في عام ٢٠١٨ تصدرت مواقع التواصل الاجتماعي ڤيديو لراقصة البالية الإسبانية الشهيرة مارتا سي جونزاليس ، في إحدى دور رعاية المسنين ، وكانت تعاني من مرض الزهايمر ، وقد وضعوا على أذنيها سماعات تحمل لآذانها موسيقى بالية ( بحيرة البجع ) الذي طالما رقصت عليها على أشهر مسارح العالم يصاحبها مجد امتد لزمن طويل ، ولطالما عاشت جملها الموسيقية وسرت في وجدانها لسنوات وحفظتها عن ظهر قلب .
ما أن استمعت مارتا وكانت قد تجاوزت النصف الثاني من الثمانينيات من عمرها إلى تلك الموسيقى حتى راحت تحرك زراعيها بنفس تلك الحركات الرشيقة الحالمة لبالية بحيرة البجع كما كانت تقدمها على المسرح ، وقد وضعوا في خلفية الڤيديو مشاهد لها في شبابها وهي تؤدي نفس الحركات على المسرح ، ولو رجع البعض إلى هذا الڤيديو لتأثر كثيرا لهذه السيدة التي في العقد التاسع وقد دبت فيها الحياة بعد الاستماع إلى ما ألفته من موسيقى !
منذ سنوات عديدة والعلماء والباحثين يثير اهتمامهم كثيرا تأثير الموسيقى على الإنسان ، وربما ينظر البعض إلى الموسيقى على أنها رفاهية لا تهتم بها سوى الشعوب والدول الكبرى المرفهة التي اكتفت من حاجاتها المادية ولم يبق سوى الاهتمام بالحانب الترفيهي ، وقد زاد الطين بلة إدعاء البعض في مجتمعاتنا تحريم الموسيقى ، حتى أن هولاء المتطرفين قد أطلقوا عليها
( مزامير الشيطان)! وعلى الرغم من أن الطبيعة البشرية تألف وترتاح لهذا الفن الذي يجسد إبداع الخالق للعقل والروح البشرية ، وعلى الرغم أيضا من أن المبدعين في هذا المجال هم فقط من مستهم تلك الموهبة والغواية ، إلا أنها لم تلق من الاهتمام في الكثير من البلدان ما يليق بما تمنحه الموسيقى من إيجابيات وفوائد كبيرة تنعكس على حياة الإنسان وروحه وصحته وعلى المجتمع كله . فمن المؤكد أن الشعوب التي تهتم بالموسيقى تختلف وترتقي كثيرا عن تلك التي تهملها بل وتتجنبها !
من هنا فان الشعوب المتقدمة اهتمت بالموسيقى في مراحل التعليم المختلفة ، وأصبحت محور الكثير من الأبحاث والدراسات حول مدى تأثيرها على الجوانب المختلفة للبشر ، بل امتدت تلك الدراسات للحيوانات لإثبات أن الموسيقى يمكن أن تساعد في زيادة الإنتاج الحيواني.
الغريب في الأمر أننا حين ننظر إلى المجتمع المصري نجد انه في عقود سابقة كانت الموسيقى تحظى باهتمام كبير تمثل في تخصيص حصص ومسابقات للموسيقى في المدارس ، وتقديم أنشطة وحفلات موسيقية في الجامعات والمدارس أنتحت لنا أصوات كثيرة وعازفين وملحنين ، بل وجمهور يتذوق ، وكان يصاحبها نشاط موسيقي كبير سواء في المسارح أو الأفلام الاستعراضية ، وكانت الكثير من العائلات تحرص على تعليم أبنائها العزف على الآلات الموسيقية ، بل كان يعد هذا أحد جوانب الوجاهة الاجتماعية.
لعل هذا هو ما منح مصر مكانة عربية وإقليمية ودولية كبيرة نظرا لكونها منارة للفن والحضارة في كل المنطقة العربية ، وهو ما جعل اللهجة المصرية هي الأكثر انتشارًا بين الشعوب العربية ، والفنانون المصريون ملء السمع والبصر ، وأصبح لدينا رصيد فني هائل من الأصوات والملحنين والعازفين والألحان ، وأصبحت القاهرة مركزا يمنح صك النجومية وشهادة الميلاد لأي فنان عربي يبحث عن مساحة من الشهرة .
إذن من الطبيعي الآن وقد تركنا تلك الهبة الجميلة - أن نرى تلك الفوضى الفنية والأصوات الناشذة والكلمات الرديئة والألحان الغريبة التي تحيط بنا ، علينا أن ندرك على الفور أن هذا كان نتاج منحة إلهية خصنا الله بها ونحن أهملناها بينما العالم كله يدرك قيمتها ويعظم من ترسيخها بين أبناء شعوبه .
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة