يبدو أن مقولات الحداثة وما بعدها قد نجحت أن تخفى كثيرا من المصطلحات النقدية التى كان النقد الأدبى يحتفى بها كثيرا ويجعلها حجر الزاوية فى تقييم منجز الشاعر وقصائده المتعددة.
ويكاد مصطلح التجربة أن يكون أحد هذه المصطلحات التى خفت بريقها بعد أن كان هذا المصطلح ملء السمع والبصر فى أغلب فترات القرن العشرين منذ أن جعله العقاد رأس الحربة فى هجومه على شعرية شوقى بوازع من أن شوقى كان يكتب شعر المناسبات التى لا تعبر عن تجاربه الشخصية؛ لذلك فهو "شاعر صنعة" لا "شاعر تجربة" وقد رأى العقاد فى تلك الآونة أن التجارب الشخصية العميقة هى التى تميز الشعراء الكبار مستدلا على ذلك الوعى النظرى الذى أصله فى كتاب الديوان وكثير من كتبه النقدية بوعى تطبيقى مواز مرره بأصالة لافتة فى كتابه ابن الرومى حياته من شعره على سبيل المثال.
وبعيدا عن تلك المعركة الأدبية الدسمة بين العقاد وشوقى التى مازلت أصداؤها تتردد حتى الآن فى الكتب الدراسية والمنتديات الأدبية، فإن ما يهمنى فى هذا السياق هو التأكيد على أهمية مفهوم التجربة وضرورة أن يعرف الشعراء أن التجارب الإبداعية الأصيلة -سواء كانت حقيقية عاشها الشاعر فى الواقع أو متخيلة عايشها فى الخيال- هى التى تمنح الشعراء عالمهم الخاص ومذاقهم اللافت -بشرط امتلاك أدوات الصياغة بالطبع- لكن ما يلفت النظر فى الآونة الأخيرة بامتداداته المعاصرة أن أغلب تجارب الشعراء هى تجارب فى "القراءة" أكثر من كونها تجارب فى "الحياة" بعد أن افتقد العالم عنفوانه القديم وانسحب الحس النضالى من المشهد الشعرى بعد أن انسحب -أو كاد- من المشهد العربى لذلك لم يتبق للشاعر فى أغلب الأحيان إلا فضاءات القراءة التى تتيحها مصادر المعرفة المتنوعة؛ مما فتح الباب لأن تدخل الأفكار النظرية فى نسيج التجارب الشعرية.
وصار من المألوف أن نتقبل مفهوم صلاح عبدالصبور للتجربة باعتبارها "كل فكرة عقلية أثرت فى رؤية الإنسان للكون والكائنات، فضلا عن الأحداث المعاينة التى تدفع الإنسان إلى التفكير"، وأضحى من البدهى أن نتفهم قول حجازى : "لقد صارت الأفكار والتصورات تلهمنى بنفس القدر الذى تلهمنى به الخبرات والتجارب العاطفية".
وهذا الأمر لا يبدو غريبا -ولا ينبغي- شريطة أن يتنبه الشعراء فى وقتنا الراهن إلى أهمية حضور البعد الذاتى الذى ينم عن أصالة الشخصية الشعرية باعتبارها -كما كان يقول إليوت عن شكسبير - شخصية، حية، متسقة، متطورة، ذات دلالة.
وإذا كانت ثقافة الشاعر الآن هى التى تقود التجربة الشعرية وتحتويها، بعد أن أمسى الشاعر ابنا "للثقافة" أكثر من كونه ابنا "للفطرة"، فيجب أن ترتبط المؤثرات الثقافية بالمثيرات العاطفية الحياتية التى استدعتها تجربة الشاعر فى عمقها الانفعالى الممتزج بالحواس القادرة على تحويل الفكر التجريدى البارد إلى جسد نابض بدم الحياة وحيويتها الدافقة؛ فجمال الفكر فى الشعر ألا يكون ابنا للعقل وحده بل ابنا للجسد بجميع حواسه.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة