أكرم القصاص - علا الشافعي

حازم حسين

التعليم والسكان فى الحوار الوطنى.. حديث عن التنمية وترويض "غول الإنجاب"

الأحد، 28 مايو 2023 12:52 م

مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء

ما كان ثروة قديمًا أصبح عبئًا حقيقيًّا، ولا معنى للقفز على الحقائق أو تجميل الصورة القاسية. الانفلات السكانى ليس ميزة على الإطلاق، تلك صيغة كانت صالحة للبقاء فى سياقات ماضوية استندت لفائض القوة العضلية وأثره فى الإنتاج والوفرة، وبعدما تحول العالم إلى عصر الآلة ثم طفرات الرقمنة، لم تعد الكثافة البشرية معيارًا للتفوّق واستدامة قدرات الدول. حتى فى الاقتصادات الكبرى لا حديث عن ضرورة الحشد المفتوح، بل إن مسيرة بعضها قد يُعطّلها الجسد المُثقل بأعضاء رخوة، كما فى تجربة الهند مثلاً. والحالة المصرية تقع فى القلب من أى طرح لمسألة اختلال مُعادلات السكان، بالنظر إلى تضخُّم مُفرط فى الأعداد، وعجز واضح عن مواكبته اقتصاديًّا، وانعكاس ذلك على الخريطة الديموغرافية والخصائص السكانية. إذا طرحنا أى قضية إشكالية فى السياسة والهوية والاجتماع والاقتصاد فلن نقطع كثيرًا من الخطى نحو الكيف قبل الاصطدام بملف الكمّ. مصر تختنق بالبشر، حقيقة لا يمكن الفكاك منها، حتى لو سلك البعض طريقًا آخر فى توصيف الواقع، أو اتخذه مدخلاً لنفاق الشارع أو المزايدة على منظومة الإدارة.

حسنًا فعل الحوار الوطنى بإثارة القضية بالتوازى مع التعليم، وهو تجاور حميد؛ حتى لو لم يكن مقصودًا. يرتبط الأمران فى دائرة طردية شبه مغلقة: كل تراجع فى جانب يسحب الثانى للوراء، وإذا عكسنا المسار يمكن أن يصب كل منهما فى إصلاح الآخر. أكبر مشاكل التعليم منبعها الطلب المُنفلت وما يُولّده من ضغوط، وتراجعه يُفاقم مشكلات الإنجاب بفعل قصور الوعى والتثقيف وزيادة الزواج المبكر وترسيخ عادات واعتقادات بالية ومنزوعة من سياق لا يُناسب العصر. اقتنص المحور المجتمعى قرابة خُمسى الاقتراحات، ذهبت 11% منها لملف السكان بما يوازى 4% وزنًا نسبيًّا بين 113 قضية بالمحاور الثلاثة، وقد شهدت جلستا الخميس المُخصّصتان للموضوع إقبالاً حاشدًا على المشاركة من جهات رسمية وقوى سياسية ومجتمع مدنى وخبراء. كل الإشارات تؤكد أهمية القضية واستيعاب الجميع لخطورتها؛ لكن ترجمة ذلك على الأرض أقل من مجموع الإرادات المُتوافقة، ما يُشير إلى تعقيدات ربما تتجاوز مسائل التشخيص والتماس القصور لدى المُؤسَّسات المعنيّة، ويفرض اجتراح مسارات غير تقليدية فى النظر للتحدّى وبحث إمكانات تفكيكه.

استوفت الموازنة شرط الدستور لمخصّصات الصحة والتعليم والبحث العلمى. يُفترض أن تكون 10% من الناتج، وبحسب أرقام 2020 بلغت 865.5 مليار جنيه من 7.9 تريليون بنسبة 11% تقريبًا. رغم ذلك ما تزال وتيرة القطاعات الثلاثة بطيئة بالنظر لعمالة تُقارب 3 ملايين يلتهمون أغلب المُخصّصات، نحو 75% فى التعليم نموذجًا، فضلاً عن نفقات التشغيل، لتتقلّص مُخصّصات الاستثمار المُوجّهة للإتاحة والتطوير. نحو 29 مليون طالب فى كل المراحل، و57 ألف مدرسة ومئات الكليات والمعاهد كلها مُتخمة بالدارسين، ونحتاج 28 ألف فصل كل عام بـ14 مليار جنيه قبل قفزات سعر الصرف، وحتى مع تدبيرها فإننا نحاصر زيادة الكثافة لا نتراجع بها، انطلاقًا من تراكمات هيكلية صاعدة عبر السنوات، كما فى أعباء البطالة القائمة مع حاجة سنوية لمليون وظيفة، وإذا كان متوسّط خلق الفرصة 30 ألف دولار فالمطلوب 30 مليارًا، وإذا كان مُعدل زيادة السكان قرب 1.7 فإننا مُجبرون على تحقيق نمو اقتصادى مُستقر يتجاوز 5% بالأدنى؛ لإبقاء المُؤشّرات غير المثالية على حالها، أما التعافى والتصحيح والسير نحو الرفاه فتفرض مستويات أعلى، قد يصعب تحقيقها للأسف مع 2.1 مليون مولود سنويًّا، لا يمنحون الموارد الشحيحة أى فرصة وصول إلى فوائض وتوظيفها فى مسارات استثمار وتنمية وعدالة مع الخريطة السكنية. رغم كل الجهود المُنجزة بالسنوات الأخيرة؛ فإن "غول الإنجاب" أكثر شراهة ولا يُبقى يابسًا أو أخضر.

يُسوّق فريق حَسن النيّة دائمًا للتطبيع مع الأزمة، بترك تفرّعاتها والحديث عن "شباب المجتمع"، انطلاقًا من اتساع قاعدة الهرم بالقياس إلى مُتوسّطى وكبار العمر. ربما تكون تلك ميزة فعلاً، لكن فى ظروف طبيعية وبمستويات معقولة. قوة العمل الحالية عند 30%، والفئات من 22 سنة فأقل يقاربون 52%، وبإضافة المُتعطّلين والمُسنّين وربّات البيوت تقفز مُعدّلات الإعالة، وتتراجع قدرات الإنفاق ومستويات المعيشة، ووتيرة التحوّل الديموغرافى وانحلال التراكم الرأسى إلى تمدُّد أُفقى مُنتج. تلك الصيغة تجعل مسألة السكان قيدًا خانقًا للبيوت، بقدر ضغطها على الدولة ومواردها وإنفاقها العام. وصل نصيب الفرد لنحو 300 متر مربع من الرقعة الزراعية و500 متر مكعب من المياه. النزول بمعدل الخصوبة من 2.9 حاليًا إلى 1.6 يمكن أن يُقلّص الزيادة 7 ملايين بالعقد المقبل، ما يُبطئ إهدار الموارد وتآكل فرص الحياة الجيدة لبقيّة المواليد. بين 1920 و1940 زادت مصر 3.6 مليون، ثمّ قفزت 16.7 مليون بين 1960 و1980، ومُتوقع أن تسجّل بين 2020 و2040 نحو 36 مليونًا. لا يمكن أن تستمر الأمور بتلك المُعادلة الطائشة.

جزء من مُعضلة السكان لدى الدولة، وأجزاء عند المجتمع، أفرادًا ونُخبًا ومُنظّمات مدنية. كلما جلس الجميع معًا يخرجون مُتفقين على خطورة الملف وأهمية الجدية والتكاتف؛ لكن المواقف الأوّلية الناضجة لا تُترجم دائمًا إلى برامج وخطوات عملية. الأحزاب لا تشتغل على القضية ولا تضعها بين أولويات نشاطها، ورجال الدين لا يُطوّرون خطابهم ولا يتوقّفون عن استدعاء "تناسلوا فإنى مُباهٍ بكم الأُمم"، والجمعيات الأهلية لا تلعب دورًا ملموسًا فى التوعية أو إتاحة خدمات التنظيم والصحة الإنجابية. كل الأطراف مُتفقون على غاية ضبط الإنجاب وترشيد الزيادة، لكنهم لا يجتهدون فى أن يكونوا جزءًا فاعلاً فى مسيرة تحقيقها. أول الحلول أن تُفكّك كُتلة الجليد الضخمة ويأخذ الجميع أنصبتهم، بمسؤوليات واضحة والتزامات لا تهاون فيها؛ إن كنا نتفق فعلاً على أنها مسألة وجودية مُلحّة للوطن بكامله.

يحتاج التعليم أموالاً طائلة قد لا نكون فى وارد توفيرها حاليًا أو فى مدى قريب؛ لكن ذلك لا يعنى التقاعس عن بحث التطوير ورسم الطريق إليه. يبدأ الأمر من هيكلة المنظومة وحوكمتها وتقييم الموارد البشرية وتقويمها، وتطوير المناهج والتدريس، وتعديل قانون المهن التعليمية، والتوسُّع فى الاستثمار لرفع الإتاحة ونوعية الخدمات، والتصدى الحاسم للدروس الخصوصية، وزيادة أعداد المعلّمين وتأهيلهم وفق أُطر مُستحدثة، وتطوير الأكاديمية المهنية للمُعلّمين بالاستفادة بتجربة الأكاديمية الوطنية للتدريب أو بربطها معها. دمج احتياجات سوق العمل عضويًّا مع الرؤية الجديدة والتوسُّع فى شراكة القطاع الصناعى أمر بالغ الأهمية، ويُعيد الاعتبار للتعليم الفنى؛ لكن يتعيّن العمل بالتوازى على تغيير نظرة المجتمع له.. ما يزال كثيرون يرونه مستوى أدنى، وقد لا يكون فى مقدور خرّيجيه إلحاق أبنائهم ببعض المدارس التى تجرى مقابلات لياقة اجتماعية لأولياء الأمور. علينا أن نكون أكثر صراحة، وأن نسد أبواب التمييز والفرز الطبقى، ونُخضع كل المؤسَّسات التعليمية لأكواد صارمة فى علاقتها بالدولة وهويّتها ونظامها العام، وبطالبى الخدمة أيضًا.. وبعد إنجاز كل هذا وغيره من اقتراحات، لا حلّ جذريًّا إلا من بوّابة السكان، وبتصفير أزمة الانفجار البشرى أو إيصالها لتعادلٍ يكفل العبور الآمن.

ألقى الدستور التزامًا جادًّا على الدولة، فرسمت المادة 41 طريقًا يبدأ ببرنامج سكّانى يكفل التوازن بين الرغبة والقدرة، ويربط الزيادة بالموارد وتحسين الخصائص، وصولاً إلى التنمية المستدامة. تُرجم ذلك سريعًا لخطة مُحكمة عبر "الاستراتيجية القومية للسكان 2015/ 2030"؛ لكن بعد انتصاف مداها الزمنى تبدو الأمور على حالها. تضيق قدرات المجلس القومى للسكان تحت عباءة وزارة الصحة، ويتوزّع الجهد بين أوراق 2015 وما يُعرف بـ"الاستراتيجية المنضبطة" فى 2017 ثم "المشروع القومى لتنمية الأسرة 2021/ 2023". ثمّة ارتباك إدارى ومجتمعى فى تنظيم الحركة باتجاه الغاية المُشتركة، وما تحقّق للآن على محاور تطوير العشوائيات والقرى وتمكين المرأة وتحسين معيشة الفئات الأولى بالرعاية يرتبط بجهد ومُتابعة رئاسيّين، أكثر منه برمجة تنفيذية مُنضبطة لدى الحكومة. أمّا أصعب المعوقات فتتمثّل فى غياب البيانات أو قصورها؛ إذ نبدو دائمًا مُتأخرين خطوة، ونقف أمام الراهن بمعلومات قديمة، أما أرقام الآن فقد لا تُتاح بدقة واكتمال قبل سنتين أو أكثر، بينما يكون الوضع قد تغيّر واتخذت المشكلة أبعادًا أشد وطأة.. مصر الأولى عربيًّا والثالثة أفريقيًّا والرابعة عشرة عالميًّا فى التعداد؛ لكننا لا نشغل المواقع نفسها فى الجغرافيا والموارد والقدرات الاقتصادية، وما لم نكسر الطوق ونغادر الدائرة المفرغة، قد نجد أنفسنا أمام عُقدة عصيّة على الحلّ فى غضون عقدين أو ثلاثة.

لدينا وفرة إنتاج وسوء توزيع، ليس من ناحية الانتشار وتوازن الكثافة والخريطة الديموغرافية فقط، إنما على صعيد النوعيّة أيضًا. لا يمكن الهروب من حقيقة أن الخصائص السكانية القائمة لا تسمح بترجمة كل هذا الفائض إلى ثروة أو ذخيرة تنموية، فالأثقال المُرهقة أضرّت بحالة الخدمات وعطّلت امتلاك مزايا نسبية تخص التركيب العمرى أو التوزيع الجغرافى والتنوّع المعرفى والمهنى، وفاقمت مشكلة الهجرة الداخلية غير المُخطّطة. هرم السكان لا يبدو مُتوازنًا مع قاعدة مُتضخّمة تستنزف الدخل، بمعدّلات إعالة مرتفعة وطلب كثيف على الأساسيات، وأمام هذا تتضاءل إمكانية تصدير فوائض قوة العمل، وتضيق طاقة السوق عن استيعابها. ما طُرح من حلول فى "الحوار" مُهم، سواء الحاجة لتشريعات صارمة للزواج المبكر وعمالة الأطفال، أو ترقية الاهتمام بتمكين المرأة وتجفيف التسرُّب من التعليم، وإتاحة خدمات الصحة الإنجابية المجانية بوفرة. يُمكن أن نتحدّث أيضًا عن صيغة مُتوازنة بين الحوافز الوقتية غير المُؤجّلة والقيود الجادة غير الخانقة، وتغيير الصورة السلبية عن خطاب "تنظيم النسل" من اللغة حتى الآليات، وإعادة بناء استراتيجية إعلامية تنفض التناقض بين المأمول وما يتسرّب من مفاهيم وصور تُغذّى السائد، خصوصًا فى الدراما. كل هذا جميل وضرورى، لكن لا بديل عن دق ناقوس الخطر، وإعلان خطّة طوارئ صارمة، وأن نكون واضحين بشأن شراكة كل الأطراف فى الغُرم أو المغنم، بمعنى ربط المسارات ببعضها وتأكيد أن أى تأخُّر للتنمية ينبع من تطور مُشكلة السكان، والعكس بالعكس، وأن المطالب الاجتماعية يجب أن تترافق معها التزامات. حتى لو قصّرت الدولة طوال ستة عقود، ولو كانت مُطالبة الآن بالجهد الأكبر، فإن ذلك لا يعنى أن الإقلاع من محطّة الأزمة واجبها وحدها، أو أن المجتمع برىء ولا إثم عليه.. يجب أن يعى كل فرد أن الكُلفة باهظة، وسنتشارك فيها مُجبرين، وأن نصل إلى صيغ عاقلة ومُتدرّجة للتنظيم وتوزيع الأعباء حتى يستشعر الجميع الجدية. التعليم سؤال مفتوح إجابته النهائية فى عيادات المرأة وأقسام الولادة بالمستشفيات، وبقيّة الملفات كذلك، ولا مخرج من المحنة إلا بترويض "غول الإنجاب"، إمَّا وفاقًا أو بصرامة يضبطها القانون.










مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
لا توجد تعليقات على الخبر
اضف تعليق

تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة





الرجوع الى أعلى الصفحة