هناك تحولات كمية تظهر فى الأفق تجاه مواقف عربية وتقاربات تمثل تغييرا فى التعامل مع الأزمات، خاصة أن العالم لم يكف عن التغير والتحول على مدى عقود، لكنه بعد سلسلة من الأزمات يبدو بحاجة إلى هدنة أو راحة يلتقط فيها الأنفاس بعد سنوات من الصدمات، بدءا من فيروس كورونا الذى ظهر وأربك العالم على مدى أكثر من عامين، قبل أن ينقشع ويترك أسئلة وألغازا وأزمات فى سلاسل النقل، أو الاقتصاد العالمى.
وقبل أن يلتقط العالم أنفاسه، اشتعلت الحرب الروسية الأوكرانية، التى تجاوزت الدولتين لتتحول إلى صراع بين روسيا والغرب، تاركة انعكاسات على الاقتصاد فى دول العالم، وأزمات تتفاعل وتترك آثارها على كل دول العالم بدرجات مختلفة، وهى أزمة لا يبدو لها أفق واضح، بجانب أنها أثارت صراعا على أبواب أوروبا، فقد خلقت استقطابا سياسيا واقتصاديا تبدو دول العالم وتحالفاته راغبة فى الابتعاد عن الأقطاب، خاصة أن كل الدول تسعى إلى البناء وتعويض خسائر حرب لم تكن فى حسبان كثيرين.
والواقع أن التحولات والتفاعلات لم تتوقف فى السياسة الدولية منذ نهاية الحرب الباردة، ارتباطا بالمصالح والمنافسات الاقتصادية والتجارية، التى تضع الدول الكبرى فى حالة دفاع وهجوم متبادل، يجعلها أكثر انشغالا بمصالحها واستراتيجياتها عن أى تدخل آخر فى القضايا الإقليمية، وهو وضع يحتم على التجمعات الإقليمية أن تسعى لتقوية وجودها والسعى لحل أزماتها بعيدا عن الاستقطابات والتجاذبات التى أثبتت التجارب التاريخية أنها لا تفيد فى أى تطور، بل إنها تضاعف من تعقيد المشهد.
ولعل هذا هو ما تنتبه له الدول العربية الكبرى، التى تسعى إلى إعادة بناء تجاربها، والسعى لاتخاذ مواقف يمكنها إقامة فعل عربى وإقليمى، يمكنه التعامل مع الأزمات الناشئة أو المزمنة، والتى تتقاطع وتنتج تأثيرات اقتصادية وسياسية تعرقل خطط التنمية.
وقد شهد الإقليم العربى خلال العقد الماضى تقلبات وتحولات وضعت الدول والكيانات الإقليمية فى اختبارات متعددة ومحيرة ودقيقة تضاف إلى الأزمات الداخلية فى بعض دول الإقليم طوال أكثر من عقد، من عدم الاستقرار.
هناك مساع عربية لبناء مواقف إقليمية تدعم التدخل والحل للقضايا العالقة، وفى القمة العربية الـ32 التى عقدت فى جدة، وقبلها قمة التنمية والأمن أو القمة العربية فى الجزائر، أو القمة العربية الصينية، هناك خطاب عربى يدعم العمل المشترك، ويفرض تصورات عربية أكثر وضوحا، وفى كلمته أمام قمة جدة الأخيرة قال الرئيس عبدالفتاح السيسى «لا يستقيم أن تظل آمال شعوبنا رهينة للفوضى، والتدخلات الخارجية، التى تفاقم من الاضطرابات، وتصيب جهود تسوية الأزمات بالجمود»، معتبرا أن الاعتماد على جهودنا المشتركة، وقدراتنا الذاتية، والتكامل فيما بيننا، لصياغة حلول حاسمة لقضايانا أصبح واجبا ومسؤولية.
وقد فرضت أزمات عربية نفسها على القمة العربية الأخيرة، حيث كانت الأوضاع فى سوريا واليمن وليبيا، ضمن دعوات للدفع بسيناريوهات مسارات سياسية تخرج هذه الدول من نفق الصراع إلى آفاق الحل السياسى، ومثلت عودة سوريا إلى جامعة الدول العربية خطوة تسهل دعم المسارات السياسية، خاصة أن هناك تحولات أخرى فى المواقف العربية، انتهت إلى رغبة فى تجاوز الصدام إلى مسارات وتقاربات، وحتى فى الحرب الأوكرانية سعت الدول العربية لاتخاذ مواقف متوازنة، بعيدا عن الاستقطاب، كما أن الدول العربية نفسها أصبحت تتحرك بحرية أكثر تجاه مصالحها، وظهرت بوادر أخرى فى تقارب سعودى إيرانى بوساطة صينية، مع اتصالات متفاوتة وتحركات تسعى لتقليل الصراعات والتدخل فيها بعيدا من دون انتظار لأطراف خارجية.
ويحرص الرئيس عبدالفتاح السيسى، على تأكيد موقف مصر الداعى لإبعاد التدخلات الخارجية ودعم مسارات سياسية ذاتية فى السودان، وقبلها ليبيا، وسوريا، ويبدو أنه محل اتفاق بدرجة كبيرة، مع اتجاه لتصفية التناقضات.. ومبكرا كانت الدولة المصرية تدفع نحو دعم الاستقرار فى العراق، وهو ما أكده الرئيس فى استقباله للسيد عمار الحكيم رئيس تيار الحكمة العراقى، الذى زار مصر، وأكد بدوره أهمية تصفير الصراعات والمشكلات ودعم مسارات التنوع والتعدد، ودعم التعاون العربى تجاه القضايا المختلفة.
كل هذه المساعى تمثل تحولات تؤكد أهمية وجود نظام عربى وإقليمى قوى، واستعادة القدرة العربية على حفظ التوازن الإقليمى والحفاظ على مصالح شعوب المنطقة، وعدم تركها، انتظارا لأطراف دولية ليس لديها وقت للتدخل والحل، وربما تكون من أسباب التعقيدات.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة