قل لى من أمك، أقل لك من تكون، أمك هى الشرارة الأولى، وهى السحر الصافى، وهى النبع الذى يملأ الروح والقلب والعقل، هى من تشعل الشغف وترسم طريق الحلم وتراقب خطواته، الأم هى الحب الأول والصدمة الأولى والمعلم الأول والفرحة الأولى، هى تميمة الحظ فى الحياة، هى الشمس التى ندور كل لحظة فى فلكها هائمين نبتعد عنها لنجد طريقا للعودة إليها، لا نشعر بالدفء سوى هنا، نستمد النور من هنا، تمنحنا الحياة، ومن دونها لا وجود لشىء ولا قيمة لأى وجود، تشبه الجاذبية التى لا نعرف للأشياء مركزا ولا وزنا ولا اتجاها بدونها، تشبه اليقين الذى يمنحك القوة والمغفرة التى تمنحك التعافى، تشبه الكون بمفرداته جميعا والكون كله يتلخص فيها، الأم، تلك التميمة التى لا نعرف وجودا لولا وجودها ولا نعرف سبيلا سوى إليها ولا نعرف راحة بعيدة عنها ولا نعرف حنانا إلا بين أحضانها، الأم تلك التميمة التى تشكلنا وترسم لنا طريقا نعبره فنكون نحن.
يشبه تأثير الأم فى ندرته تأثير الحامض النووى، لكل أم بصمتها الخاصة فى حياة أبنائها، ولهذا التأثير نتيجة تتشابه فى عظمتها قدر الاختلاف نفسه، وعلى قدر المنح يأتى العطاء، لذلك نجد عبر التاريخ نماذج لا تتكرر كثيرا، كانت لأمهاتهم بصمة كبيرة فى حياتهم، وتحدثوا بشكل أو بآخر عن دورها وتأثيرها فى حياتهم ومسيرتهم، فقدموا للحياة قوة وفنا وإبداعا وعلما يضاهى ما قدمته الأم من عطاء، وفى تاريخنا المعاصر نجد الكثير من العظماء ممن تأثروا بأمهاتهم وتحدثوا مرارا عن دورها فى حياتهم وسوف نستعرض من خلال السطور القادمة دور الأم فى حياة عدد من هؤلاء العظماء الذين كان لهم بصمة وختما فى الحياة، كما كانت لأمهاتهم ختما على مسيرتهم.
جـمال عبدالناصر
- جـمال عبدالناصر
أطلق الكاتب الصحفى سعيد الشحات على سلسلة مقالاته التى يحكى فيها قصصا بين سطور التاريخ «ذات يوم».. وكتب مقالا بعنوان «ذات يوم.. 12 إبريل 1926 وفاة السيد فهيمة حماد أم جمال عبدالناصر»، وكتب فيه قصة موت أم الزعيم الراحل وهو فى عمر ثمانى سنوات، هنا قد نتصور لوهلة أن العمر لم يمهل جمال عبدالناصر سنوات كافية ليتشبع بوالدته ويستقى منها، لكن للأم تأثيرا لا يضيع فى حضورها وقد يكون التأثير الأكبر فى غيابها، ويبدو أن هذا ما حدث مع الطفل صاحب الثمانى سنوات، الذى جلس يوما فى الفضاء الفسيح بجوار منزله ينبش الأرض بكفيه الصغيرين، رأته السيدة وهيبة «مرضعته»، فسألته ماذا تفعل يا ولدى، رد عليها منهارا وهو يبكى، أحفر الأرض بحثا عن أمى، ألم تقولوا لى أنها دفنت فى الأرض، سأناديها من ثقب الحفرة وستسمعنى وتحدثنى، لأنها كانت تحبنى ولا ترفض لى طلبا، هذا ما فعلته السيدة «فهيمة» فى شخصية ابنها جمال، جعلته يحفر فى الأرض، لم تمر صدمة موتها عليه بأمان، لم يستسلم يوما لهذا المشهد الذى عاشه وقد كان طفلا غائبا عن أمه لمدة عام، ويوم اللقاء عاد مهرولا إلى بيته ليرتمى بين أحضانها فوجد سيدة أخرى غيرها فى البيت وهى زوجة أبيه، تلك الصدمة وذلك الشعور العميق باليتم الذى دفعه لأن يكون أكثر قوة، معتمدا على نفسه، مستقلا بحياته، فاستطاع أن يكون عالما لنفسه على أنقاض هذا العالم الذى انهار وهو فى الثامنة من عمره، فتحول بعدها ثائرا رافضا الاستسلام لأى وضع لا يرتاح معه، فكانت له العديد الثورات التى لم تغير حياته فحسب بل غيرت شكل مصر، فحولتها من الملكية لجمهورية، وثورة أخرى على حكم الاستعمار وثورة لبناء السد العالى وثورة لتأميم قناة السويس، وكلها بدأت بتلك الثورة على موت أمه وتركه يتيما وهو فى الثامنة.
عبدالرحـمن الأبنودى
- عبدالرحـمن الأبنودى
قد يكون من الصعب بل من المستحيل على رجل ولد وتربى فى صعيد مصر وظل سنوات عمره محتفظا بلكنته وجلبابه رغم الانتقال من الصعيد للقاهرة ثم الإسماعيلية أن يلصق اسمه باسم الأم، فيقول إن عبدالرحمن ولد «فاطمة قنديل»، ربما يكون السبب فى ذلك هو قصة الحب بين الأم والابن قبل حتى أن يكون جنينا فى رحمها، فقد حلمت فاطمة قنديل بولد ودعت الله أن يرزقها «عبدالرحمن» وعندما حملت به رأت حلما آخر يخبرها أن مولودها سيأتى للدنيا ضعيف البدن هزيلا، فجاهدت للحفاظ عليه، وعندما ولد كانت شديدة الخوف عليه، فيقول الخال - رحمة الله عليه - فى أحد حواراته الصحفية «تعذبت معى فى الصغر بسبب الخوف»، عامل آخر قد يكون هو السبب فى قصة الحب بين فاطمة وعبدالرحمن، وهو ذلك الفراغ الذى ملأته فاطمة بداخله منذ اليوم الأول بالغناء، كلمات وألحان ملأت بها الأم قلب وعقل طفلها، فتشكلت منها كلمات وأبيات أخرى صنع منها الأبنودى مجدا فى الشعر، ويقول الأبنودى فى أحد حواراته أن لأمه الأثر الأكبر فى تكوينه الشعرى، حيث كانت تغنى ليل نهار، فى كل المناسبات، فقد كان لقريته أبنود غنوة وموال لكل مناسبة وموروث شعبى يصف حياتهم، فكانت دائمة الغناء بالمواويل كما أنها كانت وجدته «ست أبوها» دائمة الغناء للسيرة الهلالية، لذا تشبع الأبنودى منهما وأحب الكلمات وصار «الخال»، فيقول عن تأثيرها فيه «ما سمعته من أمى شحننى بتجربة خرافية كانت دائما لصيقة بالغناء، وشكل ذلك علاقة فريدة مع الحياة، فلا يوجد فعل لا يصاحبه غناء، بالإضافة إلى أنها كانت تؤلف القصائد، وهو ما ذكره الخال فى أحد حواراته التليفزيونية، حيث قال إنها كانت تؤلف الكلمات وتحفظها وتغنيها وتصنع النغمات، وذات يوم قالت للأبنودى «يا واد الأغانى اللى انت سارقها منى»، ولم ينكر الأبنودى الأمر واعترف به قائلا أنه بالفعل اقتبس من كلماتها الكثير فى قصائده، بل كان يكتب قصائد بناء على جملة من تأليف فاطمة قنديل مثل جملة «روح يا نوم من عين حبيبى» التى ألفتها والدته لكنها ظلت عالقة فى ذهنه وقرر أن يكتب قصيدة ليستخدمها.
حسين بيكار
- حسين بيكار
فى بيت فقير تخلو جدرانه من اللوحات مثلما تخلو أركانه تقريبا من الأثاث، اعتاد الطفل الصغير أن يجلس مندهشا بجوار والدته ينظر إليها وهى ترسم وردة أو فراشة بالقلم الرصاص ثم تضع القلم والورقة المرسومة بجوارها، وتمسك بدلا منهما خيطا وقطعة قماش، تنظر للورقة لتنقل الرسمة منها إلى قطعة القماش بخيوط ملونة، ينظر الطفل الصغير مندهشا إلى قطعة القماش التى تحولت إلى عمل فنى فى هيئة مفرش تطريز، وكأن الأنامل التى فعلت ذلك لساحر وليست لوالدته السيدة الفقيرة التى تعول البيت نظرا لمرض زوجها المتقدم فى السن، وكان لهذا بالغ التأثير على روح الفنان التشكيلى الكبير حسين بيكار، والذى عاش مع والدته التركية حياة صعبة تتسم بالفقر والترحال من مكان لآخر لضيق الإمكانات، لكن بيكار لم يستسلم لهذا الضيق وساعدته والدته فى التعلم والذهاب إلى المدرسة حتى وإن كانت مجانية، وكان بيكار شغوفا بالتعلم والفنون فاستغل «العود» الذى اشتراه والده لشقيقته الكبرى لتعلم العزف وفشلت، وبدأ حسين تعلم العود بنفسه حتى صار ظاهرة فى الحى الذى يعيش به واشتهر بالعزف والغناء، فامتلأت الآذان بسحر الأغانى والألحان التى كان يعزفها بيكار، بينما كان يمتلأ قلبه بسحر آخر، ويبحث عن فرصة تمكنه من ممارسة هذا السحر الذى تعلمه من والدته، فيستخدم أنامله فى رسم لوحة فنية، وها هى الفرصة تأتى حينما عرضت عليه جارة له أن يعلمها العزف مقابل ريال فى الشهر، فوافق على الفور، وبعد شهر بالتمام والكمال صار الريال فى يده، فاستبدله على الفور بعلبة ألوان زيت ووضع أمامه كارت بوستال لبحيرة حولها إلى بيوت وأشجار وزهور، وأخذ يستحضر هذه الحالة من والدته، ينظر إلى الكارت وينقل المرسوم عليه إلى لوحته الأولى ونجحت المحاولة وصار بيكار ساحرا مثل أمه التى كانت تعمل فى الخياطة لتعول الأسرة، ولإيمانه بهذا السحر انتقلت الأم مع بيكار إلى القاهرة ليلتحق بمدرسة الفنون الجميلة العليا، ليكمل مسيرة بدأتها الأم، ويحقق حلما كان لها فامتد فى قلبه.
نجيب محفوظ
- نجيب محفوظ
فاطمة أيضا، عاشت والدة الأديب العظيم نجيب محفوظ بهذا الاسم قبل سنوات عديدة من فاطمة والدة الأبنودى، لكن جمع بينهما الاسم والأمية والثقافة، الأولى لم تتوقف عن الغناء وسرد السير الشعبية، أما الثانية فلم تتوقف يوما فى حياتها عن زيارة سيدنا الحسين، منذ أن كانت تعيش فى منطقة الجمالية وحتى بعد أن انتقلت إلى منطقة العباسية وكانت تأخذ معها أصغر أبنائها، نجيب محفوظ الذى يروى عنها كما جاء فى كتاب «صحفات من مذكرات نجيب محفوظ» والعجيب فى أمر «فاطمة» والدة نجيب محفوظ لم يكن حبها للحسين وحرصها على الزيارة اليومية للضريح، بل كان حرصها على زيارة المتحف المصرى والجلوس فى غرفة المومياوات، والأغرب من ذلك هو حبها للآثار القبطية أيضا وحرصها على زيارة دير مارى جرجس، فكانت تحب الآثار بأنواعها الفرعونية والقبطية والإسلامية، كما كانت تأخذ البركة من «مارى جرجس»، مثلما كانت تفعل مع سيدنا الحسين، وعندما سألها نجيب محفوظ عن هذا التضاد فى حبها قالت «كلهم بركة وهم سلسال واحد»، وربما هنا نجد المفتاح ونعرف كيف استطاعت هذه السيدة الأمية أن تضع فى قلب صغيرها سلاما وتسامحا، وأن تنشر فى روحه محبة الأصل وتربطه بالأماكن والثقافات والحضارات والديانات المختلفة، ارتباطها بالجمالية بسبب سيدنا الحسين والزيارة اليومية التى اعتاد نجيب محفوظ عليها لسنوات عديدة فى طفولته جعلت الجمالية منطقة تسكن روحه بكل تفاصيلها، فأبدع فى تصويرها وتقديم أهلها، كذلك أبدع فى تصوير كل ما كتب عنه بسبب هذه الصور الأصيلة التى كان يراها فى الآثار بمختلف أنواعها وهذا التسامح الذى زرعته فى روحه انعكس فى تصويره لمعظم شخصيات رواياته، فيصعب عليك الحكم على أى منها وهو يعرضها عليك بأوجه متعددة، فتحب هذا الوجه فى الشخصية بينما تكره آخر وتتعاطف مع وجه ثالث فتعجز عن إطلاق حكم نهائى، ربما يكون هذا ثأثر به، وربما يكون هذا ما ميزه، لكن الأكيد أن فاطمة نحتت فى قلبه نقوشا أقوى من تلك التى كان يشهدها فى زيارته معها للمتحف المصرى.
محمود درويش
- محمود درويش
مثلما كان لموت الأم الأثر فى شخصية الزعيم الراحل جمال عبدالناصر، كان للغياب عن الأم الأثر فى حياة الشاعر الفلسطينى محمود درويش، كان صغيرا فى السن عندما كانت تعاقبه على كل شىء وتحمله مسؤولية كل شىء لدرجة جعلته يعتقد أنها تكرهه، حتى قبض عليه وهو فى سن السادسة عشر ووضع فى سجون إسرائيل، بعدها تحول شعوره تجاه والدته وصار يشعر بأنه ابنها المدلل، ذلك الشعور الذى حول الأم إلى أيقونة ملهمة، لم تعد أمه مجرد أم، بل صارت بيتا ووطنا وطريقا للعودة ورمزا للحرية والنصر، صارت رمزا للأرض وللنضال، صارت الهدف الذى يسعى إليه الشاعر فى كل كتاباته عن فلسطين وعن الأم وعن الأرض وعن الانتماء، وعن أكثر ما يحب فى الحياة، فتداخلت كل القيم بها وصار وجودها فيها جميعا، ولعل أقوى ما يؤكد ذلك قصيدته التى كتبها وهو فى سجون الاحتلال «إلى أمى» والتى قال فيها «أحنّ إلى خبز أمى وقهوة أمى ولمسة أمى وتكبر فى الطفولة يوما على صدر يوم وأعشق عمرى لأنى إذا متّ، أخجل من دمع أمى»، هذه الكلمات التى تجعلنا نفكر هل يقصد بها الأم أم البيت أو الوطن أم الحرية لتكتمل كلماتها فى النهاية «لأنى فقدت الوقوف بدون صلاة نهارك، هرمت، فردّى نجوم الطفولة، حتى أشارك صغار العصافير درب الرجوع، لعشّ انتظارك، فندرك أنها لهم جميعا وأن الأم هى الوطن والحرية والبيت وأن جميعهم الأم».