اللغة وسيلة الإنسان للتعبير، وطريقته للتواصل والتعايش مع الآخرين، والأداة الأكثر تجسيدًا للمشاعر والآراء وخبرات الحياة، كما أنها مدخل مهم من مداخل المعرفة، وبالتأكيد هى عامل رئيسى في أي عمل إنسانى يستهدف الاتصال، وأحد العناصر الأساسية الحاكمة لنجاح أي إبداع فني أو أدبي.
وبالنظر إلى الأعمال الفنية المعروضة ضمن موسم مسلسلات رمضان 2023، خاصة الأعمال التاريخية التى يمثلها مسلسل "رسالة الإمام" للنجم خالد النبوي وإخراج الليث حجو، نجد أن اللغة أحد العناصر المهمة التى استخدمها صانعو العمل للتعبير عن أشياء بعينها، والتفريق بين سياقات اجتماعية وثقافية وهويّاتية، كما كانت وسيلة للتأمل، خاصة فيما يتصل بأشعار وفقه الإمام محمد بن إدريس الشافعي.
عند صناعة أي عمل فني تاريخي قد يقع الصنّاع في إشكاليتين: ضرورة الحفاظ على السياق الزمني بما لا يخل بالأحداث التاريخية محل التناول، واستخدام الرؤية الفنية وإضفاء بعض الخيال الفني خاصة في السياقات التي لا تتوفر لها إجابات واضحة في المراجع التاريخية وتحتاج إلى رؤية وتحليل من كاتب العمل، وكذلك تكون اللغة عاملاً رئيسياً في مثل تلك الأعمال، خاصة مع شخصية مثل الإمام الشافعى.
وفي مسلسل "رسالة الإمام" لجأ صناع العمل إلى العامية المصرية للتعبير عن لغة أهل الفسطاط من الأقباط ومن دخلوا الإسلام حديثا، فيما جاءت الفصحى لغة للفقهاء والقادة والحكام والعسكريين، وهو ملمح ذكي من صناع العمل لتوضيح هوية الشخصيات الدرامية وتبسيط الأمر على المشاهد حتى يسهل التلاقي مع العمل الفني، وهو ما يبدو رهانًا من صناع العمل على اعتماد اللهجة العامية بديلاً رمزيًا للغة القبطية أو المصرية القديمة التى كان يتحدثها أهل مصر وقتها.
رغم التبرير السابق ومنطقه المفهوم، إلا أن استخدام العامية أثار تساؤل البعض عن صحة حضورها في عمل تاريخي، واعترض البعض بحجة أن العامية لم تكن مستخدمة في تلك الحقبة الزمنية على الإطلاق ما يُمثّل فى وجهة نظرهم إضرارا بالسياق التاريخى للعمل.. لكن بالتأكيد فإن أي عمل فني - حتى لو كان تاريخيًا محضًا - هو عملية إبداعية منفصلة، ومن الوارد أن يضع المؤلف أو المخرج وجهة نظرهما الخاصة في صياغة بعض الأحداث على الشاشة أو طريقة معالجتها دراميًا.
إلى جانب ذلك، هناك عوامل لا بد من ألا يغفل عنها أى مبدع، أهمها النظر إلى الجمهور المستهدف ونوعية العمل ومستويات التلقي، وفي الأخير فإن صناع "رسالة الإمام" يقدمون عملًا للجمهور العام يشاهده أطفال وكبار، من مستويات معرفية وثقافية متنوعة، ومن ثمّ فإن تقديم العمل بطريقة يستسيغها الجميع مسؤولية صنّاعه ورؤتهم، كذلك فإن البعض يخلطون بين العمل الوثائقي الذى يعرض مراجع ومصادر تخدم فكرته، وعمل درامي يتناول حقبة تاريخية معينة برؤية إبداعية، وعلى سبيل المثال قدمت السينما العالمية عدة معالجات عن شخصيات دينية أكثر قداسة من الفقيه محمد بن إدريس الشافعى، مثل أفلام "نوح" للنجم راسل كرو، و"الخروج" الذى يتناول قصة خروج النبي موسى وقومه من مصر، وكان حديثها باللغة الإنجليزية، ومن المؤكد أنه لا صنّاع تلك الأعمال ولا مشاهدوها يملكون دليلا واحدا على لغة نوح وقومه كما أن موسى لم يكن يتحدث الإنجليزية.
المختلفون مع استخدام العامية تجاهلوا عددًا من الأمور الثابتة تاريخيًا، منها أن مصر كانت قبل أن يدخلها العرب قبطية اللسان مسيحية الدين، ولغتها الرسمية اليونانية، وأن عددًا كبيرًا من المؤرخين بينهم الدكتور عاصم الدسوقى يرون أن المصريين ظلوا يتحدثون اللغة المصرية القديمة في بيوتهم ومعاملاتهم قرونًا متقدمة بعد الفتح، حتى أن المصادر التاريخية أشارت إلى أن الخليفة العباسى المأمون حينما جاء إلى القاهرة تجوّل فى أسواقها مصطحبًا مُترجمًا؛ ليترجم له ما يقوله الناس وينقل عنه الكلام لهم.
فى النهاية، الأعمال الفنية تُقدّم بالصورة التى يفهمها الجمهور، ولا بد من أن تكون مناسبة لوقتها وبيئتها وجمهورها المستهدف، وغرض العمل الفني ليس التوثيق فى المقام الأول؛ وإنما الدعوة إلى التأمل والنظر فى رؤى وأفكار أكثر سماحة للدين، ونشر رسائل لأهل الفقه وعظماء الدين، ليكونوا أكبر رد على خطابات المتشددين والأصوليين، ورسالة لنظرة أكثر عمقًا للدين والحياة.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة