"خسرت كام في الذهب؟" سؤال يتردد داخل البيوت المصرية، على المقاهي، وفي أماكن العمل، عقب التراجع الكبير، والانهيار السريع، الذي صاحب هبوط المعدن الأصفر في مصر خلال الأسابيع القليلة الماضية، بعد حالة طلب غير مسبوقة ذهب معها الناس لبيع أصول وكسر ودائع وشهادات ادخار، وتصفية مشروعات ربحية وإنتاجية، كانت توفر فرص عمل للشباب، وتدر دخلاً معتبراً لأصحابها شهرياً أو سنوياً.
حذرت مرات عديدة وعبر مقالات ممتدة خلال الفترة الماضية من الهالة الزائفة التي خلقها المصريون حول الذهب، الذي كان يباع ويشترى بدولار غير موجود في السوق الرسمية أو الموازية، عند مستويات 50 و 52 جنيها للدولار الواحد، وهذا حمل في طياته مخاطر كبيرة، فلا يمكن أن يربح من يشتري بهذا السعر ، حتى لو كان يفكر على طريقة "الملاذ الآمن"، والعبارات الاقتصادية الكلاسيكية، التي نرددها للأسف دون فهم، وقد استغل التجار لهفة الآلاف، ربما الملايين لفكرة المكسب السريع، وباعوا ذهباً عند مستويات 3 آلاف جنيه للجرام الواحد، بينما السعر الرسمي نصف هذا الثمن تقريباً، فهذه المكاسب الخيالية جعلت الطمع في أوج قوته، وحركت لُعاب كل من يسعى نحو الثراء السريع والمكسب السهل، وهذه للأسف غاية كبرى لدى شريحة كبيرة من المصريين، فأغلبهم يعمل حتى لا يعمل!
شهية المستهلك للذهب تحركت بقوة بعدما صار الجرام الواحد يحقق أرباحاً من 300 إلى 400 جنيه يومياً، ويدر مكاسب لا تُصدق، لدرجة أن البعض باع أراض زراعية، وصفى مشروعات إنتاجية، ليضع أمواله في الذهب الباهت، والفقاعة الكبيرة التي خلقها أصحاب المصالح، ليتحول الجميع فجأة إلى تجارة الذهب، و المضاربة على أسعار المعدن الأصفر، ويتهافت في التخلص من مدخراته وأمواله لشراء تلك الجرامات البائسة، التي يتجمد معها الاقتصاد كما يتجمد الماء من تأثير الفريون، فمن يفهم أبجديات الاقتصاد لا يمكن أن يصفي أعماله ومصدر دخله من أجل تحويلها إلى جرامات لن تربح ولن تأت بخير.
على الصعيد العالمي يواجه المعدن الأصفر تهديدات كبيرة، فقد وصل إلى ذروته بمستويات أسعار قياسية 2053 دولاراً للأوقية، وحان الوقت لجني الأرباح والتصحيح لمستويات أقل، حتى هبط إلى مستويات 1955 دولاراً وتحرك منها صعوداً محدوداً حتى أغلقت الأسواق الجمعة الماضية عند مستوى 1979 دولاراً للأوقية التي تزن 31.1 جراماً تقريباً، وفي الوقت ذاته ينتظر الذهب أحداث مهمة قد تعصف به عصفاً، أولها الاتجاه نحو تثبيت أسعار الفائدة في أمريكا بصورة تدعم الاقتصاد، مع تراجع حدة التضخم، ليتراجع الذهب مع هذه الخطوة، ثم يعقب ذلك إجراءات البنك الفيدرالي الأمريكي نحو تخفيض أسعار الفائدة خلال فترة من عام إلى عام ونصف، جميعها لن تكون في مصلحة الذهب، الأمر الثاني يرتبط بالحرب الروسية الأوكرانية التي حال حدوث تهدئة أو الوصول إلى اتفاق سياسي واضح، هنا ستنفجر فقاعة الذهب، وتعود إلى مستويات 1500 إلى 1600 دولاراً للأوقية، بما يرجح جنوح الذهب إلى الاتجاه الهابط خلال الفترة المقبلة.
الغالبية العظمى من "المضحوك عليهم" في قضية حيازة الذهب اشتروا عند أعلى نقطة في الأسعار عقب إجازة عيد الفطر بدافع التحوط من تخفيض قيمة العملة المحلية، بما يعني أن أغلبهم تحمل خسائر ما بين 600 إلى 700 جنيه في الجرام الواحد، أي أن كل من اشترى 100 جرام ذهب حقق خسائر من 60 إلى 70 ألف جنيه، مع العلم أن هذه الفئة سوف تحتفظ بالخسائر لفترة طويلة نسبياً، فمكاسبهم مرتبطة فقط بأن يحقق الدولار طفرة بنسبة 100% أمام الجنيه المصري، لذلك ليس أمام هؤلاء إلا الانتظار ، أو البيع لوقف الخسائر من أجل استعادة مشروعاتهم الإنتاجية الزراعية أو الصناعية مرة أخرى.
" الخير الوحيد في هذا العالم هو المعرفة، والشر الوحيد هو الجهل" سقراط أشهر فلاسفة اليونان القديمة المولود عام 470 قبل الميلاد، ومن عبارته الشهيرة ندرك أن السمع وحده ليس كافياً لاتخاذ قرارات مصيرية بالبيع أو الشراء، ففي هذه الحالة سيكون السمع مرادفاً للخسارة، فمن بدد مدخراته أو أضاع ميراثه وتحويشة عمره، نتيجة سوء التقدير والتحوط الوهمي ليس إلا جاهل حركته دوافع الطمع.
قرار الحكومة للسماح بدخول الذهب من الخارج أجبر التجار للتسعير عند أرقام شبه عادلة للعملة الصعبة، لكن خطورة القرار أنه يقلص تحويلات المصريين في الخارج من العملة الصعبة، ويجمد حركة البيع والشراء لفترة ليست قصيرة، خاصة مع التجارب السيئة التي خاضها الملايين في خسائر غير محدودة نتيجة المتاجرة بالمعدن الأصفر، حتى وإن شهدت الأسعار انخفاضات جديدة عن مستوى 2200 للجرام عيار 21 في مصر، فالمستهلك سيفكر ألف مرة قبل الوقوع في فخ الشراء مرة أخرى.
من يرغب في حماية أمواله والحفاظ عليها ليس هناك إلا طريق واحد "الإنتاج" وإن كان بأي صورة وبأي طريقة، والعمل دون التعلل بالظروف أو المشكلات، فلا يمكن أن يخطط جميعنا للتقاعد دون أن نعمل ونتجاوز الفرص الحقيقية دون الاستعداد لها، لذلك لا يمكن بأي حال أن يتحول الناس جميعاً إلى تجار ذهب، فحينها يصبح بلا قيمة أو ثمن، ونصيحتي المخلصة لكل من وقعوا في الفخ أن يتعظوا ويعرفوا أن المكاسب السهلة تعقبها خسائر سهلة، فلو كانت الحياة تستقيم بهذه الطريقة لكنا جميعاً في صالات القمار.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة