ليس مطلوبًا أن يكون الحوار الوطنى مصباحًا سحريًّا، ولا فى مقدوره إن أراد. صحيحٌ أن الخطوة جاءت تعبيرًا عن تناقضات بين مكوّنات المشهد السياسى، كان لزامًا العمل على إدارتها بأدوات وفى مسارات تُقلّص الفجوة، وتضمّ المُختلفين فى مساحة مُشتركة؛ إلا أنها عبّرت أيضًا عن نضجٍ واضح لدى الدولة، بالنزول عن أوضاع قائمة ومُستتبّة لصالح التوافق على مسارات تستوعب الجميع.
بدا أن الرئيس عندما وجّه الدعوة قبل 54 أسبوعًا يستوعب أثر السنوات الماضية، ويعرف تمامًا أننا إزاء تجربة ضرورية، لكنها لن تكون سهلة.. ربما تمنّت المُعارضة مُكتسبات أكبر، أو يُسجّل بعضهم مُلاحظات؛ لكن فى المقابل يُمكن افتراض أن كثيرين من المؤيِّدين لديهم تحفظات أيضًا، على الأقل من ناحية أن المنظومة فى أوج قوّتها وليست مُضطّرة لترك شىء من مساحاتها الخالصة للآخرين، أو أن «الحوار» فرصة مجانية لتجارب حزبية باهتة لم تُؤدّ ما عليها تجاه الشارع أو تجاه أنفسها.. لا حاجة لنا فى تخطئة أحد الجانبين؛ لكن أُولى سمات الرُّشد السياسى أن يُنظر للصورة من كل زواياها المُمكنة!
تعيش أغلب الأحزاب مأزقًا حقيقيًّا لا يمكن تجاهله، يتجلّى بوضوح فى الفارق الشاسع بين قواعد عضويتها وقاعدة بيانات الناخبين. سواء اعترفت بقدر من المسؤولية عن ذلك الخفوت الواصل إلى مستوى الموت السريرى، أو حاولت إلقاء التبعة كاملة على أكتاف آخرين؛ سنصل فى الأخير إلى ضرورة واحدة مُلحّة: البحث عن أنجع السبل وأيسرها لبثّ الروح فى الجسد الحزبى وتنشيطه على وجه السرعة، كلما كان ذلك مُمكنًا، والحقيقة أنه لا فرصة أفضل من التماس النقاهة والتريض فى حاضنة الدولة/ المنظومة والسياق العام، انطلاقًا من أن العزوف الجماهيرى كان من أسبابه فَقْد الثقة فى البنى الأيديولوجية والحزبية، بعد ارتباك البعض وتخاذل آخرين أمام الإخوان، أو استشعار عوام الناس أن ثمّة تعارضًا بين الانخراط المُنظّم فى مُؤسَّسات السياسة ومقتضيات الظرف الوطنى، أو أن فى الأمر التباسًا أو شبهة أو حتى مخاوف تتصل بالسلامة.. العودة إلى الظهور من منصّة مشمولة برعاية الدولة فى كل مستوياتها الرسمية، وإعادة بناء مكوّنات الفاعلية الفكرية والشعبية ضمن جمهرة من اللاعبين الممسوسين بالتحدّيات نفسها، وتمرير الرسائل والخطابات عبر منصّات إعلامية راسخة، بما لها من قيمة معنوية وقدرات تكريس، تضمن كلها تذويب جبال الثلج المتراكمة على امتداد عقدٍ كامل، وتفتح الباب لممارسةٍ أكثر إقناعًا وجذبًا للشارع، فضلاً - وبحسابات براجماتية بحتة - عن تجميع النقاط بكسب الأرض أو تسجيل المواقف، وعن إحراز الأهداف العلنية السهلة والمُؤثّرة فى المنافسين.
يُفترض أن تكون الأحزاب قناةً مفتوحة فى اتجاهين: الشعب والسلطة، بما يعنيه ذلك من اتّصال جادّ، ونظر فاحص، وقدرة عميقة على القراءة والتحليل واقتراح الرؤى وتصويب المسارات. المؤسَّسات الحزبية لها دور وظيفى ضمن صيغة المجتمع المدنى؛ من حيث كونه جسدًا يملأ المسافة بين الدولة والفرد، وتلك الصيغة تُرتّب عليها التزامًا تجاه الطرفين: أن تكون قادرةً على تسلّم رسائل الناس وبرمجتها ضمن أُطر فكرية وخطط عمل، وأن تُنشّط إمكانات الإرسال لديها لتستطيع الاشتباك مع السلطة تصويبًا أو إحلالاً. تعمل الدولة من أعلى وتبدأ الأحزاب من أسفل؛ ليلتقيا فى مساحة وسيطة بين المصالح الاستراتيجية والمنافع الوقتية، ومع انكشاف ساحة المواجهة أمام الجمهور يُعاد ترتيب الكُتل، وتُصاغ موازين القوى فى صناديق الانتخاب. هكذا يبدو المجتمع الحزبى شريكًا ومنافسًا للسلطة فى الوقت نفسه، وإن مال إلى أحد الأمرين تختل المُعادلة.
تجربة مصر الليبرالية سارت على ساقٍ واحدة طوال الوقت. قبل ثورة 19 برز الحزب الوطنى مقابل هوامش خافتة ارتكنت إلى رؤى عرقية أو عقائدية أو سُلطوية أو داعمة للاحتلال، وبعد ثورة يوليو كان «الوفد» مُهيمنًا أمام أقليات وأحزاب خفيفة الوزن والأثر، وبين عودة المنابر 1976 ويناير 2011 تكرّر الأمر.. عمليًّا لم تشهد مصر حياة حزبية سليمة وكاملة التعافى من قبل، وإذا كانت الغاية الآن ترسيم معالم حقبة ليبرالية، قادرة على استيعاب التناقضات وإدارتها بكفاءة وفاعلية ومساواة بين كل الأطراف؛ فمن الواجب التأسيس لها بانقطاع عن كل المحاولات السابقة.
قديمًا كانت الأزمات ناتجة عن خلل بنيوى فى طبيعة النظام: الملكية بما تراه من حقٍّ مُطلق لم يفلح «دستور 23» فى لجمه تمامًا، أو الانفتاح المُسوَّر بحدود رؤية الاتحاد الاشتراكى وإرث تنظيمات الستينيات؛ لا هذا ولا ذاك من مكوّنات الوضع الحالى وتوازنات القوى فيه؛ إذ نحن بصدد جمهورية تحدُّها الشرعية الدستورية، ورئيس لا حزب له ولا ظهير أيديولوجى.. يبدو الوضع القائم خاليًا من أمراض الماضى وأكثر قبولاً للتطوير استجابة لمُتطلّبات المُستقبل؛ الشرط الوحيد أن نقرأ الصورة على وجهٍ سليم، وأن تصل مُمارسات السياسيين إلى الرُّشد، ويخرجوا من دوّامة الاستقطابات القديمة؛ إذ لم تعد صالحة للبقاء.
حصيلة عشرات آلاف الأفكار والاقتراحات، من قوى سياسية وأفراد، وضعت المحور السياسى ثالثًا فى الحوار الوطنى، بعد المحورين الاقتصادى والمجتمعى؛ وإذا كانت المعارضة، خاصةً أحزاب الحركة المدنية، تراه وتريده حوارًا سياسيًّا فى الأساس، فإن عليها استيعاب أن الخروج بما تطمح إليه فى الربع بين الأوزان النسبية للمحاور؛ يستدعى الوفاء بما يبتغيه الباقون، لا سيما الشارع، فى الثلاثة أرباع الباقية، ما يعنى الانخراط باهتمام وجدّية، وتقديم رؤى عقلانية مُقنعة فى موضوعات أربع عشرة لجنة تتصل بالمعيشة وسياسات التنمية والخدمات.. يصعب تحقيق اختراقات شعبية لدى الناخبين، إذا استشعروا أن الأحزاب تضع رغباتها فوق مصالحهم، وتسعى إلى توسيع هامش حضورها فى المجال العام، دون امتلاك رؤى مُختلفة أو برامج وحلول مُتقدِّمة وقابلة للتطبيق.. باختصار، أقصى ما يُمكن أن تبنيه المعارضة فى المحور السياسى، يستند أساسه الحامل إلى قاعدتين عريضتين، كأنهما ساقان «اقتصادية ومُجتمعية» يسير بهما الحوار.
ترمومتر الحياة الحزبية لا يُقدّم قراءات دقيقة دائمًا. بعد ثورة يناير 2011 تصوّرت الأحزاب القائمة أنها أمام فرصة تاريخية لانتزاع ما اعتبرته حقوقًا مهضومة. كانت مُمارسات كوادرها وأحاديثهم كأنها تنطلق من بيئة مُستقرّة على أغلبية شعبية مُريحة ومضمونة. بين أكثر من عشرين حزبًا جديدًا امتلك الإسلاميون نحو 10 تجارب مُوزّعة بين السلفيين والإخوان؛ ثم انتزعوا نحو ثلثى مقاعد البرلمان الذى غابت عنه ثلاثة أرباع الأحزاب القائمة وقتها، ودخلته ثمانية أحزاب بنائب واحد. اكتشفنا أن الكيانات التى ليست أحزابًا من الأصل، لا بالمرتكز ولا الممارسة، وتنتهك الدستور والقانون والمواطنة، فرضت هيمنتها على حلبة الصراع السياسى، ليس لميزة فيها وإنما لعيوب لدى الآخرين. المعنى أن أصوات المدنيين الصاخبة لم تكن تعبيرًا حقيقيًّا عن حجم حناجرهم الأيديولوجية والتنظيمية؛ والدلالة أن انزلاق الحزبيين إلى الممارسة الثورية وقتها كان خاصمًا منهم ومن أحزابهم؛ إذ إن عملهم إصلاحى بالأساس، ودورهم أن يخوضوا صراعًا على السلطة لا معها، بكل ما يتّصل بذلك من إعادة بناء بدلاً عن سعى إلى الهدم.
المُعارضة جزءٌ من منظومة الحكم؛ من زاوية أنها طرف فى معادلة التوازن السياسى، وانعكاس المرآة الساعى دائمًا إلى استبدال المقاعد مع الأغلبية. والحوار تقنيًّا حديث واستماع، وعمليًّا «صراع بارد» أقرب إلى مباراة شطرنج، تُكسب فيها المواجهات دون خشونة أو صدامات.. لا يستقيم التوازن السياسى بأجساد حزبية مريضة تفتقد العافية، ولا بسياسيين مُتقلّبين يفتقدون الرُّشد، والوصول إلى الأمرين يبدأ من قراءة الواقع بتجرّد وإنصاف، واستيعاب دروس الماضى بشجاعة وعمق. تحتاج الأحزاب إلى نظرة مُتأنية لحالها، وإلى اعتراف بالأخطاء من أجل عدم تكرارها، والإيمان بأن حضورها فى المجال العام يبدأ من داخلها فى المقام الأول، ثمّ من صيغة صحية للعلاقة مع الدولة. الحوار الوطنى فرصة لكل الأطراف، المهم أن تُغتنم بمنطقٍ يضمن للجميع، وأولهم الأحزاب، أن تكون خطوة واسعة إلى الأمام، فى الساحة الوطنية العريضة، وداخل كل تيّار أيضًا.