واحدة من أكثر الكلمات المتكررة دائما على لسانى حينما يطلب مني أحدا طلبا هي "عنيا"، وأظن أن بها قدرا كبيرا من الحميمية والنعومة في المعاملة، تفوق بسنين ضوئية كلمة "حاضر"، صحيح أن بها مبالغة ، فمن الذى يعطى عينهه لشخص آخر، مهما كانت قوة العلاقة بينهما، ومهما كان قدر الحميمية في هذه العلاقة، ولكن هذه المرة قلتها عن صدق.
اسمح لي أن أقص عليك كيف تحولت الكلمة من مجرد مجاملة رقيقة إلى كلمة أعنيها بكل صدق، فقد شاءت الأقدار أن أنقل ابنى آسر ذو الـ 8 سنوات إلى القصر العينى بأمر من طبيب عيون بعدما ظهر على وجهه تورم غريب، اثر وقوعه أثناء لعبه مع أصدقاءه، أخبرنا الطبيب أنه الارتطام قد يؤثر على عينيه، وبالفعل طرنا للمستشفى حتى وصلنا للطوارئ المكدسة بعشرات الحالات، فقضينا بها 8 ساعات كاملة ننتقل بين طبيب وآخر، وبين غرف الإشاعات والأخرى، حتى استقر رأى الأطباء بأنه لابد أن يُحجز في المستشفى، يتلقى العلاج اللازم، ليتأكدوا أن المشكلة لن تؤثر على عينيه.
تعجز الكلمات عن صف حالتى النفسية والعصبية أثناء هذه الساعات الـ 8، بل وقبل ذلك، فلم أكن قد رأيت ابنى قبلها بأيام، وحينما رأيته والانتفاخ أكل نصف وجهه، وعينيه اليمنى لا تكاد تظهر، حتى سقطت على الأرض مفزوعا، والدموع تنهمر منى من هول الصدمة.
كل السيناريوهات السيئة وغير السيئة كانت تجول بخاطرى، فلا أحد يجيب علينا وما سبب التورم، وما تأثيره، وكم سيمكث في المستشفى، وهل سيحتاج الأمر لتدخل جراحى، وحتى أكون منصفا، فهذه الأسئلة المطروحة لم تلق إجابات ليس تقصيرا أو اهمالا من الأطباء، ولكن لحرصهم على عدم التشخيص الخاطئ، فبدا لى أنهم بطيئ الحركة وردة الفعل، وهذا غير صحيح.
وسط كل هذه السيناريوهات المرعبة التي نسجها عقلى المشتت عما سيحدث لآسر، وقتها فقط قفزت في ذهنى كلمة "عينى"، ولأول مرة أقولها وأنا أعنى كل حرف فيها، الآن فقط مستعد أن أخلع عينى لأعطيها له إذا كان هذا الحل، ولن أكون مبالغا أو كاذبا، إذا ما قولت لك اننى كنت مستعد لأخبر الطبيب بذلك، صحيح أن الأمر قد يبدو مبالغا فيه، ولكنها الحقيقة التي كشفت لى حقائق أخرى.
بعد هدوء العاصفة، واستقرار الأوضاع وانقشاع الضباب يوما بعد آخر، تبدأ الصورة تتضح شيئا فشيئا، تدرك وقتها عشرات المعانى التي ربما لم تكن قد صادفتها من قبل، أو ربما صادفتها ولم تتمعن فى حقيقتها ومضمونها، ترى الأمور من زوايا مختلفة، ماذا تعنى كلمة "أب"، هل اختبرت مشاعر الأبوة من قبل؟ كيف ترى خوف أبيك عليك في السابق؟ ما التضحية؟ ومن يستحق؟
أرجوك لا تصفنى بالشخص المبالغ، فهذه الأسئلة كانت هي من تؤنسنى في ساعات الليل الطويلة التي كنت أقضيها بجوار آسر في المستشفى، يتناوب عليه الأطباء والممرضين والممرضات لإعطاءه الدواء، ورعايته، بل وربما لتسخر منى، حينما تعرف اننى افترضت كل تلك السيناريوهات السيئة واننى مستعد للتنازل عن عينى لإبنى، والطريف أن مشكلة آسر الطبية لم تكن في عينه بالأساس !
وقبل أن تتهمنى أننى شاركتك تجربتى وآلامى فقط في تلك السطور ، دعنى أشركك أيضا لحظات سعادتى، وامتنانى إلى الله عز وجل، ورحمته بى وبآسر، ففي وسط تلك المعمعة و"المشاوير" بين المباني والأخرى داخل هذا الكيان العملاق المسمى بـ "القصر العينى"، أرسل الله لى نموذجين، مازلت حتى الآن وبعد خروج أسر من المستشفى أتأملهما، بل وعاجزا عن تفسيرهما.
النموذج الأول هو ميس "ن"، واسمح لى أن اكتب الحرف الأول من اسمها فقط، حتى لا يظن أحد أننى اكتب عنها نظير رعايتها لإبنى، وهى التي تفعل ذلك مع كل المرضى، لوجه الله أولا، ولأنها مهنتها ثانيا، فهذه الممرضة، نموذج يحتذى به بحق في تلك المهنة الشاقة الرحيمة، إذ تجمع السيدة بين متناقضين غريبين، الأول أنها شخصية في منتهى الجدية والصرامة والحدة مع من يعملون تحت يديها، ولا أبالغ إذا أخبرتك أننى حينما نظرت إلى عينيها للمرة الأولى شعرت بالخوف، الشيء الثانى، هو أنها شخص "في منتهى الحنية" ليس فقط مع المرضى، ولكن حتى مع مرؤسيها، فهى تتعامل بعنف مع المقصر، وفى نفس الوقت شديدة الرحمة بالمرضى وزملاءها، فضلا عن خفة ظلها، وتمتعها بروح الدعابة، فبدا لى الأمر غريبة، تجاه تلك الشخصية المركبة.
النموذج الثانى أشبه بالملائكة التى يرسلها الله لغرض معين، فبينما أتنقل بين المباني والأخرى داخل المستشفى، وآسر فى يدى انهكته المشاوير والسلالم ورؤية المرضى ــ شفاهم الله ــ إذا بسيدة تنظر لوجهه المنتفخ بتأثر صادق، فسألتنى عن حالته، فأخبرتها بكل شيء، منذ لحظة دخول المستشفى، وأننى ذاهب لشراء تذكرة لعرضه على جراح أسنان، فما كان منها إلا أنها أخذت ملف اسر من يدى، وقالت لي ولآسر "تعالو معايا"، فاصطحبتنى إلى مكان الحجز، وقطعت لنا التذكرة، ثم ظلت تداعب أسر، وتسأله عن اسمه ومدرسته، لتخفف عنه ارهاق المشاوير، وبعد أن حصلنا على التذكرة، وقفت ودلتنى على المبنى الذى سأتوجه إليه، ثم انحنت لآسر وقالت له "ممكن اطلب منك طلب"، فهز آسر رأسه موافقا، فقالت "ممكن تدعى لبابايا.. قول ربنا يشفيك يا جدو محمد"، فردد أسر ما طلبته منه، فوجدتها تمسح دمعتين سالا على خديها، وفى لحظة نظرت للخلف لأرى المبنى الذى سأتوجه إليه، وحينما التفت لها مرة أخرى لم أجدها وكأنها تبخرت تماما، وحتى الآن لا أعرف ما إذا كانت هذه السيدة طبيبة أم موظفة إدارية بالمستشفى أم ملاكا، ولكنى ما زالت حتى الآن أدعو لوالدها بالشفاء.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة