حازم حسين

التدوير والإسناد وغسل الشائعات.. ثورة يونيو وفضح لعبة الإخوان فى الإعلام

الإثنين، 12 يونيو 2023 01:52 م

مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
تحرك الزمن ولم يتحرّك الإخوان. إنها جماعة محكومة بالجمود والفشل، وملعونة بألا تستوعب دروس الماضى أو تُحسن قراءة الحاضر؛ لهذا تمضى إلى حتفها مدفوعةً بتكرار الأخطاء، وبتوهُّم أدوار أكبر من حجمها، والطمع فى مكاسب تفوق قدراتها. ربما بفعل تراخى الدولة معها لثمانية عقودٍ استمرأت لعبة الكر والفر، والكمون ثم الاختراق الناعم؛ حتى أتتها الضربة القاصمة فى عقدها التاسع، وإلى اللحظة تُدمن خداع نفسها قبل الآخرين، وتدّعى الحياة بينما تواصل تعميق قبرها يومًا بعد آخر. الآن تزرع الأكاذيب وتحصدها؛ لتُطعم ما تبقّى من جسدها الهشّ؛ لكنها حتى فى هذا البُعد لا تُحسن صنعًا؛ وتبدو كمن يتقمّص أدوار البطولة والعافية أمام المرآة؛ ثم يخرج إلى الشارع مُثقلاً بالعجز والشيخوخة ومتبوعًا بضحكات الناس وسخريتهم. استنفدت كل الفرص، وغرض الوجود نفسه، وليس من دور لها الآن إلا الكذب من أجل إطعام آخر حيوانات الحظيرة، وسداد أجر المُرتزقة والمُؤلّفة قلوبهم على المصلحة والتمويل.
 
أصبحت الجماعة شراذم من القواعد يكفرون بقادتهم، ودوائر من القادة يتصارعون على جيفة التنظيم وما تبقّى من مغانمه. لم يبق من «الإخوان» عمليًّا إلا قنوات اتصال رخوة بسادتهم فى الأجهزة وجهات التمويل، وحفنة منصّات إعلامية مشبوهة يُمارسون فيها فقرات من «رقص التعرّى» الرخيص لقاء الحد الأدنى ممّا يُبقى الحالة مجزيةً لفرقة الراقصين. يعون جميعًا الآن أنهم لم يعودوا مُقنعين أو مفيدين لمُشغّليهم، ولعل خطوات معدودات تفصلهم عن رصاصة الرحمة؛ لكنهم يواصلون هزّ الذيول والأرداف على أمل أن يعودوا إلى دائرة الاهتمام، ولأنه لم يعد لديهم ما يناورون به سوى الإعلام وطاقة الدعائية والتلاسن، يُغرقون فى الابتذال بكل صور الاختلاق والتشنيع والتسفُّل فى القول والعمل. تراجع إعلام الجماعة كثيرًا، اتساقًا مع حالة الموات التى يعيشها التنظيم نفسه، ولم تعد أدوات الكذب القديمة فعّالة على أى وجه.
 
تعلم ماكينة الإخوان أنها باتت صدئة ولا موثوقية لها؛ لذا تحاول التساند على وسائل وأدوات بديلة لتمرير رسائلها، بصيغٍ تتوهَّم أنها أقل شبهةً من نسبتها إلى التنظيم مُباشرة. سعيًا إلى ذلك تعتمد حزمة تقنيات تشبه عمليات غسل الأموال، بغرض تزييف الخطابات المقصودة، وإعادة تحريرها عبر حلقات متتابعة؛ لإخفاء مصادرها ثم نسبتها إلى عناوين بديلة. تبدأ الدائرة من الجماعة فى صورة شائعة أو قصة مُختلقة ونبأ لا أصل له، يُدفع بها إلى قنوات فرعية تنتمى إليها أو تتعاون معها، ثم يُعاد تلقُّفها منسوبةً إلى تلك القنوات؛ لتبدو كما لو أنها حقيقة ثابتة تستعيرها من الآخرين، ولا يد لها فى إنشائها أو علاقة مع مصدرها. أثر ذلك مضمون مع القواعد التنظيمية، وكان فعّالاً فى خداع المُتابعين العاديين أول الأمر؛ لكنه الآن بات مفضوحًا وعديم الأثر.
 
تتنوّع المداخل إلى تلك الآلية؛ لكن المُحصّلة واحدة. فى البداية كانت شبكة التعاون واسعة وتشمل منصات إعلامية وحقوقية غربية؛ إن عبر الاختراق المُباشر أو تعاون العناصر الكامنة أو من خلال المقالات المدفوعة وأنشطة شركات العلاقات العامة، وفى ذلك لعبت منظمات مثل «آمنيستى وهيومان رايتس ووتش»، ومنصات إعلامية مثل نيويورك تايمز وBBC، أدوارًا مُباشرة لصالح التنظيم، فضلاً عن عناوين تأسَّست خصّيصًا لهذا الغرض، منها: ميدل إيست آى فى لندن، ومجلة ميم التى تُديرها ابنة راشد الغنوشى. مُؤخّرًا تآكلت كثير من تلك القنوات مع جفاف التمويلات، أو تحوّل سياسات بعض الرعاة والداعمين، وبات معتادًا أن يستند إعلاميو التنظيم إلى منصات إخوانية شقيقة، لا تقل عنهم فى مستواها المزرى وأدائها الساذج، مثل شبكة رصد.
 
يحدث أحيانًا أن تُبَث الرسالة المشبوهة من خلال قنوات التنظيم، عبر الإعلام التقليدى أو صفحات «السوشيال ميديا» التابعة، وبعدما تنقلها منصّات أُخرى ليُعاد لاحقًا توظيفها منسوبة إلى المصادر الجديدة كختم ثقة، مع مسارين فى التعامل: إما تجاهل الإشارة إلى تعاطيهم السابق معها، إن كانت رسالة فجّة يفوح منها الاختلاق وغياب المعقولية، أو التذكير بسابقة العرض إن كانت من أمور النميمة التى يصعب نفيها بغرض الإيحاء بالسبق والانفراد، ومحاولة الإيهام بمصداقية المنصّة الإخوانية. فى كل الأحوال يبدو إعلام التنظيم مُعتمدًا على سذاجة القواعد من ناحية، وبالتوازى يُراهن على فلسفة الحشد والمبالغة فى الكذب، على أمل أن تسمح الكثافة والإلحاح فى مرور بعض الادعاءات من مصيدة المنطق، لا سيما مع ظهير رقمى يُواصل إنتاج المواد المصنوعة وترويجها عبر المنصّات الاجتماعية، مُستغلاًّ سيولتها وغياب الفرز والتدقيق فى تعامل قطاعات واسعة من المستخدمين.
 
تبنى الجماعة فى إعلامها سياقًا انتحاليًّا بالكامل، لا هو إعلام من زاوية العرض المُحايد والمُتجرّد، ولا إعلان بمعنى وضوح الرسالة الموجَّهة وجرأة التصريح بأغراضها. الحالة أقرب إلى عرض حُواة غرضه الإيهام؛ حتى مع اليقين المُسبق بأن التعاقد على الخدعة ينقضى بانتهاء الفُرجة، وأن إخراج الأرنب من القبعة لن يصمد إطلاقًا بعدما تسقط القبعات على الأرض وتسحقها الأقدام.. الاستمرار رغم تهافت اللعبة وانعدام تأثيرها، وفشلها فى كل الاختبارات، على مدى سنوات توفّر لها فى أغلبها دعم غير محدود، لا يعنى قناعة المُتفرجين بما يشاهدونه، ولا حتى ثقة مُقدّميه فى فاعلية أدوارهم؛ إنما يتّخذ الأمر بُعدًا يقع فى حيّز التسلية من جانب الجمهور، ولا يتجاوز الوظيفية واستبقاء مصادر التمويل بالنسبة للمُهرّجين ومؤدّى العروض اليومية المضحكة.
 
مفاتيح اللعبة الإخوانية لا تخرج عن أربع تقنيات: التدوير، والإسناد، والإسقاط، وغسل الشائعات. فى الأولى تتمحور الغاية حول تكثيف بث القصص المُختلَقة وتنويع أشكالها ومسارات عرضها، بغرض إكسابها قبولاً إقناعيًّا من زخم التداول وأن الحشود الكثيفة لا تجتمع على خطيئة، وفى الثانية يقوم الرهان على إسناد القصّة لمصدر راسخ يحوز سلطة معنوية بالاسم أو التاريخ واللغة وبلد المنشأ، أمّا «غسل الشائعات» فيضخ المزاعم عبر مقالات أو منشورات رقمية أو وسطاء صحفيين وحقوقيين؛ ثم يينطلق من حصيلة اشتباكهم مع أجزائها ليشكل قاعدة لإعادة بناء الأكذوبة وتوسعة مجالها، وأخيرًا فإن «الإسقاط والتسوية» يبدأ من خبر عادى ويعمل على تحويره، وتجاهل بعض عناصره، ومزج البقيّة بأفكار واختلاقات من نسيج مشابه؛ لصناعة سردية غير صحيحة فى عُمقها لكنها تُدخل الالتباس على المتلقين عبر انطلاقها من أرضية واقعية. تبدو اللعبة مكشوفة؛ لكن الانحياز والتلوين والتوجيه والخطابية الفجة تُعمّق انكشافها، وتُضفى عليها قدرًا عظيمًا من الخفة والرثاثة؛ لا سيّما أن ممارسيها من الهواة وغير الموهوبين ومحدودى القدرة والمهارات.
 
ادعت «الإخوان» فى نشأتها أنها جماعة دعوية، ثم مارست العمل السياسى وصولاً إلى تأسيس حزب بعد 2011. رغم أن الدعوة والسياسة أنشطة تتقاطع مع الإعلام، وتشبهه وتستند إليه، لم يُعرف التنظيم فى أى مراحله بالبراعة الإعلامية، ولم يُنتج صحفيًّا أو مذيعًا لامعًا ومتفوّقًا فى المجال، كما لم يفرز دعاة ولا سياسيين ممّن يصلحون لأن يكونوا فى الصف الأول. نمط التربية الإخوانية وتسلُّط مبدأ السمع والطاعة، مع المركزية الخانقة وهيمنة المرشد ودائرته الضيّقة، حصرت القدرة فى تنشئة قطعان يُعبّئون حظيرة التنظيم بالكمّ لا بالكيف. بدا أثر ذلك واضحًا فى حالة الكوادر البائسة وقتما وصلوا إلى السلطة، فكان «مرسى» ضحلَ الفكر مهزوزًا ومُثيرًا للسخرية، وكذلك فريقه والقائمون على إعلامه. تلك الحالة انتقلت معهم إلى مرحلة الخروج على الدولة لاحقًا، وحتى عندما حاولوا تعويض الفقر فى الكفاءات التنظيمية، لم يتعاون معهم إلا بعض من يشبهونهم فى الجهل والسطحية وغلبة الشعبوية بأسوأ صورها ومعانيها، ممّن وجدوا التعاون فرصةً لمكاسب لا يمكن أن يُحقّقوها فى السياق الطبيعى بقدراتهم المحدودة. هكذا تقابل التنظيم بأحطّ ما فيه، مع أدوات رخيصة يستطيع دفع ثمنها، وهم من جانبهم رأوا أن المدفوع يفوق قيمتهم العادلة فى السوق؛ ومن هنا استمر بؤس الأداء الإخوانى بالخارج كما كان فى الداخل.
 
10 سنوات كاملة منذ إطاحة الجماعة من السلطة والمشهد السياسى. الثابت الوحيد أن الجميع فى مصر مُتّفقون على أنه لا مكان لها فى المعادلة الوطنية الآن أو مُستقبلاً، بينما تتآكل المساحات البديلة بالخارج تحت أقدامها. قد لا يعى عوام المصريين تفاصيل اللعبة الإخوانية فى صناعة الأكاذيب؛ لكنهم يرفضونها ويأخذون موقفًا دائمًا منها بالإهمال والتحقير، ولم تعد المنصّات العديدة والإنفاق الكثيف، ودوائر المُتعاونين من أصحاب قنوات «يوتيوب» ومديرى الصفحات التابعة واللجان الإلكترونية يُحقّقون أثرًا يُكافئ أعباءهم المالية. يتّجه المشهد إلى مزيد من التقلُّص والانحسار، وباتت حالة الكذب أكثر افتضاحًا إلى درجة أنها لم تعد مُقنعة للقواعد التنظيمية نفسها. فشلت التقنيات المُعتمدة، ولا يملك المنخرطون فيها بديلاً قادرًا على إعادة إنتاج «الدعائية الإخوانية» فى هيئة جديدة، بينما ينفضّ عنهم الداعمون. الآن مع احتفال ثورة 30 يونيو بعيدها العاشر، يتأكّد صدق انحيازها ضد الفاشية الدينية وغباء جماعة حسن البنا، وتواصل الأخيرة رحلتها بإيقاع مُتسارع نحو الموت السريرى.
 
آلاف المقالات والتقارير المُوجّهة، وملايين من المواد البصرية وساعات البث ومنشورات مواقع التواصل، صُنعت كلها بآليات التدوير والإسناد وغسل الشائعات، وذهبت جميعًا إلى أرشيف واحد عنوانه: الكذب والاختلاق وانعدام الاحترافية والضمير. كان البديل عن «30 يونيو» أن تُنتَج كل هذه الأكاذيب فى الداخل، وأن تستثمر الجماعة وجودها فى السلطة ودوائر مصالحها من أجل تمريرها ورواجها، واستخدامها فى تعميق الفتنة والانقسام المجتمعى. مشهد الجماعة بالخارج دليل مُضاعف على أهمية الثورة الشعبية فى 2013، وإشارة لا يمكن تجاهلها لحجم المخاطر التى كان يمكن أن نواجهها لو بقى الإخوان يومًا إضافيًّا فى الحُكم. إنهم لا يجيدون إلا الكذب، ولا يتورّعون عن اللجوء لكل الأدوات المُتاحة فى سبيل تحقيق غاياتهم، وإذا كان سلوكهم الإعلامى الوضيع يفضحهم الآن؛ فإن ذلك لم يكن مُمكنًا إطلاقًا لولا اليوم العظيم والمشهود ضدهم فى 30 يونيو.






مشاركة






الرجوع الى أعلى الصفحة