"طالعين على أرض الفيروز
الرمل ماس والقلب كنوز
اخضرى يا سينا مطرح خطاوينا
بعرقنا نرويكى بالحب تروينا
دى ميتك شربات اللوز"
في شتاء 1982 وعقب شهور قليلة من تحرير سيناء ورفع العلم المصري عاليا شامخا فوق مدينة العريش، كان الجميع من سكان الوادي والدلتا متشوقين ومتلهفين لرؤية الأرض التي دفع أبناؤهم ضريبة الدم لتحريرها من العدوان والاحتلال الغاصب.
في تلك الأثناء نظمت الجامعات المصرية قوافل من طلابها لزيارة سيناء. في جامعة القاهرة كنت ضمن الطلبة والطالبات الذين دونوا أسماءهم في كلية الإعلام - كنت في السنة الأولى بالمناسبة- لأول زيارة لسيناء في قافلة من 6 حافلات - أتوبيسات- ضمت مئات الطلبة بالتسنيق مع الجهات الرسمية بالدولة، اصطحبنا خلالها عدد من ضباط القوات المسلحة الباسلة. من القاهرة إلى الإسماعيلية ثم إلى وسط سيناء ومطار المليز، ثم إلى مستعمرة ياميت التي دمرها الغزاة والمحتلون قبل انسحابهم، وصولا إلى العريش في رحلة استغرقت حوالي 7 أيام.
كانت آثار الحرب مازالت شاهدة على أشرس معارك التاريخ، والهزيمة النكراء للجيش الذي ادعى أنه لا يقهر، والبطولات الأسطورية التي سطرها بأرواحهم ودمائهم جنودنا البواسل على أرض الفيروز.. شاهدت حجم الدمار لمستعمرة ياميت الذي خلفه المستوطنون المحتلون حتى لا تستفيد منها مصر والذين رحلوا عنها بالنحيب والبكاء والصراخ على مسمع ومرأى من العالم كله..
مع أول خطوة فوق أرض سيناء بعد أن عبرنا القناة من معبر رقم ستة، انهمرت دموعنا وهتفنا مثلما هتف جنودنا لحظة العبور العظيم "الله أكبر" – لم يكن قد مر على حرب أكتوبر سوى 9 سنوات فقط- ورحنا نغني كل أغاني الحرب..ثم أغنية التحرير التي كان قد كتبها الشاعر الكبير عبد السلام أمين ولحنها الموسيقار محمد الموجي وغناها المطرب السكندري الجميل الراحل أسامة رؤوف( 1938-2018) في البداية ثم غنتها معه في دويتو غنائي بديع الفنانة ياسمين الخيام بعد ذلك:
"طالعين على أرض الفيروز الرمل ماس والقلب كنوز...اخضرى يا سينا مطرح خطاوينا..بعرقنا نرويكى بالحب تروينا..دى ميتك شربات اللوز".
طوال الطريق لم يتوقف شرح أحد ضباطنا البواسل الذي رافقنا في الرحلة، وكان على ما أتذكر برتبة مقدم عن الشرح والإسهاب بالمعلومات عن الحرب والقناة والأماكن التي نتوقف فيها، ولم يخل الأمر أيضا من بعض التعليمات التي التزمنا بها جميعا كأوامر عسكرية. ربما المرة الوحيدة التي لم تطاوعنا مشاعرنا لسماع الأوامر، لحظة زيارتنا رفح عند بوابة صلاح الدين ورؤية عدد من الجنود الإسرائيليين والعلم الإسرائيلي على الجانب الآخرمن رفح الفلسطينية التي كانت تحت الاحتلال.
الزيارات لم تنقطع وكانت الزيارة الثانية ضمن وفد من شباب دسوق وكفر الشيخ إلى سيناء في مارس 1984 تقريبا وهذه المرة عبر الطريق الساحلي الإسماعيلية القنطرة بئر العبد العريش الشيخ زويد ثم رفح.. في هذ الرحلة وفي الإسماعيلية عبرنا القناة بصحبة أحد ضباطنا لزيارة واحد من أكثر المواقع أو النقاط الحصينة في خط بارليف المنيع، الذي انهار تحت أقدام رجالنا الأبطال وكعوب بنادقهم وهو موقع الشجرة. كانت الدهشة تسبق سيل الأسئلة عن كيفية اقتحام هذا الموقع الحصين والاستيلاء عليه في معارك حرب أكتوبر المجيدة. الموقع يقع فوق تبة أو مكان مرتفع وكل ما حوله أراض صحراوية منبسطة ويسهل دحر أي محاولة لاقتحامه.
كانت الإجابة من القائد المرافق لنا مصحوبة بابتسامة الثقة والفخر لما حققه الجنود السمر الشداد. ومهما كان الوصف لوقائع المعركة فلن يصل العقل لما حدث.. معركة بطولية أسطورية تستحق تقديمها عبر دراما وسينما حقيقية مثلما حدث مع فيلم "الممر".
زيارتي الثالثة والأخيرة كانت زيارة ترفيهية إلى مصيف نقابة الصحفيين في صيف أغسطس عام 96 – المصيف أو المعسكر الصيفي للنقابة، للأسف تم هدمه بعد ذلك وكان مجاورا قرية سما العريش على ساحل البحر المتوسط-
الرحلات الثلاثة مازالت محفورة في الوجدان. وكانت زيارات ضرورية للرصد بالعين لبطولات وأمجاد جنودنا فوق رمال سيناء والوقوف على حجم التضحيات التي قدموها لتحقيق النصر ، وهي التضحيات التي تواصلت لدحر التنظيمات الإرهابية وجماعات الظلام عقب ثورة 30 يونيو2013.
وحان الوقت بعد أن عاد الأمن وتحقق السلام فوق ربوع سيناء واستعادت أرض الفيروز مظاهر الحياة الطبيعية وعادت الاحتفالات والفعاليات الاجتماعية والرياضية والثقافية والفنية أن تنظم كافة مؤسسات الدولة وخاصة طلبة المدارس والجامعات رحلات إلى أرضنا الحبيبة في سيناء حتى يدرك الجميع حجم ما تحقق وحجم التضحيات والدماء الذكية التي روت الأرض للحفاظ عليها وتطهيرها من الارهاب البغيض والتحول الى البناء والتنمية.. فليس من سمع كمن رأى
سيناء الآن.
ومنذ عام 2014 صارت قضية أمن قومي وعجلة التنمية فوق كل شبر فيها لم تتوقف وعلى كافة الأصعدة ومحاور عملية التنمية وما تم انفاقه على مشروعات التنمية في سيناء يقدر حتى الآن بما يقرب من 700 مليار جنيه، في الزراعة والصناعة والإسكان والسياحة والبنية الأساسية، من طرق وأنفاق وشبكات كهربائية وتوصيل مياه النيل وتعليم وصحة.
فالنهوض بسيناء واستغلال مواردها ومقوماتها يمكنه النهوض بالاقتصاد المصري فسيناء تمثل نسبة 6% من مساحة مصر الإجمالية وهي كنزها الاستراتيجي، بعد أن تم إنهاء عزلتها عن الوادي إلى الأبد ووضع خطة طموحة وغير مسبوقة لتعمير أرض الفيروز.
كل عام ومصر الغالية بخير.. كل عام ومصر ورئيسها وقواتها المسلحة وقيادتها وشعبها ومقدراتها بكل خير.. كل عام وكل حبة رمال وكل شبرٍ علي أرض مصر السلام بخير واستقرار وأمان، كل عام و شهداء مصر الأبرار في جنات النعيم.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة