حازم حسين

قصة «حصان طروادة» الإخوانى.. 30 يونيو وإنهاء مخطط التدويل وقسمة البلد نصفين

الأربعاء، 21 يونيو 2023 10:34 ص

مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
لم يعد مشهد 30 يونيو عصيًّا على الفهم واستخلاص الدروس. قطعنا شوطًا بعيدًا فى الوقت والتجربة وثبوت الوقائع؛ حتى أصبح مُمكنًا النظر من بعيدٍ بتجرُّد وموضوعية، وانفصالٍ عاقل عن اللحظة ومقتضياتها. ما يبدو للباحث الآن فى تفاصيل المسألة الوطنية عند منتصف 2013 وما قبله؛ أننا لم نكن إزاء شجارٍ سياسى فجّره سياق الارتباك وتفاوت الرؤى بعد يناير، أو اختلاف المفاهيم حول فكرة الدولة وموضع كل طرفٍ منها؛ إنما كانت الحالة بكاملها صراعًا وجوديًّا بين السياسة والبلطجة، والتوافق وفرض الإرادة، وبين الدولة ومنطق العصابة. من دون «30 يونيو» كنّا سنذهب جميعًا إلى المجهول؛ وإن بدت بعض ملامحه فى مساعى إلحاق المؤسَّسات بهياكل الجماعة الرجعيّة، ورهن الإرادة الوطنية لطموح «الأستاذية» التنظيمى، وفكّ استقلالية مصر وإعادة تركيبها ترسًا ضمن ماكينة إسلاموية صدئة، لديها رغبة فى قضم الجغرافيا والتاريخ، لصالح بناء منظومة إقليمية جديدة، آخر اهتماماتها الإقليم نفسه.
 
كان واضحًا أن الجماعة تتحرّك فى إطار رؤى خارجية، وتحاول الاستثمار فيها. خلال الشهور الثلاثة التالية لإطاحة «مرسى» زارت كاترين أشتون، ممثل السياسة الخارجية والأمنية للاتحاد الأوروبى وقتها، القاهرة ثلاث مرات: التقت فيها جميعًا عناصر إخوانية، وفى الثانية شملت الرئيس المعزول. بالتوازى لم تنقطع لقاءات قيادات التنظيم مع السفيرة الأمريكية آن باترسون، التى لعبت أدوارًا سافرة لصالح الإخوان منذ شغل موقعها فى أغسطس 2011 وطوال سنتين. حاولت المواقف الخارجية تغييب الغضب الشعبى لصالح اختزال المشهد فى كونه صراعًا بين المؤسَّسات الدستورية، واستهلكت أحاديث عن التوافق وتهيئة الأجواء لشراكة مفتوحة بين كل الأطراف، بينما كانت تُطبَخ مُحاولةٌ مشبوهة لشرخ الدولة، تمهيدًا لتدويل حالة 30 يونيو من ناحية أنها انقسام لا ثورة، وتشابك نظامين وليس مواجهة بين نظام تنتجه الإرادة الشعبية، فى مقابل خروج عنيف على المجتمع بكامله.
 
ما يُعزّز التصور السابق أن الجماعة، وبعد لقاءات أشتون وباترسون واتصالات مع غيرهما من جهات أخرى، أعلنت عن تأسيس برلمان موازٍ فى اعتصام رابعة. كانت الخطّة على الأرجح تسير وفق تدرُّج يقضى باستمرار الإعلان عن مؤسَّسات بديلة، لحين استكمال الهيكل وتشكيل حكومة يتبعه اعتراف من بعض الدول؛ لتتحقّق غاية التدويل على قاعدة التنازع بين سُلطتين. ما سبق ليس خيالاً أو تعسُّفًا فى القراءة؛ إنما سيناريو مُخطّطًا تتوافر شواهد دالّة عليه، وتردَّد فى شهادات مُقرّبين من التنظيم أو وسطاء ممّن حاولوا إقناعه بفض الاعتصام والرضوخ لرغبة الشارع. لاحقًا حاولت القيادات الهاربة استنساخ المسار نفسه، وأسَّسوا برلمانًا ومجالس ثورية وروابط وتجمُّعات عديدة بالخارج، سريعًا ما فشلت وتفكّكت أو اختفى أثرها تحت وقع الانقسامات الحادة وصراعات المصالح والتمويل. ما كان باديًا فى «رابعة» سياسيًّا، وما رافقه من رفع منسوب الشحن والتسليح، وسرقة عربات البثّ المباشر، والاعتداء على أهالى المنطقة واستباحة بيوتهم، فرضت كلها التحرُّك لتفكيك تلك البؤرة السوداء، وهو ما كان إيذانًا بإنهاء محاولات الإيحاء بالانقسام، وإغلاق الباب نهائيًّا أمام خُطط التدويل والاستقواء بالخارج.
 
لم يكن الاعتصام فى عمق معناه ردًّا على «تمرّد»، أو حشدًا مُضادًّا لمشهد التحرير وميادين المحافظات؛ إنما كان تلويحًا بالقوّة واستعراض عضلات؛ لردع المؤسَّسات فى الأساس. دلالة ذلك أن تحرّكات المُعتصمين العنيفة استهدفت هياكل الدولة قبل الأفراد، سواء فى سرقة سيارات التليفزيون والمواجهة الخشنة مع الشرطة، أو أحداث الحرس الجمهورى والمنصّة وغيرها. ما تفرع عن ذلك من عنفٍ واسع المدى فى المحافظات كان رسالةً للدولة أيضًا على جُثث المواطنين وممتلكاتهم؛ والغرض أن يسرى إيحاء بالانقسام الحاد وعجز السلطة، وأن يُقرأ منسوب العنف المرتفع إشارةً إلى تجذّر الغضب وقسمة القوّة على معسكرين. التصدّى للانفلات كان التزامًا ضروريًّا لتأمين الناس وعصمة دمائهم؛ لكنه قبل ذلك كان دفاعًا عن منطق الدولة وإمكانات بقائها، وإغلاقًا لدفتر قديم، لم تبدأ حكاياته المُزعجة فى تقاطع رابعة أو فى نهضة مصر، ولا فى ميدانى العباسية ورمسيس قبل ذلك وبعده، إنما بدأت على صورةٍ مُغايرة قبل أحداث 2011 نفسها.
 
ربما تعود جذور الحالة إلى البرلمان الشعبى الذى تأسس بعد استحقاق 2010. كان مدخل المشروعية المُعلن ما أحاط بالانتخابات من شبهات تزوير، وهو أمرٌ لسنا فى وارد نقاشه، وإن كنّا لا ننفيه؛ إنما ما انبنى عليه هو المهم، لناحية تحوير الخطوة من كونها ردًّا على ممارسات سياسية وتغوّل حزبى، لتصبح تنازعًا فى سلطات الدولة ومحاولة لخصخصة مهام المؤسَّسات الدستورية؛ لخدمة أدوار وطموحات حزبية.. الخطوة المقصودة ما عُرف بعد يناير 2011 من «وفود الدبلوماسية الشعبية» التى زارت إثيوبيا وغيرها، وكانت ركيزتها البرلمان المُوازى وقسيمها المشترك جماعة الإخوان، التى اعتمدت هذا المسار وطوّرته لاحقًا ليكون أداة ضمن مشروع اختصام الدولة وتقويضها. قرار «مرسى» بإعادة مجلس الشعب المُنحل دستوريًّا، وإعلانه الباطل بالنصّ والمنطق، وتحصين مجلس الشورى وتأسيسية الدستور، وفى قلب ذلك تسليم صلاحياته عمليًّا لمكتب الإرشاد، واستدعاء قتلة السادات فى حفل أكتوبر، واجتماع سد النهضة الفضيحة، وغوغائية مؤتمر نُصرة سوريا، كلها وإن جرت فى بيئة مؤسَّسية؛ إلا أنها كانت فى جوهرها محاولات لتفكيك التراكب المؤسَّسى، وتصفية الدولة فى كؤوس بديلة. من تلك النقطة يمكن قراءة التواصل مع «الظواهرى» ومجموعته، وإخراج الإرهابيين من السجون، وبحث إنشاء حرس ثورى وجيش بديل بمعاونة أطراف خارجية، باعتبارها خطوات نحو بناء القوّة الخشنة ضمن مشروع الدولة المُوازية؛ وعليه فإن الصدام كان حتميًّا بـ30 يونيو ومن دونها.
 
لم يكن لدى الدولة، وبالمعنى المُباشر المؤسَّسة العسكرية، رغبة خاصة فى إطاحة الإخوان. احترم المجلس العسكرى المسار الدستورى بعد يناير 2011؛ حتى أنه تعرّض للهجوم وإساءة الظن من الشباب وقوى الثورة والسياسة، واحترم الإرادة الشعبية المُمثّلة فى مشهد 30 يونيو مُتحمّلاً تشويه الإخوان بالداخل وانتقادات داعميهم من الخارج. تُثبت الوقائع أن الجيش ووزير الدفاع وقتها، الفريق أول عبد الفتاح السيسى، لعبوًا أدوارًا صادقة لجهة تقريب الرؤى ودفع الإخوان نحو التوافق واحترام الشارع، وتكرَّرت المُهل الزمنية وتعدّدت اللقاءات، وحدث اتّفاق كان مُنتظرًا أن يُعلنه «مرسى» فى آخر خطاباته العلنية قبل موعد التظاهر، إلا أنه رجع عنه كالعادة التزامًا بأوامر المرشد والشاطر. الشهادات المُوثّقة من أطراف اجتماع 3 يوليو أن السيسى اقترح الذهاب إلى استفتاء شعبى، واللواء العصّار رحمه الله هاتف الكتاتنى مرّتين للحضور لكنه رفض؛ فتُرك مقعده فارغًا، لكن البرادعى وشباب تمرّد وبقيّة الحضور كانوا مع إنفاذ إرادة الناس مُباشرةً، باعتبار أن الاستفتاء تحقّق عمليًّا فى الشوارع والميادين. هكذا لا يمكن النظر إلى المؤسَّسات الوطنية بوصفها طرفًا؛ إلا من زاوية أنها أمّنت مشهد الإجماع وضمنت التكافؤ وتوازن القوى، ومن دون هذا الحضور كان مُرشّحًا أن تسعى الجماعة لإجبار خصومها على توقيع عقود إذعان، بالعنف وقوة الأمر الواقع، وهو ما لم يكن مقبولاً، فضلاً عن أنه لا يخرج عن منطق تسييل الدولة وإلغائها أيضًا.
 
 
لم تكن الديمقراطية مطلبًا إخوانيًّا فى أيّة لحظة من تاريخهم. قامت الجماعة على ركائز شمولية، تمنح نُخَب التنظيم كل أدوات الهيمنة مقابل قواعد مُنسحقة، وقبلوا الملك وحلّ حكومات الوفد المُنتخبة بحثًا عن رضا القصر أو تساهله مع أدوارهم الحركية، ولم يختلفوا مع رجال ثورة يوليو فى أى شىء إلا حصتهم التى كانوا يبالغون فيها من السلطة. انتفضوا ضد برلمان 2010 لكنهم هلّلوا لنسخة 2005 لأنهم حازوا فيها 88 مقعدًا. من هذا المنطلق اعتبروا صناديق الرئاسة «قميص عثمان» الذى يُمكن أن يرفعوه فى وجوه الجميع بصلاحية أبدية؛ حتى تحقيق كامل أغراضهم، بينما سقطت شرعية القبول الشعبى منذ أسابيع «مرسى» الأولى فى الاتحادية، وبُرهن على السقوط بحشدٍ غير مسبوق فى شوارع 30 يونيو؛ لكنهم رفعوا لافتة «الشرعية» فى مواجهة أصحاب الأصوات والحقّ الفعليين؛ ليس إيمانًا بمنطق المشروعية الشعبية، بقدر توظيفها ضد الشعب نفسه؛ إذ لو كانوا يؤمنون بها فعلاً لنزلوا على إرادة الناس وقرارهم الواضح. هذا التناقض كان وراء استباق تظاهرات «تمرّد» باعتصام رابعة من يوم 21 يونيو؛ سعيًا إلى ردع المؤسَّسات معنويًّا ودفعها إلى الحياد، وبهذا فإنهم لم يضعوا أنفسهم فى مواجهة الشارع، إنما أرادوا أن يكونوا ندًّا للدولة وبديلاً مُتغطرسًا عن أدواتها السياسية والتوافقية؛ إن بإجبارها على تجاهل إرادة الملايين، أو بدفعها للصدام؛ لغرض تسويق المشهد كأنه نزاع على السلطة.
 
ما حدث فى مشروعات الإخوان وبقيّة أطياف الإسلام السياسى، فى 2011 أو الموجة الجزئية الثانية فى 2019، أنه جرى وضع صيغة الدولة الوطنية فى مواجهة خصومات طرفية تُنازعها السلطة والقوة وأمور الاستراتيجية والمصالح العليا. جرى الأمر بخشونة فى ليبيا وسوريا، وبصورٍ أقل حدّة فى العراق ولبنان واليمن والسودان وتونس. ليست مُصادفةً أن مصر البلد الوحيد حتى الآن الذى أفلت تمامًا من خناق المصيدة البغيضة. يعود الفضل فى جانب كبير إلى حصانة الجبهة الداخلية، إذ رغم اختراق خطابات الأصولية والنزعة المحافظة لبنية الاجتماع؛ فإنها لم تفلح فى المساس بفكرة الدولة وسموّ ركائزها الصلبة فى نفوس الناس، لا سيّما المؤسَّسة العسكرية التى يُنسب إليها قدر مُهمّ من النجاح. إن كانت 2011 بدأت وطنية خالصة على أكتاف الشباب وطموحاتهم؛ فلم يمر وقت طويل قبل أن يدخل على الخطّ أطراف وأجندات مُعلنة ومُضمرة، وعرفنا لاحقًا أن وجوهًا سياسية وأمنية خارجية تجوّلوا فى شوارع الثورة، ونظّموا لقاءات وجولات نقاش وزيارات مُتبادلة مع تيّارات مصرية. نجحت الخطط فى ساحات مُحيطة وفشلت فى مصر، والمُتغيّر الوحيد الذى لم يحسب الإخوان ومُشغّلوهم حسابه يخص الجيش، وبنيته المنضبطة ووضعه الراسخ فى الوعى الجمعى، فضلاً عن تقاليده العريقة وكونه أحد أضلاع التجربة الوطنية منذ مشروع محمد على، وظل فى القلب من كل التحوّلات وموجات التحرُّر والاستقلال. ربما لهذا كان ضمن خطط الجماعة أن تستبدل به ميليشيا تابعة للتنظيم، وأنفقت مع حلفائها كثيرًا من الجهد والمال والحملات الموجهة لاستهدافه بين يناير 2011 ويونيو 2013، وأخفقت لأنها لم تستوعب طبيعة المؤسَّسة ولا علاقتها بالظهير الشعبى، وهو رافدها الأساسى بعيدًا من أية اعتبارات عرقية أو مذهبية كما فى دول أخرى.
 
إن ما جرى من الجماعة لم يكن صراعًا سياسيًّا صافيًا، وما حدث فى «رابعة» وبعدها لم يكن انحرافًا طارئا عن الوطنية وصواب الممارسة الناضجة؛ إنما كان معركةً مُتقدّمة ضمن برنامج شامل لتقويض الدولة، من حيث هى فكرة جامعة وتراتبٌ مُؤسَّسى، وإدارة للتناقضات بأقل قدرٍ من الخشونة وأقصى فرصة للفاعلية. صعد الإخوان إلى السلطة حتى يقطعوا الطريق على الآخرين للأبد، أو هكذا توهّموا، ولم نكن سننتظر طويلاً قبل أن يُعلنوا مصادرة المجال العام، وتشييع الديمقراطية المزعومة إلى مثواها الأخير، وحينما توقّف المسار فجأة ذهبت عقولهم، وقادهم الجنون إلى إشهار السلاح البديل؛ سعيًا لإنفاذ مُخطّط البقاء الأبدى بالدم والنار. أنقذت الثورة الدولة من خطرٍ وجودى داهم، ليست خلاصته أن عدوًّا لها اعتلى عرش السلطة شاهرًا السلاح فى وجوه الجميع؛ لكن أنه استخدم أدوات إدارتها «حصان طروادة» حتى يأكلها من داخلها. إن مصر التى نجت فى «30 يونيو» ستظل مدينةً لهذا اليوم عقودًا؛ حتى لو تناست بعض قواها السياسية، أو قرّرت أن تلتهم ذاكرتها القريبة عنادًا ومُكايدة.






مشاركة






الرجوع الى أعلى الصفحة