هيثم الحاج على

الغراب الأبيض

الخميس، 25 مايو 2023 11:24 ص

مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء

يحكى أن غرابا كان يعيش في سربه من الغربان آمنا سعيدا، يطير معهم ويعود، يرى ما يرون ويفكر فيما يفكرون، وفي يوم قرر أن يجوب وحده الحقول، ويتأمل، فرأى ما لم يلاحظه من قبل، رأى أن هناك طيورا تنزل في الحقول وتقف آمنة مطمئنة، تنقر في أرضها وتأكل، ولا يهشها أو يطاردها واحد من الفلاحين، كما يفعلون مع أسراب الغربان، فكر كثيرا، وهداه تفكيره إلى أن الفارق الوحيد بين هذه الطيور وبين أقرانه من الغربان هو اللون، فهي بيضاء وهم سود، ففكر كثيرا، ماذا لو استطاع تغيير لونه إلى الأبيض ليشابه هذه الطيور، حينها بالتأكيد سيكون مرحبا به مثلهم، واهتدى إلى حيلة أن يدفن نفسه للحظات في جوال دقيق أبيض، فصار لونه أبيض، وبحيلة أخرى جعل هذا اللون ثابتا لا يتغير أو يصدر عنه غبار، ثم سارع إلى الانضمام إلى تلك الطيور التي تقف في الحقول، فلم يلاحظه أحد من الطيور أو الفلاحين، فتملكته سعادة بالغة لنجاح حيلته، وبدأ ينقر الأرض مثل أقرانه الجدد، غير أنه لاحظ أنهم يغنون فرادى حينا وجماعات حينا آخر، فقرر أن يفعل مثلهم ويغني، وعند غنائه انكشف، فصوته غريب عنهم، فما كان منهم إلا أن نقروه وطردوه من جماعتهم، فطار حزينا مكسورا وعاد إلى سربه الأول، وحاول الانضمام إليهم فطاردوه لأنهم لم يعرفوه، فقد صار أبيض وكلهم سود، فأصبح هذا الغراب الأبيض وحيدا لا إلى أولئك ولا إلى هؤلاء.

كلما أتذكر حكاية الغراب الأبيض يلوح أمامي صورة أبنائنا الذين نصر لأسباب كثيرة أن نعلمهم في مدارس ذات صبغة أجنبية، أو نتركهم أسرى لثقافات غريبة عنهم وعنا، فنخلق منهم غربانا بيض لا يستطيعون التواؤم مع جذورهم وأصولهم، يصيرون بيننا لكنهم يتمنون الهجرة فعليا أو عقليا إلى تلك المجتمعات التي تربوا على ثقافتها، فينفصلون تماما عن واقعهم، بل إنهم يشعرون نحوه بالرفض وأحيانا بالدونية، وحتى إذا نجح واحد منهم في تحقيق أمنيته بالانقطاع عن أصله والهجرة إلى ذلك البعيد، فإنه يصبح مثل هذا الغراب الذي وقف بين الطيور صامتا، وحين يحاول أن يستكمل أشكال حياته، يفاجأ بأنه مرفوض في أغلب الأحوال، وإذا رجع يظل مربوطا بأواصر غربة مستديمة سواء هنا أو هناك.

إن الأزمة أسبابها واضحة ونتائجها تتراكم حينا بعد حين، وهي ليست مجرد قضية نوعية تعليم بقدر ما هي إشكالية هوية يجب علينا أن ننتبه إلى مكوناتها، وإلى جذور الوعي التي نغرسها في أولادنا كي يكونوا قادرين على رؤية أنفسهم والعالم من حولهم بصورة سوية.

 وللأمر جوانب أخرى عديدة.







مشاركة






الرجوع الى أعلى الصفحة