فتح الشيخ سيد درويش قلبه للشاعر بيرم التونسى فى أول لقاء بينهما، الذى جاء بعد فترة استمرت لشهور كان بيرم يهاجمه خلالها بقسوة فى مقالات نشرها على صفحات جريدته «الشباب» الأسبوعية، ووصل فى هجومه حد أن اتهمه بسرقة الألحان التى يقدمها لفرقة الريحانى، حسبما يذكر بيرم فى مقاله «سيد درويش» المنشور بجريدة «الزمان» التونسية، يوم 2 مايو 1933، حيث كان منفيا وقتئذ فى تونس، واستهدف منه إعادة تقديم الشيخ سيد درويش بعد أن لمس إهمالا من التونسيين، وينشر الدكتور محمد صالح الجابرى هذا المقال النادر فى الجزء الثانى من مجلد «محمود بيرم التونسى فى المنفى- آثاره وأعماله»، «راجع، ذات يوم، 2 مايو 2023».
يذكر بيرم فى مقاله، أنه لما جاء حديث السرقة التى كنت أتهمه بها، قال لى: «هذا جوق الريحانى ولا أخالك تجهل أنه عبارة عن عصابة شوام، تجمع عشرات الألوف من الجنيهات من جيوب المصريين بأبسط الوسائل، ولا أخالك تجهل أن فى مدينتنا الإسكندرية طائفة من الأناشيد هى فى ذاتها ثروة فنية لو وضعت فى محلها، تسمع الفقهاء الذين يشيعون الجنازة ينشدون البردة أمام الميت من لحن «السيكة» أو «الصبا» بنغمة مفرحة لا تتفق مع هيبة الجنازة، وتعرف أن العوالم «وهن المنشدات فى حفلات الزفاف» يشيعن العروسين إلى حجرتهما بلحن يشم منه التهكم والتمسخر، أكثر من أن يسمع منه الفرح والابتهاج».
يضيف بيرم: «ذكر لى السيد أمثلة أخرى من هذه الأناشيد ثم قال: وهذه الذخيرة الطيبة التى علقت بالذاكرة ظلت محفوظة إلى أن جاء وقتها.. طلب الريحانى لحنا لزفاف «كشكش بك» وهو عائد من سفر أوغيبة، فلم أر أنسب من بردتنا التى ننشدها أمام الموتى وطبقناها على قولهم: «ألفين حمد الله على سلامتك/ ياسى كشكش هيص أدى وقتك»، وعلى هذا المثال كانت معظم البضاعة التى نقدمها للريحانى، وهو عمل يتفق عمله مع المصريين، على أن هذه الألحان حلت فى المحل اللائق بها وانتفع بها العباد».
انتهى الشيخ سيد من توضيحه وتفنيده لاتهامات بيرم له بسرقة الألحان، ويعلق بيرم فى مقاله: «أتيحت لى الفرصة لدراسة هذا العبقرى الكبير، فقد كان الكون كله عند السيد لحنا يؤلفه بما فيه من ضجة، وهدير، وتغريد، وبكاء، وضحك، ووعد، وكانت أذنه دليله الخرتيت الذى يدله على حقائق الأمور وبواطنها، يستمع لكل صوت ويفسره أصدق تفسير، ويصغى لحديث محدثه ومن نبرات صوته يفهم مقصده وحالته، وما يخفيه، وما يعلنه، يسمع وسوسة الأساور فى معصم الحسناء، ويترجمها إلى لغة اللسان، ويسمع قطرة الماء فى الحوض فيبين عما فيها من بيان».
ينتقل بيرم إلى أول حب فى حياة الشيخ وتأثيره الفنى عليه، قائلا: «كان فؤاد الشيخ سيد مرتعا خصبا للحب، بل أتونا حارا للحب المخلوق لأجله كل فنان، ويروى حادثة الحب الأول فيقول: دعيت للغناء فى عرس وأنا بالملابس العربية، واعتليت التخت فإذا بى قريب من «بلكون» يجلس فيه بعض السيدات والأولاد، فخرق أذنى صوت امرأة يقول: دول ياختى جايبين لنا فقى الليلة ولا الداهية إيه؟ فما أتممت الدور الأول وكان: «يا اللى قوامك يعجبنى» حتى جاءنى طلب صريح بالمقابلة داخل الحريم، وكانت الداعية غانية أهلكت الكثيرين من العمد والتجار والموسورين فى مصر بما لها من جمال، ودهاء، وقوة جاذبة، وحادثة هذا الحب مشهورة».
يضيف بيرم: «تزوج السيد خمس مرات، الواحدة بعد الأخرى، ومن فكاهاته التى تذكر أنه استلم إنذار حضور أمام المحكمة الشرعية من إحدى مطلقاته، والإنذار عادة يكتب على الصيغة الآتية: «نكلف المدعو سيد الدرويش الساكن بحى السيدة زينب بالحضور فى يوم- التاريخ- أمام المحكمة الشرعية الكائنة- المكان..إلخ»، وكان فى جماعة من أصحابه عند استلام هذا الإنذار، فكان أن قرأه لحنا مرتجلا يحفظه معظم أصدقائه إلى اليوم».
يذكر بيرم: «هذه بعض أوصاف هذا الفنان العظيم، صاحب النفس المرحة اللاعبة والذوق الرفيع، أما فنه وموسيقاه فلا نعرف أحدا تقدمه فيما ابتكر، ولم يظهر تدريجيا كغيره من أصحاب المواهب، وإنما سطع على الناس بدرا كاملا يبهر الأنظار، وكان أول إنتاجه الأدوار والتواشيح والطقاطيق كغيره من الملحنين، فلما احتاجت المسارح للموسيقى وجدت فى السيد منبعا فياضا أمدها بكل حاجتها، ولم تسجل له الأسطوانة من ألحانه المسرحية إلا القليل، كافتتاح رواية «العشرة الطيبة» المعروف بمطلعه: «على قد الليل ما يطول/ مسترضى بسهرى ونوحى».
يذكر بيرم فى الجزء الأخير من مقاله تقييمه للشيخ سيد درويش كملحن.. فماذا قال فيه؟
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة