توفى الإمام أحمد بن حنبل، فى سنة 241 هجرية، وهو أحد كبار العلماء فى تاريخ الفقه الإسلامي، وصاحب مسند أحمد، أحمد الكتاب الصحاح فى السنة النبوية، وصاحب المذهب الحنبلي، وقد عانى الإمام فى عهد المعتصم بسبب محنة خلق القرآن.
يقول كتاب البداية والنهاية للحافظ بن كثير تحت عنوان:
ذكر ضربه رضي الله عنه بين يدي المعتصم
لما أحضره المعتصم من السجن زاد في قيوده، قال أحمد: فلم أستطع أن أمشي بها فربطتها في التكة وحملتها بيدي، ثم جاؤني بدابة فحملت عليها فكدت أن أسقط على وجهي من ثقل القيود، وليس معي أحد يمسكني، فسلم الله حتى جئنا دار المعتصم، فأدخلت في بيت وأغلق عليَّ وليس عندي سراج، فأردت الوضوء فمددت يدي فإذا إناء فيه ماء فتوضأت منه، ثم قمت ولا أعرف القبلة، فلما أصبحت إذ أنا على القبلة و لله الحمد.
ثم دعيت فأدخلت على المعتصم، فلما نظر إلي وعنده ابن أبي دؤاد قال: أليس قد زعمتم أنه حدث السن وهذا شيخ مكهل؟
فلما دنوت منه وسلمت قال لي: ادنه، فلم يزل يدنيني حتى قربت منه، ثم قال: اجلس ! فجلست وقد أثقلني الحديد، فمكثت ساعة ثم قلت: يا أمير المؤمنين إلى م دعا إليه ابن عمك رسول الله ﷺ؟
قال: إلى شهادة أن لا إله إلا الله.
قلت: فإني أشهد أن لا إله إلا الله.
قال: ثم ذكرت له حديث ابن عباس في وفد عبد القيس ثم قلت: فهذا الذي دعا إليه رسول الله ﷺ.
قال: ثم تكلم ابن أبي دؤاد بكلام لم أفهمه، وذلك أني لم أتفقه كلامه، ثم قال المعتصم: لولا أنك كنت في يد من قبلي لم أتعرض إليك.
ثم قال: يا عبد الرحمن ! ألم آمرك أن ترفع المحنة؟
قال أحمد: فقلت: الله أكبر، هذا فرج المسلمين.
ثم قال ناظره: يا عبد الرحمن، كلمه.
فقال لي عبد الرحمن: ما تقول في القرآن؟ فلم أجبه.
فقال المعتصم: أجبه.
فقلت: ما تقول في العلم؟ فسكت.
فقلت: القرآن من علم الله، ومن زعم أن علم الله مخلوق فقد كفر بالله. فسكت.
فقالوا فيما بينهم: يا أمير المؤمنين ! كفَّرك وكفَّرنا. فلم يلتفت إلى ذلك.
فقال عبد الرحمن: كان الله ولا قرآن.
فقلت: كان الله ولا علم؟ فسكت.
فجعلوا يتكلمون من ههنا وههنا، فقلت: يا أمير المؤمنين ! أعطوني شيئا من كتاب الله أو سنة رسوله حتى أقول به.
فقال ابن أبي دؤاد: وأنت لا تقول إلا بهذا وهذا؟
فقلت: وهل يقوم الإسلام إلا بهما.
وجرت مناظرات طويلة، واحتجوا عليه بقوله: { مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ } [الأنبياء: 2] .
وبقوله: { اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ } [الرعد: 16] .
وأجاب بما حاصله أنه عام مخصوص بقوله: { تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا } [الأحقاف: 25] .
فقال ابن أبي دؤاد: هو والله يا أمير المؤمنين ضالٌ مضلٌ مبتدعٌ، وهنا قضاتك والفقهاء فسلهم.
فقال لهم: ما تقولون؟
فأجابوا بمثل ما قال ابن أبي دؤاد، ثم أحضروه في اليوم الثاني وناظروه أيضا، ثم في اليوم الثالث، وفي ذلك كله يعلو صوته عليهم، وتغلب حجته حججهم.
قال: فإذا سكتوا فتح الكلام عليهم ابن أبي دؤاد، وكان من أجهلهم بالعلم والكلام، وقد تنوعت بهم المسائل في المجادلة ولا علم لهم بالنقل، فجعلوا ينكرون الآثار ويردون الاحتجاج بها، وسمعت منهم مقالات لم أكن أظن أن أحدا يقولها، وقد تكلم معي ابن غوث بكلام طويل ذكر فيه الجسم وغيره بما لا فائدة فيه، فقلت: لا أدري ما تقول، إلا أني أعلم أن الله أحد صمد، وليس كمثله شيء، فسكت عني.
وقد أوردت لهم حديث الرؤية في الدار الآخرة، فحاولوا أن يضعفوا إسناده ويلفقوا عن بعض المحدثين كلاما يتسلقون به إلى الطعن فيه، وهيهات، وأنى لهم التناوش من مكان بعيد؟
وفي غبون ذلك كله يتلطف به الخليفة ويقول: يا أحمد ! أجبني إلى هذا حتى أجعلك من خاصتي وممن يطأ بساطي.
فأقول: يا أمير المؤمنين ! يأتوني بآية من كتاب الله أو سنة عن رسول الله ﷺحتى أجيبهم إليها.
واحتج أحمد عليهم حين أنكروا الآثار بقوله تعالى: { يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ وَلَا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئا } [مريم: 42] .
وبقوله: { وكلم الله موسى تكليما } [النساء: 164] .
وبقوله: { إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي } [طه: 14] .
وبقوله: { إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ } [النحل: 40] .
ونحو ذلك من الآيات. فلما لم يقم لهم معه حجة عدلوا إلى استعمال جاه الخليفة، فقالوا: يا أمير المؤمنين! هذا كافر ضال مضل.
وقال له إسحاق بن إبراهيم نائب بغداد: يا أمير المؤمنين ! ليس من تدبير الخلافة أن تخلي سبيله ويغلب خليفتين.
فعند ذلك حمى واشتد غضبه، وكان ألينهم عريكة، وهو يظن أنهم على شيء.
قال أحمد: فعند ذلك قال لي: لعنك الله، طمعت فيك أن تجيبني فلم تجبني.
ثم قال: خذوه واخلعوه واسحبوه.
قال أحمد: فأخذت وسحبت وخلعت وجيء بالعاقبين والسياط وأنا أنظر، وكان معي شعرات من شعر النبي ﷺ مصرورة في ثوبي، فجردوني منه وصرت بين العقابين.
فقلت: يا أمير المؤمنين ! الله الله، إن رسول الله ﷺقال: «لا يحل دم امرئ مسلم يشهد أن لا إله إلا الله إلا بإحدى ثلاث». وتلوت الحديث.
وأن رسول الله ﷺ قال: «أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله، فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم»: فبم تستحل دمي، ولم آت شيئا من هذا؟ يا أمير المؤمنين ! اذكر وقوفك بين الله كوقوفي بين يديك، فكأنه أمسك.
ثم يزالوا يقولون له: يا أمير المؤمنين ! إنه ضال مضل كافر.
فأمر بي فقمت بين العقابين وجيء بكرسي فأقمت عليه، وأمرني بعضهم أن آخذ بيدي بأي الخشبتين فلم أفهم، فتخلعت يداي وجيء بالضرابين ومعهم السياط فجعل أحدهم يضربني سوطين ويقول له - يعني المعتصم -: شد قطع الله يديك.
ويجيء الآخر فيضربني سوطين، ثم الآخر كذلك فضربني أسواطا فأغمي عليَّ وذهب عقلي مرارا، فإذا سكن الضرب يعود عليَّ عقلي، وقام المعتصم إلي يدعوني إلى قولهم فلم أجبه، وجعلوا يقولون: ويحك ! الخليفة على رأسك، فلم أقبل وأعادوا الضرب ثم عاد إلي فلم أجبه، فأعادوا الضرب ثم جاء إلي الثالثة، فدعاني فلم أعقل ما قال من شدة الضرب، ثم أعادوا الضرب فذهب عقلي فلم أحس بالضرب وأرعبه ذلك من أمري وأمر بي فأطلقت ولم أشعر إلا وأنا في حجرة من بيت، وقد أطلقت الأقياد من رجلي، وكان ذلك في اليوم الخامس والعشرين من رمضان من سنة إحدى وعشرين ومائتين، ثم أمر الخليفة بإطلاقه إلى أهله، وكان جملة ما ضرب نيفا وثلاثين سوطا، وقيل: ثمانين سوطا، لكن كان ضربا مبرحا شديدا جدا.
وقد كان الإمام أحمد رجلا رقيقا أسمر اللون، كثير التواضع، رحمه الله.
ولما حمل من دار الخلافة إلى دار إسحاق بن إبراهيم وهو صائم، أتوه بسويق ليفطر من الضعف فامتنع من ذلك وأتم صومه، وحين حضرت صلاة الظهر صلى معهم فقال له ابن سماعة القاضي: وصليت في دمك !
فقال له أحمد: قد صلى عمر وجرحه يثعب دما، فسكت.
ويروى أنه لما أقيم ليضرب انقطعت تكة سراويله فخشي أن يسقط سراويله فتكشف عورته فحرك شفتيه فدعا لله فعاد سراويله كما كان.
ويروى أنه قال: يا غياث المستغيثين، يا إله العالمين، إن كنت تعلم أني قائم لك بحق فلا تهتك لي عورة.
ولما رجع إلى منزله جاءه الجرايحي فقطع لحما ميتا من جسده وجعل يداويه والنائب في كل وقت يسأل عنه، وذلك أن المعتصم ندم على ما كان منه إلى أحمد ندما كثيرا، وجعل يسأل النائب عنه والنائب يستعلم خبره، فلما عوفي فرح المعتصم والمسلمون بذلك، ولما شفاه الله بالعافية بقي مدة وإبهاماه يؤذيهما البرد، وجعل كل من آذاه في حل إلا أهل البدعة، وكان يتلو في ذلك قوله تعالى: { وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا } [النور: 22] الآية.
ويقول: ماذا ينفعك أن يعذب أخوك المسلم بسببك؟ وقد قال تعالى: "فمن عفا وأصلح فأجره على الله إنه لا يحب الظالمين" (الشورى: 40) .
وينادي المنادي يوم القيامة: «ليقم من أجره على الله فلا يقوم إلا من عفا»، وفي صحيح مسلم، عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله ﷺ: «ثلاث أقسم عليهن: ما نقص مال من صدقة، وما زاد الله عبدا بعفو إلا عزا، ومن تواضع لله رفعه الله».
وكان الذين ثبتوا على الفتنة فلم يجيبوا بالكلية أربعة: أحمد بن حنبل وهو رئيسهم، ومحمد بن نوح بن ميمون الجنديسابوري ومات في الطريق، ونعيم بن حماد الخزاعي، وقد مات في السجن، وأبو يعقوب البويطي، وقد مات في سجن الواثق على القول بخلق القرآن، وكان مثقلا بالحديد، وأحمد بن نصر الخزاعي وقد ذكرنا كيفية مقتله.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة