصير البشري الذي يمكن أن يتغير في لحظة تكون مفتوحة على كل الاحتمالات، لحظة كل شيء فيها متعلق بالإحساس الخاص إزاء العالم، ولا يكون فيها الإنسان أسيرًا لنمط معين؛ أو مجرورًا وراء فكرة التطابق مع الغير، إنها لحظة متعددة المعاني كما أخبرتني ناهد فريد شوقي نفسها أنها تحمست للفيلم لهذا السبب الذي يتيح للإنسان الاختيار.
 
  إختيار ناهد فريد شوقي "اللعبة الأمريكاني" (2019) إخراج مصطفى أبو سيف، عن آخر عمل قام بكتابته مدحت السباعي قبل رحيله، لتعود بعد غياب إلى ساحة الإنتاج السينمائي، متجاوزة بعض العثرات الفنية والإنتاجية، لتقدم موضوعًا أخر تمتزج فيه الكوميديا بالرومانسية، في رأيي كان نوعًا من جسارة الاستمرار في مهنة تكتنفها الكثير من المصاعب تشمل المادي والمعنوي، كان لديها هذا الإقدام على التوغل أكثر، وهو ما ظهر في رحلتها التي حملت تجاربًا أخرى في مجال الدراما التليفزيونية،  منها مسلسلات:  7 شارع السعادة (2007) إخراج: ضياء الدين جابر، صرخة أنثى (2007) إخراج رائد لبيب، حديث الصباح والمساء (2001) إخراج أحمد صقر، زي القمر (2000)  ﺇﺧﺮاﺝ أحمد يحيى، لن أعيش في جلباب أبي (1996)  ﺇﺧﺮاﺝ: أحمد توفيق، ومن السهرات التليفزيونية: اللحظات الأخيرة (1997) إخراج أحمد يحيي، لقمة القاضي (1996) ﺇﺧﺮاﺝ: جمال عبدالحميد، نونة الشعنونة (1994) إخراج إنعام محمد علي.
 
 في "نونة الشعنونة" كانت هناك فتاة ريفية غير متعلمة، تعمل خادمة في البيوت، تسعى للتعليم وتتخطى نسقها الحياتي المتوارث، هذه هي النواة الدرامية الأصلية للسهرة التليفزيونية التي صورة حالة الفتاة الفردية كجزء من واقع جماعي، وانعكاسًا لثقافته وسلوكه الاجتماعي من خلال أحداث مبنية على ثنائية الذاتي والعام في قراءة اللحظة التي تعيشها هذه الفتاة، مضمون إنساني ملتبس الأبعاد الدرامية والجمالية في سهرة حقّقت نجاحًا لافتًا للانتباه، مستوفية الشروط الإبداعية؛ تقنيًا وفنيًا وتمثيليًا وكتابة وشخصيات وأبعادًا درامية وإنسانية، برفقة منتجة طموحة في اختياراتها وإنجاز أعمال تملك حدّاً متميزًا من المخيّلة والابتكار. هذا ما يمكن أن يلحظه المتابع لأعمال ناهد فريد شوقي، حيث يجد نفسه أمام خيارات سينمائية وفنية متنوّعة، مختلفة الهواجس والأساليب والأشكال، منتجة كانت امتدادًا لرائدات قامت السينما المصرية على أكتافهن منذ البدايات وكانت دائمًا تتطلع إلى المزيد.









مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
لا توجد تعليقات على الخبر
اضف تعليق

تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة





الرجوع الى أعلى الصفحة