هيثم الحاج على

هوية مصر 2

الخميس، 16 مارس 2023 10:23 ص

مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء

لم تحظ أي أمة بالثبات التاريخي الذي حظيت به مصر على مدار تاريخها، فحدود مصر منذ فجر التاريخ لم تتغير تقريبا، إلا بالقدر الطفيف ولفترات لا يمكن عدها طويلة، فمصر هي ذلك المربع الجغرافي مستقيم الحدود الذي يقع بين أهم بحرين في العالم القديم وأكثرهم توسطا وتأثيرا في العصر الحديث، وهو ما جعلها على المستوى الحضاري تكتسب صلابة ربما يندر تكرارها.

ربما يكون ذلك مؤشرا واضحا على واحد من أهم عناصر الهوية المصرية، حيث تعد مصر أقدم دولة في التاريخ عرفت الحدود الثابتة، بل أكثرها على مدار التاريخ حفاظا على هذه الحدود بلا أطماع توسعية تجعلها تغير تلك الحدود، وبلا استكانة كاملة تجعلها تذوب نهائيا في مستعمر مر بها في فترة ضعف، وهو الأمر الذي يجعلها على الدوام العنصر الأكثر تأثيرا في محيطها الحيوي الخارجي، بدرجات تتفاوت بين الشدة والضعف، لكنها تبقى الأكثر تأثيرا سواء شاءت ذلك أو رفضت، لكنها الحمولة التاريخية التي لا يمكنها التخلي عنها أو تجاهلها.

وربما ينطبق هذا الوصف أيضا على اللغة المصرية التي تحتفظ في ذاكرتها بكل ما مر بها من لغات على مدار تاريخها، هذا التاريخ الذي يحمل لنا في ذاكرتنا اللغوية حتى الآن ألفاظا مصرية قديمة ويونانية ورومانية وإيطالية وفارسية وإنجليزية وفرنسية وتركية، لكنها لا تبقى حاملة لهويتها القديمة حيث يتم تمصيرها في اللغة التي اختارها الوعي المصري في عصره الحديث وهي العربية، لتنتج في النهاية لغتها الخاصة المصرية، التي صارت لغة خاصة قادرة على التشكل بوصفها لغة مشتركة يفهمها كل من يتحدثون العربية دون جهد، بالضبط كما يفعلون مع العربية الفصيحة حين يتعلمونها.

 وهو الأمر الذي تسببت فيه عوامل تختص بالموقع المصري المتوسط، والأثر الثقافي والفني خاصة في العصر الحديث، لكن العنصر الأهم هو قوة الهوية التاريخية التي تشكل هذه اللغة الجديدة التي استفادت من هذا الوضع فصارت لغة قادرة على إنتاج إبداعها الخاص المتطور بين ما هو شعبي جماهيري وما هو نخبوي، وليس أدل على ذلك من تفرد القصيدة المكتوبة بهذه اللغة بقدرة خاصة على التنوع والبقاء وتعدد المستويات التعبيرية التي تصل في أحد أشكالها إلى ذروة التعبير عن خلاصة الحكمة الفلسفية التي ربما تعجز عنها كثير من اللغات المكتملة النمو.

لا تبدو مدونة شعر العامية المصرية على تنوعها إذن مجرد تعبير شعبي شعري لكنها تقف على حد رسم واحدة من أهم خطوط الهوية المصرية بكل طبقاتها المتراكمة عبر تاريخها، وليست مجرد لغة تحاول إبداع نفسها بقدر ما هي مرآة لهذه الحالة المعقدة من التركيب في الشخصية المصرية، ذلك التركيب الذي يجب على أبنائه المحافظة عليه، ودراسة مصادر قوته التاريخية، ودعم وعي أبنائنا به لكي يكون حصنا لهم في زمن تتداخل فيه الهويات وتتواتر فيه الهجمات محاولة طمس تلك الطبقات الصلبة والتراكمات التاريخية من هويتنا المصرية.







مشاركة






الرجوع الى أعلى الصفحة