مرت الذكرى السادسة على رحيل "الأستاذ" محمد حسنين هيكل الصحفي والكاتب والمؤلف الأهم في تاريخ الصحافة المصرية والعربية والأشهر عالميا. الصحفي القدوة بالنسبة لأبناء جيلي من الصحفيين الذين كانوا يتلمسون خطواتهم الأولى في بلاط صاحبة الجلالة في نهاية الثمانينات والتي تزامنت مع سنوات عودة " الأستاذ" الى التألق والتوهج والكتابة مرة آخري في الصحافة المصرية بعد خروجه من سجن السادات والافراج عنه مع تولى الرئيس الأسبق مبارك.
في تلك السنوات تسابقت الصحافة المصرية على دعوة الأستاذ هيكل للكتابة واجراء الحوارات الصحفية لأول مرة منذ أن عزله السادات عن رئاسة تحرير الأهرام عقب الخلاف بين الرجلين عقب حرب أكتوبر 1973 حول النتائج السياسية لحرب أكتوبر، وقرر السادات تعيينه مستشارا، واعتذر عن قبول المنصب وتفرغ للكتابة، وكان كل ما يكتبه ينشر خارج مصر وهو يعيش داخلها، وكانت النتيجة أن اعتقله الرئيس السادات ضمن اعتقالات سبتمبر 1981.
انتظرنا كثيرا كتاباته في الصحافة المصرية في الثمانينات وجاءت سلسة مقالاته " مصر الى أين" في صحيفة أخبار اليوم والتي لم تكتمل لظروف سياسية خاصة بنظام الحكم وقتها. وبسببها عادت الأخبار الى الأرقام المليونية في التوزيع مرة آخري. واستضافته روز اليوسف في سلسلة جوارات أجراها أحمد حمروش و آثارت جدلا سياسيا كبير في أوساط الناصريين وخاصة بين هيكل ورجال الحرس القديم في زمن عبد الناصر بسبب موقف موقفه المؤيد للسادات في أحداث مايو 71. ولا أنسى ما كتبه و ذكره أحمد حمروش عندما سأل عبد الناصر لماذا جعل هيكل قريبا منه لهذا الحد، فأجابه: "هيكل هو الوحيد الذي فهمني وفهم ما يدور في عقلي قبل أن أترجم فكري إلى كلمات؛ إنه ببساطة يجلس في رأسي ".
أعاد الأستاذ الزخم الصحفي والفكري لأروقة صاحبة الجلالة وفوق منصات الندوات والمؤتمرات التي كان يحضرها وسط حشود الألاف من معجبيه وعشاقه وحتى من المعارضين لأفكاره وللزمن الذي يمثله
لحسن حظ جيلنا أن نجوم الصحافة المصرية من كبار الأساتذة كانوا في قمة التوهج والتألق في سماء الصحافة والكتابة المصرية وعلى اختلاف توجهاتهم وانتماءاتهم. فالمباريات كانت حامية وكنا نحن ومعنا باقي القراء هم المستفيدون والمستمتعون بهذه المباريات السياسية والصحفية والفكرية بين هيكل وبهاء الدين واحسان عبد القدوس وموسى صبري مع محاولات موازية للاشتباك في المعركة من جانب سمير رجب وعبد العظيم رمضان ومحسن محمد وصلاح منتصر ومركم محمد أحمد – رحم الله الجميع-
كان هيكل هو " الأستاذ" و" الألفة" باعتراف الجميع وبحجم الاقبال على قراءة كل كلمة يكتبها و على الحرص على الحضور الكثيف لكل مناسبة يحضرها.
آثار الجدل وهاجمه بعض الكتاب واتهموه بأنه كاتب السلطة رغم أنه ظل بعيدا عنها لأكثر من 40 عاما حتى وفاته. ومع ذلك ظل صاحب الشهرة والصحفي الأهم في مصر والعالم ولم يقدر أو يجرؤ أحد على انتزاع لقب " الأستاذ" منه وهو الذي مازال محتكره حتى الآن.. فلا تذكر كلمة الأستاذ الا مرادفة لاسم هيكل.
هيكل نفسه كان يذكر اسمه مجردا من أية ألقاب في اتصاله بالأخرين فقد كان في قمة التواضع . ويحضرني هنا مناسبة في بداية التسعينات لمناقشة التقرير الاقتصادي بين الشمال والجنوب في جمعية التشريع والاقتصاد في ميدان الإسعاف في وسط القاهرة بحضور أساتذة كبار أمثال الدكتور إسماعيل ثبري عبد الله الدكتور يحيي الجمل وكان " الأستاذ" مدعوا وانتظره الجميع حتى حضر فأضاءت من حوله كاميرات التصوير وتزاحم عليه الحضور وأفسح له الجميع المقاعد الأولى للجلوس لكنه وبتواضع" الأستاذ" المفرط استسمح في الجلوس في المقاعد الأخيرة فجاء مقعده ولفرط سعادتي بجواري مباشرة. وبحرج وتوتر سألته " لماذا لم تجلس في المقعد الأمامي يا أستاذ" .. فابتسم مجيبا:" أنا جاي مستمعا وليس للاحتفال والتقاط الصور". وبعد الجلسة استأذنته في صورة معه أنا والصديق عماد الدين حسين فرحب بصورة أدهشتنا وسألنا عن أحوالنا وعملنا وكنا في ذلك الوقت نعمل في صحيفة " مصر الفتاة" فأبدى اعجابه بالصحيفة وما تقدمه. وبالفعل التقط لنا الصديق المصور الصحفي عمر آنس الصورة .. لكنه لم نحصل عليها حتى اللحظة..!
ولا انسى اعتراف هيكل وهو الأستاذ بأستاذية صديقه الكاتب الكبير جبرتي الصحافة المصرية أحمد بهاء الدين الذي كان قد أصيب قبل وفاته في أغسطس من عام 1996 لسنوات بمرض تسبب فيه رؤيته لحادثة غزو العراق للكويت حيث أدى انفعاله الشديد بحدوث نزيف في المخ أسقطه على فراش المرض ودخل فى غيبوبة استمرت ست سنوات كاملة. وهو ما حدث له أيضا في أعقاب هزيمة 5 يونيو 1967م فقد أصيب بمرض السكرى،
بكتابة مؤثرة ومبكية يكتب الأستاذ محمد حسنين هيكل عن الأستاذ بهاء: «اعترف أننى طوال أزمة وحرب الخليج لم أفتقد رأيا كما افتقدت رأى أحمد بهاء الدين. وفى وسط الطوفان العارم الذى ساح فيه الحبر على الورق أكثر مما ساح من الدم في ميادين القتال, فإن كلمة أحمد بهاء الدين كانت هي الشعاع الوحيد الغائب في وهج النار والحريق. كان الكل حاضرين, وكان وحده البعيد مع أنه كان الأقرب إلى الحقيقة والأكثر قدرة على النفاذ إلى جوهرها وصميمها. ولم يكن ابتعاده الاضطراري مجرد خسارة للعقل المتوازن فى أزمة جامحة, ولكن الخسارة كانت أكبر لأن معرفته ببؤرة الصراع كانت أدق وأعمق بحكم أنه قضى خمس سنوات من عمره مهاجرا بعمله وقلمه للكويت, ومن هناك أطل على الخليج كله ورأى ودرس وفهم بعمق كما هي عادته».
كان يدرك قيمة صديقه المريض الذي غاب عن الوعي بسبب الغزو فاعترف بافتقاده وخسارة كلماته المنيرة ووهجها لإزاحة ركام التيه من الطريق أمام المثقفين العرب التي شقت صفهم الفتنة الجديدة
هكذا كان هيكل الذي مازالت استاذيته تفرض نفسها على الجميع في الداخل والخارج رغم محاولة استئساد البعض واستبطالهم عليه بعد موته
في 17 فبراير يرحل الأستاذ جسدا -عن 93 عاما- من مسجد سيدنا الحسين – حسب وصيته-وهو الحي الذي نشأ فيه وتأثر بروحانياته وبطيبة أهله وكانت الوصية عاكسة لتدينه الوسطي المعروف عن الشعب المصري.
مرت الذكرى السادسة على رحيل الأستاذ هيكل وللأسف لم تتذكر الفعاليات الصحفية والفكرية الاحتفال بها وبصاحبها وانشغلت نقابة الصحفيين عن الذكرى بهمومها وقضاياها ومشاكل أعضاءها وانشغالها بانتخاباتها. ويبقي توجيه الشكر والامتنان للقناة" الوثائقية " الجديدة في الاحتفاء بذكرى الأستاذ.