تغييرات كبيرة تشهدها الساحة الدولية، في التعامل مع الأزمات العميقة التي تواجهها في المرحلة الراهنة، خاصة مع صعود قوى مؤثرة باتت لديها القدرة على تقديم الدعم للأنظمة السياسية التي طالما عانت من العزلة، والاستخدام المفرط لـ"عصا" العقوبات في إطار توجيهها نحو تغيير بوصلتها، وهي السياسة التي سيطرت على العالم، خلال حقبة الهيمنة الأحادية، في ظل قدرة القوى الرئيسية في العالم على قيادة حلفائها على السير في نفس المسار، مقابل ما تقدمه لهم من دعم سياسي أو اقتصادي، ساهم في تقديم غطاء من الشرعية الدولية على القرارات التي اتخذتها الولايات المتحدة، لعقود طويلة من الزمن، تجاه الدولة "المارقة"، والتي عانت كثيرا جراء حالة التضييق التي واجهتها على خلفية حالة العزلة، وتحت وطأة العقوبات، والتي وصلت إلى حد الغزو العسكري في بعض الأحيان، على غرار ما شهدته العراق، قبل عقدين، والذي أدى إلى حالة من الفوضى طويلة الأمد مازالت تداعياتها قائمة حتى اللحظة الراهنة.
مشاركة
اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
ولعل التغيير الكبير في المشهد الدولي مع صعود قوى قادرة، يمكنها تحقيق قدر كبير من التوازن الدولي، على غرار الصين، وروسيا، ساهم إلى حد كبير في تقوية "شوكة" المارقين، عبر التخفيف من حالة العزلة التي عانوا منها جراء سياسات الغرب تجاههم، وهو ما بدا على سبيل المثال في النموذج الإيراني، والذي تمكن بفضل دعم موسكو وبكين، من تحقيق انفتاح ملموس، في أعقاب الاتفاق النووي، والذي تم التوقيع عليه في 2015، وهو ما تراجع بصورة كبيرة مع الانسحاب الأمريكي منه، ويبدو كذلك في التعامل الأمريكي مع كوريا الشمالية إبان عهد الرئيس السابق دونالد ترامب، قبل أن تتدهور الأمور مجددا بعد وصول خليفته جو بايدن إلى عرش البيت الأبيض.
وبالنظر إلى النماذج المذكورة، نجد أن ثمة عدة مشتركات، أبرزها الارتباط بإرهاصات التحول الدولي نحو حقبة من التعددية، ناهيك عن صعود الدور الذي يمكن أن تلعبه القوى الإقليمية، وهو ما يبرر إلى حد كبير فشل الاتفاق النووي الإيراني في الصمود، في ظل إتمامه بعيدًا عن الجوار الإقليمي لطهران، بينما اعتمدت فيه واشنطن على القوى الدولية المؤثرة، عبر مشاركة الدول دائمة العضوية في مجلس الأمن، إلى جانب ألمانيا، في الوقت الذي تحفظت فيه دول الخليج عليه، مما دفع الرئيس الأمريكي الأسبق باراك أوباما لعقد قمة أمريكية خليجية في منتجع كامب ديفيد في 2015، في محاولة لإقناع زعماء المنطقة دون جدوى، وهو ما حرص ترامب في تفاديه، خلال الحوار الذي أجراه، بعد ذلك، مع كوريا الشمالية، عبر الحصول على مباركة اليابان وكوريا الجنوبية، بل وتحويلهم نحو القيام بقدر من "الوساطة"، فيما يتعلق بالتفاوض مع بيونج يانج، إلا أن الأمور ربما تراجعت جراء اختلاف أولويات الإدارة الحالية، ورغبتها في تقويض الإرث الذي تركه الرئيس السابق.
وهنا شهدت عملية الانفتاح على دول الأزمات، مراحل متباينة، أولها ما يمكننا تسميته بـ"التدويل المطلق" للأزمة، عبر الاعتماد الأمريكي على القوى الدولية المؤثرة، دون اعتبار كبير للأقاليم محل الأزمة، على غرار الاتفاق النووي الإيراني، بينما انطلقت بعد ذلك نحو "الأقلمة" الجزئية، عبر تصعيد حلفاء واشنطن من القوى الإقليمية، في المناطق الجغرافية للأزمة، للقيام بدور الوساطة، وهو ما يبدو في نموذج الحوار بين الولايات المتحدة وكوريا الشمالية.
ولكن على الرغم من تباينات النجاح والفشل في التعامل الدولي مع القضايا المذكورة، وارتباطها إلى حد كبير باختلاف الرؤى الأمريكية مع تغير الإدارات، إلا أنها ساهمت في إلقاء الضوء على الدور الذي يمكن للقوى الإقليمية القيام به، في إنهاء الأزمات المحيطة بها، بعيدا عن الاستئثار المطلق من قبل قوى واحدة بزمام القضايا الحساسة، في إطار النهج القائم على "التدويل"، والذي بقى مسيطرا على التعامل الدولي مع الأزمات خلال حقبة الهيمنة الأحادية، لتتحول نحو "الأقلمة" من خلال الاعتماد على القوى الرئيسية في كل منطقة، بحيث تكون وسيلة لدمج الدولة محل الأزمة في بيئتها الإقليمية، وبالتالي تكون منطلقا نحو دمجها مع المحيط الدولي برمته، في إطار من الوساطة الضمنية.
الدور الذى يمكن أن تلعبه القوى الإقليمية في حل الأزمات الكبيرة في مناطقها الجغرافية، عبر الانفتاح على "المارقين"، أو دول الصراعات، يساهم بصورة كبيرة في إخراجهم من حالة "العزلة" التي يعانون منها، بالإضافة إلى كونه طريقا لاحتواء التهديدات التي يمثلونها لدول الجوار، عبر الوصول إلى صيغ توافقية حول القضايا الخلافية، مما يساهم في إعادة تقديمهم للعالم مرة أخرى، بصورة مغايرة عن تلك التي صدرتها عنهم الولايات المتحدة وحلفائها لسنوات طويلة، وهو الأمر الذي يمكن تعزيزه عبر ظهور منافسين جدد لواشنطن على الساحة الدولية يمكنهم القيام بدور أكبر في القضايا العالمية، على غرار الصين وروسيا، وهو ما يساهم في زيادة رقعة الانفتاح التي تحظى بها تلك الدول.
النموذج الجديد في هذا الإطار، يبدو واضحا في التطورات التي تشهدها سوريا في الآونة الأخيرة، والذى يمثل صورة جديدة، أو بالأحرى مرحلة جديدة من مراحل التحول من "التدويل" إلى "الأقلمة"، حيث يعد أكثر تطورا من نموذجي طهران وبيونج يانج، عبر إعادة دمج دمشق في محيطها العربي، تزامنا مع بزوغ حالة من الاندماج الإقليمي، بين القوى المؤثرة (العربية وغير العربية) وهو ما يعكس التحرك الجماعي، بعيدا عن الفردية التي حاولت القوى الدولية المهيمنة إرسائها في التعامل مع الأزمات في الماضي، عبر فرض نفسها والقوى الدولية المؤثرة في العالم، كخيار وحيد للوساطة، بعيدا عن الجوار الإقليمي، في البداية (الاتفاق النووي الإيراني) أو عبر الاعتماد على حلفائها فقط بشكل فردى للقيام بهذا الدور (الحوار مع كوريا الشمالية)، وهو ما يبدو في قرار عودة دمشق إلى جامعة الدول العربية، بقرار حظى بإجماع عربي، جنبا إلى جنب مع الوصول إلى تفاهمات متزامنة بين الدول العربية، ومنافسيهم الإقليميين، مما يساهم في التخفيف من حدة الاستقطاب الذي تشهده مناطق الأزمات، والتي عانت منها منطقة الشرق الأوسط طيلة العقود الماضية.
وهنا يمكننا القول بأن اندماج سوريا في محيطها العربي يمثل مرحلة جديدة من مراحل التحول الدولي في التعامل مع مناطق الصراعات، من خلال تحقيق الاندماج الإقليمي، بصورة جماعية مع دولة الأزمة، لتنطلق بعد ذلك نحو الانفتاح مع العالم، وهو ما يمثل محاولة جديدة، في التعامل مع الصراعات ذات النطاق الإقليمي، خاصة وأن الاعتماد على قوى دولية واحدة ومن يدورون في فلكها، لم يحقق نجاحات كبيرة، على غرار المشاهد المذكورة والتي شهدت تراجعا كبيرا إثر التراجع الأمريكي.
مشاركة
الموضوعات المتعلقة