حازم حسين

ضرورة 30 يونيو.. جذور الثورة وجناية السياسة ومسؤولية الفوز بـ«فارق الأهداف»

الإثنين، 19 يونيو 2023 01:49 م

مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
كانت مصر ترسم ملامح مرحلة مُغايرة من تاريخها الحديث. نجحت ثورة 1919 فى إحراز مكاسب وطنية ملموسة، أفضت إلى تصريح 28 فبراير بإنهاء الحماية البريطانية وإعلان الاستقلال، ثم صياغة دستور 1923 الطموح، وبدء رحلة مع الحكومات الصاعدة على أكتاف القبول الشعبى. فى المقابل لم تكن تلك التغيُّرات الاضطرارية مقبولةً من سلطة الاحتلال، ولا من القصر، ولم يكن مُتوقَّعًا أن تُترك الأمور لتفاعلات السياسة والشارع ضمن سياقٍ يتحسَّس مصريّته الخالصة، ربما لأول مرة منذ قرون. فى خضم تلك الحالة برزت خطابات أصولية عدة، كانت ذروتها مع تأسيس جماعة الإخوان بالعام 1928، وبالنظر إلى الدعم الذى حظيت به من شركة قناة السويس وقادتها الأوروبيين، ومن ضبّاط الإنجليز أنفسهم، قد لا يكون التأسيس بريئًا من خطط ضرب الحالة الوطنية الناشئة؛ لا سيّما أن التنظيم انحاز للتبعية فى مواجهة الاستقلال، انطلاقًا من مناصرته فكرة الخلافة، ومن أُطروحة مُؤسِّسه البديلة تحت عنوان «أُستاذية العالم». هكذا يمكن القول إن حركة الإخوان كانت مِعولاً مقصودًا وقتها لضرب الهويّة والسياسة.
 
كأن التاريخ يعيد نفسه. بعيدًا من حقيقة ما جرى فى يناير 2011؛ فإن المصريين فى الأخير وجدوا أنفسهم أمام حالة صالحة للتوافق وشقّ مسار جديد فى السياسة والسلطة، وكالعادة لم تُخلف جماعة الإخوان التوقُّعات. منذ اللحظة الأولى عمل التنظيم على ضرب مناخ التفاهم، وتعميق الفجوات واستثمارها فى تمهيد طريقه نحو الحُكم؛ فتلاعب بحُلفائه فى تعديلات الدستور خلال مارس 2011، ثم فى انتخابات البرلمان والجمعية التأسيسية وسباق الرئاسة، لينتهى المشهد مع انتصاف العام التالى بهيمنة إخوانية، واستئثار بالسلطة، ومحاولات خشنة لإزاحة الجميع، وبدء مُخطّط لأخونة فضاء الدولة وأبنيتها، وفى سبيل ذلك لم يخلُ الأمر من ممارسة العنف الجسدى المُباشر، كما حدث فى الاتحادية والمقطم وكثير من المحافظات، أو البلطجة بالقانون كما فى الإعلان الدستورى وتحصين التأسيسية، أو البلطجة الصريحة كحصار المحكمة الدستورية. وقت التأسيس سعى حسن البنا إلى ضرب الحركة الوطنية، وبعد ثمانية عقود عمل ورثته على ضرب الوطن بكامله.
كان موقف القوى السياسية من الجماعة غريبًا وغير مفهوم. تحالف فريق من القوميين والليبراليين معها فى انتخابات 2011، ودعمتها وجوه من كل التيارات فى «مؤتمر فيرمونت» المشبوه خلال 2012، وارتضى آخرون الانخراط فى فريق «مرسى» الرئاسى مع علمهم بأنه لا صلاحيات لهم، ولا هو نفسه رئيس كامل الأهلية بالمعنى والممارسة. بدأ الخطأ من عدم قراءة تاريخ الجماعة، أو تجاهل العالمين به لمحطّاته السوداء وتغليب حُسن النيّة على الحقائق القاطعة. ربما نجح الإخوان فى مُمارسة عملية غسيل سُمعة إعلامية وخداع أهل السياسة بخطابات التقيّة والمناورة؛ لكنه نجاح يُحسب على الآخرين ولا يدل على ذكاء التنظيم؛ إذ كانت الذاكرة القريبة تحتفظ بمشاهد مزعجة فى تحالفات الانتخابات خلال الثمانينيات، واختراق حزب العمل، والمُغالبة داخل النقابات، والتوحُّش فى الجامعات والاتحادات الطلابية، ولم يكن الخطاب الإعلامى للجماعة بعد 2011 مُقنعًا بالمرّة؛ إنما كان لُعبةً واضحة بالنظر إلى التناقض الحاضر دائمًا بين رسائل الجماعة وسلوكها، ليس مع «البنا» فقط، بل مع مُرشد ادّعى الرزانة مثل حسن الهضيبى، ثم ثبت لاحقًا أنه كان يُشرف على خطط عنف وإرهاب، فما بالك بمرحلة قطبية صريحة قادها مهدى عاكف ومن بعده محمد بديع.
 
ألاعيب الجماعة الباهتة فى الإعلام مارستها من قبل فى السياسة. قال «البنا» فى رسالة المؤتمر الخامس: «الإخوان لا يُضمرون لحزب من الأحزاب أيًّا كان خصومة»؛ لكنه دعا إلى حلّها وهاجم رموزها، ثم تقلّب فى تحالفاته عبر مراحل: على ماهر، وإسماعيل صدقى، وأحزاب الأقليات، و«الوفد» نفسه خلال وجوده فى السلطة. فى مقابل ذلك عندما تظاهر المصريون هاتفين: «الشعب مع النحاس» دفع قواعده للخروج أمام قصر عابدين بهتاف: «الله مع الملك»، حسبما أوردت صحيفتا الأهرام والبلاغ فى ديسمبر 1937. كان النحاس يرى أن دخولهم إلى السياسة مُؤامرة، وصرّح فى خطاب بالعام 1938 بأن ممارساتهم كانت «حجر عثرة فى سبيل إلغاء الامتيازات الأجنبية». لا يختلف هذا التصوُّر عن عمل الإخوان حاليًا من خلال دول وأجهزة إقليمية، وخدمتهم لها، كما لم تختلف تحالفاتهم القديمة عن خداعهم للوفد والعمل والناصريين فى 1984 و1987 و2011. كان التناقض دائمًا سيد الموقف، والكذب عماد التجربة، ولم تنتج الجماعة خطابًا صادقًا فى تاريخها، بل لم تحترم أكاذيبها، كما رفضت الحزبية وحاربتها، ثم أسَّست حزبًا عندما تيسّر لها. وكما وقفت على طرف نقيض من اشتراكية حزب الأحرار لكنها استأجرت منه صحيفة «آفاق عربية»، وتخفّت تحت لافتته لترويج أفكارها. يصعب أن تجد محطة إخوانية واحدة ينسجم فيها الخطاب والشعارات مع الممارسة العملية.
 
عبرت الجماعة تعقيدات مشهد يناير بفضل رخاوة خصومها السياسيين؛ لكنهم حينما استفاقوا أخيرًا كانت المعركة أشرس والفاتورة أكثر كُلفة. اكتشف الجميع أن الإخوان لا يسعون إلى التوافق كما ادّعوا؛ بل لا يرون الآخرين أصلاً ولا يعتبرون أن لهم وزنًا مُؤثّرًا أو حقًّا فى الوجود والشراكة. تتابعت المشاهد منذ إعلان فوز مرسى لترسم ملامح مزعجة لمرحلةٍ يُريد التنظيم أن تكون طويلة، بدءًا من حشد القواعد فى ميدان التحرير واستباق اليمين الدستورية للرئيس بمشهد شعبوى فجّ، ثم قرار إعادة مجلس الشعب المُنحلّ، واستقبال قادة ميليشيات إقليمية ضمن مُخطّط لتأسيس حرس ثورى، وانكشاف علاقتهم بجماعات الإرهاب كما فى واقعة «سلامة الخاطفين والمخطوفين»، وبينهما الإعلان الدستورى وإطاحة النائب العام وطبخ دستور مشبوه وتمريره على عجل. كانت كل المواقف على مدى الشهور التالية لوصولهم إلى السلطة تقطع باستحالة التعايش الهادئ بين المجتمع والإخوان، واستحالة إدارة الصراع معهم فى حيِّز السياسة ومنطقها وأعرافها، ومن هنا كان اتخاذ موقف جذرى رافض للتنظيم ضرورةً أفرزنها الظروف، وفرضها الإخوان أنفسهم على الحلفاء قبل الخصوم.
 
من غير الممكن حصر الأمر فى عجزهم عن استيعاب المشهد، والتموضع ضمن مكوناته بتوازنٍ وعقلانية؛ إذ لم يكن ذلك ضمن خياراتهم المطروحة أصلاً. تعاملت الجماعة مع الارتباك الحادث بعد يناير من زاوية أنه فرصة للتقدُّم بانتزاع المساحات وتحصيل المكاسب، وأنه ظرفٌ مواتٍ لتعويض إخفاقات تجاربها ثمانية عقود فى انتظار التمكين. بعد التأسيس قال حسن البنا إنهم لن يسعوا إلى السلطة بل هى التى ستسعى إليهم، ولمّا لم تتحقّق أوهامه قرّر ورثته أن يختطفوها بكل السُّبل، المُمكنة وغير المُمكنة. الخطأ الأكبر أن الجماعة قرأت حالة 2011 من داخل أيديولوجيتها وتاريخها الضيِّقين، من دون انفتاح حقيقى على السياق المُحتشد بخلطة مفاهيم وتوازنات وتعقيدات مُغايرة لكل ما تعوّدت عليه. تلك القراءة ورّطتها فى الاختزال، ومنعتها من رؤية مدى الاختلافات العريض بين الحالتين: لم يعد الصراع السياسى فى فضاء محكوم بتجاذبات القصر والاحتلال، وليست الطبقة السياسية فاعلَه الرئيسى وسط شارع ثائر وموّار بكل الطبقات، ومؤسَّسات الدولة الصلبة لم تعد هامشًا على أطراف الحالة الوطنية ومنظومة الإدارة. توهَّم الإخوان أنهم يتقدّمون الساحة ما بعد «ثورة 19»، أو فى أفضل الظروف أطاحوا الضباط الأحرار بعد يوليو 1952؛ ليستفيقوا مُتأخرين على حقيقة أنهم حاولوا إدارة مشهد 2012 و2013 بعقلية «البنا» وانتقالاته العشوائية المُضحكة بين الأحزاب والإنجليز ويوسف رشاد وكريم ثابت والقصر.
 
لم تكن العقبة الوحيدة أن الإخوان جماعة غير مُؤهّلة لحياة طبيعية، انطلاقًا من أنها كانت مدفوعةً منذ التأسيس بالمناورة وأساليب الخداع والاحتيال؛ لكن أنها ما تزال تُدمن البقاء فى ماضيها، ولا تملك القدرة أو الرغبة فى التطوُّر. لم يكن مُقنعًا أن يخوض المجتمع لعبة سياسية مع فصيل لا يؤمن بالسياسة؛ إلا من ناحية أنها أداة لنفى الآخر، ولم يكن مُمكنًا أن يمتدّ الصبر حتى تُحكم قبضتها على عنق الدولة وتمنع عنها الهواء وفرصة البقاء مجالاً مفتوحًا بأى نسبة. رغم إحسان الظن، أو التعامى المقصود أحيانًا، وجدت القوى السياسية نفسها أمام سؤال وجودى: هل نفضّ عقد الإذعان المفروض قهرًا أم نصمت ونتحمّل المسؤولية أمام التاريخ؟ المؤسف أن بعضهم ربما لم يحسموا مواقفهم، ولولا مبادرة الشباب مع «حركة تمرّد»، ودور المؤسَّسات فى لَجم شطحات الجماعة وتلويحها بالعنف؛ ربما لم يكن مُتاحًا الخروج من المأزق الذى رسمته «الإخوان» وساعدت عليه رُعونة بعض التيّارات والأحزاب.
 
ما فعلته «30 يونيو» أنها وضعت الجماعة الرجعية أمام المشهد الراهن بوضوح، من دون مواربة أو تواطؤ، ووضعت قوى السياسة أمام مسؤوليات عملية لم يعد بمقدورها التقاعس عنها. وفق التسلسل وقتها تُرك الإخوان أمام خيارات موضوعية تتوافق مع رغبات الشارع؛ لكنهم رفضوها، بعدها شملتهم الدعوة ضمن بقية التيارات للقاء 3 يوليو مع وزير الدفاع واختاروا الغياب؛ ثم أعلنوا الحرب على الجميع من اعتصامى «رابعة والنهضة»، وما تلا ذلك من إرهاب مفتوح على امتداد مصر، ولعدّة سنوات تالية. عدم قبولهم لفكرة الخسارة استجابةً للإرادة الشعبية ينفى أى احتمال لاحق لخروجهم من المشهد حتى لو أقرّته الصناديق. الملايين التى ملأت الشوارع كانت جمعيّة عمومية مفتوحة للمصريين، ومن يرفض الإذعان لرغبتها لا يمكن قراءة أى خطاب ديمقراطى له إلا من باب «ديمقراطية المرة الواحدة»، على طريقة على بلحاج وجبهة الإنقاذ الجزائرية، وأن الانتخابات سُلّم يصعدون عليه ثم يُطيحونه أرضًا.
 
كان صعود الإخوان إلى السلطة خطأً تتحمّل القوى السياسية الفاعلة وقتها حصّته الأكبر، وكان فجوةً فى التتابع المنطقى لحلقات التاريخ الوطنى الحديث، لعلّها أخذت شكل الضرورة الظرفية؛ حتى نُغلق باب السياسة فى وجه الرجعية الدينية مُستقبلاً. من هذا التصوُّر تكتسب «30 يونيو» مستويين من الدلالة والأثر: أوّلاً أنها كانت جَبرًا لعَوار الممارسة السياسية التى سمحت بصعود تيّار يكره السياسة وأهلها، وثانيًا والأهم أنها صحّحت المسار بأثر رجعى، وداوت قدرًا من الاختلالات التى أحدثتها الجماعة فى الهويّة والبنية الاجتماعية منذ بروزها. يُخطئ من يحصر مشهد الثورة فى الخلاص من الإخوان سياسيًّا أو تنظيميًّا فقط؛ إذ تمتد آثاره إلى فضح مُمارسات التيار بالكامل، وتذويب شعاراتية الخطابات الدينية لصالح رؤى أكثر عُمقًا لمسائل السياسة والإدارة، وفرز المواقف على أرضية وطنية بصيرة تُفرّق بين مَن يرى الوطن غاية ومن يتّخذه وسيلةً لغايات أخرى، فضلاً عن إسناد قوى الحداثة والتنوير والاستقلال فى الإقليم كلّه ضد تغوّل المُتطرّفين انطلاقًا من أثر نجاح مشروعهم فى مصر. أنجزت الثورة هدفها الوطنى الكبير بنجاح، وأعادت الكرة إلى بقيّة اللاعبين السياسيين؛ ليؤكدوا الانتصار على الأصولية المُتطرفة وغير الوطنية بفارق الأهداف: ترقية الخطاب والسلوك والانحيازات، وتوسعة القواعد وتحصين الجبهات، والإقلاع عن لعبة التحالفات المشبوهة وتوفير المطايا السهلة. وما تزال المسؤولية مُعلّقة فى رقبة «تحالف 30 يونيو» كاملاً.






مشاركة






الرجوع الى أعلى الصفحة